Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 51-62)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له ، خاضعة لجلاله ، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين ، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد وهو الله سبحانه . وقد قيل إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية ، والإفراد في إلٰه قد دلّ على الوحدة ، فما وجه وصف إلهين باثنين ، ووصف إله واحد ؟ فقيل في الجواب إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين إنما هو واحد إلٰه ، وقيل إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك . وقيل إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدّد لا إلى الجنسية ، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية ، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها ، وإنما خلاف المشركين في الواحدية . ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب ، فقال { فَإيَّـٰيَ فَٱرْهَبُونِ } أي إن كنتم راهبين شيئاً ، فإياي فارهبون لا غيري . وقد مرّ مثل هذا في أول البقرة . ثم لما قرّر سبحانه وحدانيته ، وأنه الذي يجب أن يخصّ بالرهبة منه والرغبة إليه ، ذكر أن الكلّ في ملكه وتحت تصرّفه فقال { وَلَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وهذه الجملة مقررة لمن تقدّم في قوله { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ } إلى آخره ، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص { وَلَهُ ٱلدّينُ وَاصِبًا } أي ثابتاً واجباً دائماً لا يزول ، والدين هو الطاعة والإخلاص . قال الفراء { وَاصِبًا } معناه دائماً ، ومنه قول الدؤلي @ لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه بذمّ يكون الدهر أجمع واصبا @@ أي دائماً . وروي عن الفراء أيضاً أنه قال الواصب الخالص ، والأوّل أولى ، ومنه قوله سبحانه { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } الصافات 9 أي دائم . وقال الزجاج أي طاعته واجبة أبداً . ففسر الواصب بالواجب . وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب أي ليس أحد يطاع إلاّ انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى ، فإن الطاعة تدوم له . ففسر الواصب بالدائم . وإذا دام الشيء دواماً لا ينقطع فقد وجب وثبت . يقال وصب الشيء يصب وصوباً ، فهو واصب إذا دام ، ووصب الرجل على الأمر إذا واظب عليه . وقيل الوصب التعب والإعياء ، أي يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية ، والاستفهام في قوله { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } للتقريع والتوبيخ ، وهو معطوف على مقدّر ، كما في نظائره . والمعنى إذا كان الدين أي الطاعة واجباً له دائماً لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره . ثم امتنّ سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره ، فقال { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ } أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله ، أي فهي منه ، فتكون ما شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط ، و { بكم } صلتها ، و { من نعمة } حال من الضمير في الجار والمجرور ، أو بيان لـ " ما " . وقوله { فَمِنَ ٱللَّهِ } الخبر ، وعلى كون " ما " شرطية يكون فعل الشرط محذوفاً ، أي ما يكن ، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ، ومعرفة الخير لأجل العمل به . وإما دنيوية نفسانية ، أو بدنية ، أو خارجية ، كالسعادات المالية وغيرها ، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها ، والكل من الله سبحانه ، فعلى العاقل أن لا يشكر إلاّ إياه ، ثم بين تلوّن الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـئَرُونَ } أي إذا مسكم الضرّ أيّ مس ، فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرّعون في كشفه ، فلا كاشف له إلاّ هو . يقال جأر يجأر في لسان العرب جؤاراً إذا رفع صوته في تضرع . قال الأعشى يصف بقرة @ فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة وكان النكير أن تطيف وتجأرا @@ والضرّ المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان . { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } أي إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضرّ { إذا فريق } أي جماعة منكم بربهم الذي رفع الضر عنهم يشركون ، فيجعلون معه إلهاً آخر من صنم أو نحوه ، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء ، حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضرّ مكان الشكر له ، وهذا المعنى قد تقدّم في الأنعام ويونس ، ويأتي في سبحان . قال الزجاج هذا خاص بمكر من كفر ، وقابل كشف الضرّ عنه بالجحود والكفر ، وعلى هذا فتكون " من " في { منكم } للتبعيض ، حيث كان الخطاب للناس جميعاً . والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجهاً إلى الكفار ، فـ " من " للبيان ، واللام في { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَـٰهُمْ } لام كي ، أي لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضرّ ، حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم . وهذا غاية في العتوّ والعناد ليس وراءها غاية . وقيل اللام للعاقبة ، يعني ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلاّ هذا الكفر . ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب { فَتَمَتَّعُواْ } بما أنتم فيه من ذلك { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبة أمركم ، وما يحل بكم في هذه الدار ، وما تصيرون إليه في الدار الآخرة . ثم حكى سبحانه نوعاً آخر من قبائح أعمالهم فقال { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مّمّا رَزَقْنَـٰهُمْ } أي يقع منهم هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم ، وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به ، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيباً مما رزقناهم من أموالهم يتقربون به إليه . وقيل المعنى أنهم ، أي الكفار يجعلون للأصنام ، وهم لا يعلمون شيئاً لكونهم جمادات ، ففاعل { يعلمون } على هذا هي الأصنام وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون ، جرياً على اعتقاد الكفار فيها ، وحاصل المعنى ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام . التي لا تعقل شيئاً نصيباً من أموالهم التي رزقهم الله إياها { تَٱللَّهِ لَتُسْـئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب . وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا . { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَـٰتِ } هذا نوع آخر من فضائحهم وقبائحهم ، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله { سُبْحَـٰنَهُ } نزّه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام مستقيمة . { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } الفرقان 44 وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهوونه من البنين على أن « ما » في محل نصب بالفعل المقدّر ، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء . وأنكر النصب الزجاج . قال لأن العرب لا يقولون جعل له كذا ، وهو يعني نفسه ، وإنما يقولون جعل لنفسه كذا ، فلو كان منصوباً ، لقال ولأنفسهم ما يشتهون . وقد أجاز النصب الفراء . ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأَنْثَىٰ } أي إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا } أي متغيراً ، وليس المراد السواد الذي هو ضدّ البياض ، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار والتغير بما يحصل من الغمّ ، والعرب تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسود وجهه غماً وحزناً . قاله الزجاج . وقال المارودي بل المراد سواد اللون حقيقة ، قال وهو قول الجمهور ، والأوّل أولى ، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتمّ لا يحصل في لونه إلاّ مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي . وجملة { وَهُوَ كَظِيمٌ } في محل نصب على الحال ، أي ممتلىء من الغمّ غيظاً وحنقاً . قال الأخفش هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره . وقيل إنه المغموم الذي يطبق فاه من الغمّ . مأخوذ من الكظامة ، وهو سدّ فم البئر قاله عليّ بن عيسى ، وقد تقدّم في سورة يوسف . { يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ } أي يتغيب ويختفي { مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ } أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب حدوث البنت له { أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ } أي لا يزال متردّداً بين الأمرين ، وهو إمساك البنت التي بشر بها ، أو دفنها في التراب { عَلَىٰ هُونٍ } أي هوان . وكذا قرأ عيسى الثقفي . قال اليزيدي والهون الهوان بلغة قريش . وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي ، وحكي عن الكسائي أنه البلاء والمشقة ، قالت الخنساء @ نهين النفوس وهون النفو س يوم الكريهة أبقى لها @@ وقال الفراء الهون القليل بلغة تميم . وحكى النحاس عن الأعمش أنه قرأ " أيمسكه على سوء " { أم يدسه في التراب } أي يخفيه في التراب بالوأد كما كانت تفعله العرب ، فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردّداً بين هذين الأمرين . والتذكير في { يمسكه } و { يدسه } مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ . وقرأ الجحدري " أم يدسها في التراب " ويلزمه أن يقرأ " أيمسكها " ، وقيل دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم . ومثل هذا قوله تعالى { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } النجم 21 ــ 22 . { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْء } أي لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح الفظيعة { مثل السوء } أي صفة السوء من الجهل والكفر بالله . وقيل هو وصفهم لله سبحانه بالصاحبة والولد . وقيل هو حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم . ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق . وقيل العذاب والنار { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } وهو أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل ، والجود الشامل ، والعلم الواسع ، أو التوحيد وإخلاص العبادة ، أو أنه خالق رازق قادر مجاز وقيل شهادة أن لا إلٰه إلاّ الله وقيل { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ مَثَلُ نُورِهِ } النور 35 . { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الذي لا يغالب ، فلا يضرّه نسبتهم إليه ما لا يليق به { ٱلْحَكِيمُ } في أفعاله وأقواله . ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم ، بيّن سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، ولم يؤاخذهم بظلمهم ، فقال { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } والمراد بالناس هنا الكفار ، أو جميع العصاة { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } أي على الأرض ، وإن لم يذكر فقد دلّ عليها ذكر الناس وذكر الدابة . فإن الجميع مستقرّون على الأرض ، والمراد بالدابة الكافر ، وقيل كل ما دبّ . وقد قيل على هذا كيف يعمّ بالهلاك مع أن فيهم من لا ذنب له ؟ وأجيب بإهلاك الظالم انتقاماً منه ، وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره ، وإن كان من غيرهم ، فبشؤم ظلم الظالمين ، ولله الحكمة البالغة { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } الأنبياء 23 ، ومثل هذا قوله { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } الأنفال 25 . وفي معنى هذا أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا أراد الله بقوم عذاباً ، أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على نياتهم " وكذلك حديث الجيش الذين يخسف بهم في البيداء ، وفي آخره أنهم يبعثون على نياتهم وقد قدّمنا عند تفسير قوله سبحانه { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً } الأنفال 25 الآية تحقيقاً حقيقاً بالمراجعة له { وَلٰكِن يُؤَخِرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } معلوم عنده ، وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم ، أو أجل عذابهم . وفي هذا