Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 14, Ayat: 42-46)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . وهو تعريض لأمته ، فكأنه قال ولا تحسب أمتك يا محمد ، ويجوز أن يكون خطاباً لكل من يصلح له من المكلفين ، وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم من غير تعريض لأمته ، فمعناه التثبيت على ما كان عليه من عدم الحسبان كقوله { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } الأنعام 14 ونحوه . وقيل المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم ، أو يكون المراد بالنهي عن الحسبان الإيذان بأنه عالم بذلك لا تخفى عليه منه خافية ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام للمشركين بأن تأخير العذاب عنهم ليس للرضا بأفعالهم ، بل سنّة الله سبحانه في إمهال العصاة { إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأبْصَـٰرُ } أي يؤخر جزاءهم ، ولا يؤاخذهم بظلمهم . وهذه الجملة تعليل للنهي السابق . وقرأ الحسن والسلمي وهو رواية عن أبي عمرو بالنون في " نؤخرهم " . وقرأ الباقون بالتحتية . واختارها أبو عبيد ، وأبو حاتم لقوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ } ومعنى { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَـٰرُ } أي ترفع فيه أبصار أهل الموقف ، ولا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم ، هكذا قال الفراء ، يقال شخص الرجل بصره ، وشخص البصر نفسه إلى السماء من هول ما يرى ، والمراد أن الأبصار بقيت مفتوحة لا تتحرّك من شدة الحيرة والدهشة . { مُهْطِعِينَ } أي مسرعين من أهطع يهطع إهطاعاً إذا أسرع . وقيل المهطع الذي ينظر في ذلّ وخشوع ، ومنه @ بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع @@ وقيل المهطع الذي يديم النظر . قال أبو عبيدة قد يكون الوجهان جميعاً ، يعني الإسراع مع إدامة النظر وقيل المهطع الذي لا يرفع رأسه . وقال ثعلب المهطع الذي ينظر في ذلّ وخضوع . وقيل هو الساكت . قال النحاس والمعروف في اللغة أهطع إذا أسرع { مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ } أي رافعي رؤوسهم ، وإقناع الرأس رفعه ، وأقنع صوته إذا رفعه ، والمعنى أنهم يومئذٍ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذلّ ، ولا ينظر بعضهم إلى بعض . وقيل إن إقناع الرأس نكسه وقيل يقال أقنع إذا رفع رأسه ، وأقنع إذا طأطأ ذلة وخضوعاً ، والآية محتملة للوجهين . قال المبرد والقول الأوّل أعرف في اللغة . قال الشاعر @ أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنما أبصر شيئاً أطمعا @@ { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي لا ترجع إليهم أبصارهم ، وأصل الطرف تحريك الأجفان ، وسميت العين طرفاً ، لأنه يكون بها ، ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة @ وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يُوارِي جارتي مأواها @@ { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } الهواء في اللغة المجوف الخالي الذي لم تشغله الأجرام . والمعنى أن قلوبهم خالية عن العقل والفهم ، لما شاهدوا من الفزع والحيرة والدهش ، وجعلها نفس الهوى مبالغة ، ومنه قيل للأحمق والجبان قلبه هواء ، أي لا رأي فيه ولا قوّة . وقيل معنى الآية أنها خرجت قلوبهم عن مواضعها فصارت في الحناجر . وقيل المعنى أن أفئدة الكفار في الدنيا خالية عن الخير . وقيل المعنى أفئدتهم ذات هواء ، ومما يقارب معنى هذه الآية قوله تعالى { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَىٰ فَارِغاً } القصص 10 ، أي خالياً من كل شيء إلاّ من همّ موسى . { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ } هذا رجوع إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمره الله سبحانه بأن ينذر الناس . والمراد الناس على العموم وقيل المراد كفار مكة . وقيل الكفار على العموم . والأوّل أولى لأن الإنذار كما يكون للكافر يكون أيضاً للمسلم . ومنه قوله تعالى { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِكْرَ } يۤس 11 . ومعنى { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } يوم القيامة ، أي خوّفهم هذا اليوم ، وهو يوم إتيان العذاب ، وإنما اقتصر على ذكر إتيان العذاب فيه مع كونه يوم إتيان الثواب لأن المقام مقام تهديد . وقيل المراد به يوم موتهم فإنه أوّل أوقات إتيان العذاب وقيل المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، وانتصاب يوم على أنه مفعول ثانٍ لأنذر { فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } المراد بالذين ظلموا ها هنا هم الناس ، أي فيقولون . والعدول إلى الإظهار مكان الإضمار للإشعار بأن الظلم هو العلة فيما نزل بهم ، هذا إذا كان المراد بالناس هم الكفار . وعلى تقدير كون المراد بهم من يعمّ المسلمين ، فالمعنى فيقول الذين ظلموا منهم وهم الكفار { ربنا أخرنا } أمهلنا { إلى أجل قريب } إلى أمد من الزمان معلوم غير بعيد { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ } أي دعوتك لعبادك على ألسن أنبيائك إلى توحيدك { وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } المرسلين منك إلينا فنعمل بما بلغوه إلينا من شرائعك ، ونتدارك ما فرط منا من الإهمال ، وإنما جمع الرسل لأن دعوتهم إلى التوحيد متفقة فاتباع واحد منهم اتباع لجميعهم ، وهذا منهم سؤال للرجوع إلى الدنيا لما ظهر لهم الحق في الآخرة { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } الأنعام 28 . ثم حكى سبحانه ما يجاب به عنهم عند أن يقولوا هذه المقالة ، فقال { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } أي فيقال لهم هذا القول توبيخاً وتقريعاً ، أي أولم تكونوا أقسمتم من قبل هذا اليوم مالكم من زوال من دار الدنيا . وقيل إنه لا قسم منهم حقيقة . وإنما كان لسان حالهم ذلك لاستغراقهم في الشهوات ، وإخلادهم إلى الحياة الدنيا . وقيل قسمهم هذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } النحل 38 ، وجواب القسم { مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ } وإنما جاء بلفظ الخطاب في { مالكم من زوال } لمراعاة { أقسمتم } ولولا ذلك لقال مالنا من زوال . { وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } أي استقررتم ، يقال سكن الدار وسكن فيها ، وهي بلاد ثمود ونحوهم من الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالله ، والعصيان له { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } قرأ عبد الرحمٰن السلمي " نبين " بالنون والفعل المضارع ، وقرأ من عداه بالتاء الفوقية والفعل الماضي ، أي تبين لكم بمشاهدة الآثار كيف فعلنا بهم من العقوبة والعذاب الشديد بما فعلوه من الذنوب ، وفاعل تبين ما دلت عليه الجملة المذكورة بعده ، أي تبين لكم فعلنا العجيب بهم { وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } في كتب الله وعلى ألسن رسله إيضاحاً لكم وتقريراً وتكميلاً للحجة عليكم . { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } الجملة في محل نصب على الحال ، أي فعلنا بهم ما فعلنا ، والحال أنهم قد مكروا في ردّ الحق وإثبات الباطل مكرهم العظيم ، الذي استفرغوا فيه وسعهم { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } أي وعند الله جزاء مكرهم ، أو وعند الله مكتوب مكرهم فهو مجازيهم ، أو وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، على أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول ، قيل والمراد بهم قوم محمد صلى الله عليه وسلم مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين هموا بقتله أو نفيه . وقيل المراد ما وقع من النمروذ حيث حاول الصعود إلى السماء ، فاتخذ لنفسه تابوتاً ، وربط قوائمه بأربعة نسور . { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } قرأ عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي " وإن كاد مكرهم " بالدال المهملة مكان النون . وقرأ غيرهم من القراء وإن كان بالنون . وقرأ ابن محيص ، وابن جريج ، والكسائي " لتزول " بفتح اللام على أنها لام الابتداء ، وقرأ الجمهور بكسرها على أنها لام الجحود . قال ابن جرير الاختيار هذه القراءة ، يعني قراءة الجمهور لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة ، فعلى قراءة الكسائي ومن معه تكون إن هي المخففة من الثقيلة . واللام هي الفارقة ، وزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدّته ، أي وإن الشأن كان مكرهم معدّاً لذلك . قال الزجاج وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال ، فإن الله ينصر دينه . وعلى قراءة الجمهور يحتمل وجهين أحدهما أن تكون " إن " هي المخففة من الثقيلة ، والمعنى كما مرّ . والثاني أن تكون نافية ، واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ } البقرة 143 والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم ، على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها مدى الدهر ، فالجملة على هذا حال من الضمير في { مكروا } لا من قوله { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } أي والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن ميمون بن مهران في قوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } قال هي تعزية للمظلوم ووعيد للظالم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَـٰرُ } قال شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مُهْطِعِينَ } قال يعني بالإهطاع النظر من غير أن يطرف { مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ } قال الإقناع رفع رؤوسهم { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } قال شاخصة أبصارهم { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } ليس فيها شيء من الخير ، فهي كالخربة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { مهطعين } قال مديمي النظر . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة { مهطعين } قال مسرعين . وأخرج هؤلاء عن قتادة في قوله { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } قال ليس فيها شيء ، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } يقول أنذرهم في الدنيا من قبل أن يأتيهم العذاب . وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } هو يوم القيامة . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ } قال عما أنتم فيه إلى ما تقولون . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله { مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ } قال بعث بعد الموت . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن الحسن في قوله { وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } قال عملتم بمثل أعمالهم . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } يقول ما كان مكرهم { لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } يقول شركهم كقوله { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً } مريم 90 . وأخرج عبد بن حميد ، ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري عن عليّ ابن أبي طالب ، أنه قرأ هذه الآية { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } ثم فسرها فقال إن جباراً من الجبابرة قال لا أنتهي حتى أنظر إلى ما في السماء ، فأمر بفراخ النسور تعلف اللحم حتى شبت وغلظت ، وأمر بتابوت فنجر يسع رجلين ، ثم جعل في وسطه خشبة ، ثم ربط أرجلهنّ بأوتاد ، ثم جوّعهنّ ، ثم جعل على رأس الخشبة لحماً ، ثم دخل هو وصاحبه في التابوت ، ثم ربطهنّ إلى قوائم التابوت ، ثم خلي عنهنّ يردن اللحم ، فذهبن به ما شاء الله ، ثم قال لصاحبه افتح فانظر ماذا ترى ، ففتح فقال انظر إلى الجبال كأنها الذباب ، قال أغلق فأغلق ، فطرن به ما شاء الله ، ثم قال افتح ففتح ، فقال انظر ماذا ترى ، فقال ما أرى إلاّ السماء ، وما أراها تزداد إلاّ بعداً ، قال صوّب الخشبة فصوّبها فانقضت تريد اللحم ، فسمع الجبال هدّتها فكادت تزول عن مراتبها . وقد روي نحو هذه القصة لبختنصر وللنمروذ من طرق ذكرها في الدرّ المنثور .