التأخير حكمة بالغة منها الإعذار إليهم وإرخاء العنان معهم ، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } الذي سماه لهم ، حقت عليهم كلمة الله سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدّم عليه ولا تأخر عنه ، والساعة المدة القليلة ، وقد تقدّم تفسيرها هذا وتحقيقه . ثم ذكر نوعاً آخر من جهلهم وحمقهم فقال { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } أي ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون نسبته إلى أنفسهم من البنات ، وهو تكرير لما قد تقدّم لقصد التأكيد والتقرير ، ولزيادة التوبيخ والتقريع { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ } هذا من النوع الآخر الذي ذكره سبحانه من قبائحهم ، وهو ، أي هذا الذي تصفه ألسنتهم من الكذب ، هو قولهم { أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي الخصلة الحسنى ، أو العاقبة الحسنى . قال الزجاج يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله الجزاء الحسن . قال الزجاج أيضاً والفراء أبدل من قوله { وتصف ألسنتهم الكذب } قوله { أن لهم الحسنى } ، و { الكذب } منصوب على أنه مفعول { تصف } . وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وابن محيصن " الكذب " برفع الكاف والذال والباء على أنه صفة للألسن . وهو جمع كذب ، فيكون المفعول على هذا هو { أن لهم الحسنى } . ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } أي حقاً أن لهم مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى النار ، وقد تقدّم تحقيق هذا { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة أي متروكون منسيون في النار . وبه قال الكسائي والفراء ، فيكون مشتقاً من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته . وقال قتادة والحسن معجلون إليها ، مقدّمون في دخولها ، من أفرطته ، أي قدّمته في طلب الماء ، والفارط هو الذي يتقدّم إلى الماء . والفراط المتقدّمون في طلب الماء ، والورّاد المتأخرون ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " أنا فرطكم على الحوض " ، أي متقدّمكم ، قال القطامي @ فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فرّاط لورّاد @@ وقرأ نافع في رواية ورش " مفرطون " بكسر الراء وتخفيفها . وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس . ومعناه مسرفون في الذنوب والمعاصي . يقال أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه ، وقال له أكثر مما قال من الشرّ . وقرأ أبو جعفر القاري " مفرطون " بكسر الراء وتشديدها ، أي مضيعون أمر الله ، فهو من التفريط في الواجب . وقرأ الباقون " مفرطون " بفتح الراء مخففاً . ومعناه مقدمون إلى النار . وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَلَهُ ٱلدّينُ وَاصِبًا } قال { الدين } الإخلاص ، و { واصباً } دائماً . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح { وَلَهُ ٱلدّينُ وَاصِبًا } قال لا إلٰه إلاّ الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَاصِبًا } قال دائماً . وأخرج الفريابي ، وابن جرير عنه قال واجباً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { تَجْـئَرُونَ } قال تتضرعون دعاء . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال تصيحون بالدعاء . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } قال وعيد . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } الآية ، قال يعلمون أن الله خلقهم ويضرّهم وينفعهم ، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم { نَصِيبًا مّمّا رَزَقْنَـٰهُمْ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية ، قال هم مشركو العرب ، جعلوا لأوثانهم وشياطينهم مما رزقهم الله ، وجزءوا من أموالهم جزءاً فجعلوه لأوثانهم وشياطينهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية ، قال هو قولهم { هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } الأنعام 136 . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَـٰتِ } الآية ، يقول يجعلون لي البنات يرتضونهنّ لي ، ولا يرتضونهنّ لأنفسهم . وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هوان أو دسها في التراب وهي حية . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } قال يعني به البنين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج { أَمْ يَدُسُّهُ فِى ٱلتُّرَابِ } قال يئد ابنته . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } قال بئس ما حكموا ، يقول شيء لا يرضونه لأنفسهم ، فكيف يرضونه لي . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } قال شهادة أن لا إلٰه إلاّ الله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلاْعْلَىٰ } قال يقول ليس كمثله شيء . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } قال ما سقاهم المطر . وأخرج أيضاً عن السدّي نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في الآية ، قال قد فعل ذلك في زمن نوح ، أهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلاّ ما حمل في سفينته . وأخرج أحمد في الزهد عن ابن مسعود قال ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ، ثم قال أي والله زمن غرق قوم نوح . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه قال كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم . ثم قرأ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا عن أنس نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة ، أنه سمع رجلاً يقول إن الظالم لا يضرّ إلاّ نفسه . قال أبو هريرة بلى ، والله إن الحبارى لتموت هزالاً في وكرها من ظلم الظالم . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } قال يجعلون لي البنات ، ويكرهون ذلك لأنفسهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } قال قول كفار قريش لنا البنون ، وله البنات . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } قال منسبون . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة قال معجلون . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه .