Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 101-109)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ ءايَـٰتٍ } أي علامات دالة على نبوّته ، قيل ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعجزات المذكورة كأنها مساوية لتلك الأمور التي اقترحها كفار قريش ، بل أقوى منها ، فليس عدم الاستجابة لما طلبوه من الآيات إلاّ لعدم المصلحة في استئصالهم إن لم يؤمنوا بها . قال أكثر المفسرين الآيات التسع هي الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، والسنين ، ونقص الثمرات . وجعل الحسن مكان السنين ونقص الثمرات البحر والجبل . وقال محمد بن كعب القرظي هي الخمس التي في الأعراف ، والبحر ، والعصا ، والحجر ، والطمس على أموالهم . وقد تقدم الكلام على هذه الآيات مستوفى ، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في تعداد هذه الآيات التسع . { فَٱسْأَلْ بَنِى إِسْرٰءيلَ } قرأ ابن عباس وابن نهيك فسأل على الخبر ، أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه ، وقرأ الآخرون { فاسأل } على الأمر أي سلهم يا محمد حين { جَاءهُمُ } موسى ، والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينية والإيقان ، لأن الأدلة إذا تظافرت كان ذلك أقوى ، والمسئولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّى لأظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَّسْحُورًا } الفاء هي الفصيحة ، أي فأظهر موسى عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون . المسحور الذي سحر فخولط عقله . وقال أبو عبيدة والفراء هو بمعنى الساحر ، فوضع المفعول موضع الفاعل ، فـ { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء } يعني الآيات التي أظهرها ، وأنزل بمعنى أوجد { إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضِ بَصَائِرَ } أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته ، وانتصاب { بصائر } على الحال . قرأ الكسائي بضمّ التاء من " علمت " على أنها لموسى ، وروي ذلك عن عليّ ، وقرأ الباقون بفتحها على الخطاب لفرعون . ووجه القراءة الأولى أن فرعون لم يعلم ذلك ، وإنما علمه موسى . ووجه قراءة الجمهور أن فرعون كان عالماً بذلك كما قال تعالى { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } النمل 14 . قال أبو عبيد المأخوذ به عندنا فتح التاء ، وهو الأصح للمعنى ، لأن موسى لا يقول علمت أنا وهو الداعي ، وروي نحو هذا عن الزجاج . { وَإِنّى لاظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُورًا } الظنّ هنا بمعنى اليقين ، والثبور الهلاك والخسران . قال الكميت @ ورأت قضاعة في الأيا من رأى مثبور وثابر @@ أي مخسور وخاسر ، وقيل المثبور الملعون ، ومنه قول الشاعر @ يا قومنا لا تروموا حربنا سفها إن السفاه وإن البغي مثبور @@ أي ملعون ، وقيل المثبور ناقص العقل ، وقيل هو الممنوع من الخير ، يقال ما ثبرك عن كذا ما منعك منه ، حكاه أهل اللغة ، وقيل المسحور . { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مّنَ ٱلاْرْضِ } أي أراد فرعون أن يخرج بني إسرائيل وموسى ويزعجهم من الأرض ، يعني أرض مصر بإبعادهم عنها ، وقيل أراد أن يقتلهم ، وعلى هذا يراد بالأرض مطلق الأرض ، وقد تقدم قريباً معنى الاستفزاز { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا } فوقع عليه وعليهم الهلاك بالغرق ، ولم يبق منهم أحداً { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأرْضَ } أي من بعد إغراقه ومن معه ، والمراد بالأرض هنا أرض مصر التي أراد أن يستفزّهم منها { فَإِذَا جَاء وَعْدُ ٱلآخِرَةِ } أي الدار الآخرة وهو القيامة ، أو الكرّة الآخرة ، أو الساعة الآخرة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } قال الجوهري اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى ، يقال جاء القوم بلفهم ولفيفهم أي بأخلاطهم ، فالمراد هنا جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع ، قد اختلط المؤمن بالكافر . قال الأصمعي اللفيف جمع وليس له واحد ، وهو مثل الجمع . { وَبِٱلْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقّ نَزَلَ } الضمير يرجع إلى القرآن ، ومعنى { بِٱلْحَقّ أَنزَلْنَـٰهُ } أوحيناه متلبساً بالحق ، ومعنى { وَبِٱلْحَقّ نَزَلَ } أنه نزل وفيه الحق ، وقيل الباقي ، وبالحق الأول بمعنى مع ، أي مع الحق أنزلناه كقولهم ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه ، و { بالحق نزل } أي بمحمد كما تقول نزلت يزيد . وقال أبو علي الفارسي الباء في الموضعين بمعنى مع ، وقيل يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل ، أو ما أنزلناه من السماء إلاّ محفوظاً ، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظاً من تخليط الشياطين ، والتقديم في الموضعين للتخصص . { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا } أي مبشراً لمن أطاع بالجنة ونذيراً مخوّفاً لمن عصى بالنار . { وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ } انتصاب { قرآناً } بفعل مضمر يفسره ما بعده ، قرأ عليّ ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والشعبي فرقناه بالتشديد ، أي أنزلناه شيئاً بعد شيء لا جملة واحدة . وقرأ الجمهور { فرقناه } بالتخفيف ، أي بيناه وأوضحناه ، وفرقنا فيه بين الحق والباطل . وقال الزجاج فرقه في التنزيل ليفهمه الناس . قال أبو عبيد التخفيف أعجب إليّ ، لأن تفسيره بيناه ، وليس للتشديد معنى إلاّ أنه نزل متفرقاً . ويؤيده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال فرقت مخففاً بين الكلام ، وفرقت مشدداً بين الأجسام ، ثم ذكر سبحانه العلة لقوله فَرَقْنَاهُ ، فقال { لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ } أي على تطاول في المدّة شيئاً بعد شيء على القراءة الأولى ، أو أنزلناه آية آية ، وسورة سورة . ومعناه على القراءة الثانية { على مكث } أي على ترسل وتمهل في التلاوة ، فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ . وقد اتفق القراء على ضم الميم في { مكث } إلاّ ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم { وَنَزَّلْنَـٰهُ تَنْزِيلاً } التأكيد بالمصدر للمبالغة ، والمعنى أنزلناه منجماً مفرّقاً لما في ذلك من المصلحة ، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا . { قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكافرين المقترحين للآيات آمنوا به أو لا تؤمنوا ، فسواء إيمانكم به وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك ولا ينقصه . وفي هذا وعيد شديد لأمره بالإعراض عنهم واحتقارهم ، ثم علّل ذلك بقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } أي أن العلماء الذين قرؤوا الكتب السابقة قبل إنزال القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوّة كزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وعبد الله بن سلام { إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } أي القرآن { يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا } أي يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه ، وإنما قيد الخرور ، وهو السقوط ، بكونه للأذقان ، أي عليها ، لأن الذقن ، وهو مجتمع اللحيين أوّل ما يحاذي الأرض . قال الزجاج لأن الذقن مجتمع اللحيين ، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود ، فأوّل ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن ، وقيل المراد تعفير اللحية في التراب ، فإن ذلك غاية الخضوع ، وإيثار اللام في الأذقان على " على " للدلالة على الاختصاص ، فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور ، أو خصوا الخرور بأذقانهم ، وقيل الضمير في قوله { مِن قَبْلِهِ } راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن لدلالة السياق على ذلك ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وحاصلها أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه ، فلا تبال بذلك ، فقد آمن به أهل العلم وخشعوا له وخضعوا عند تلاوته عليهم خضوعاً ظهر أثره البالغ بكونهم يخرّون على أذقانهم سجداً لله . { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا } أي يقولون في سجودهم تنزيهاً لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب ، أو تنزيهاً له عن خلف وعده { إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً } " إن " هذه هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة . ثم ذكر أنهم خروا لأذقانهم باكين فقال { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ } وكرّر ذكر الخرور للأذقان ، لاختلاف السيب ، فإن الأول لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه ، والثاني للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم ، ولهذا قال { وَيَزِيدُهُمْ } أي سماع القرآن ، أو القرآن بسماعهم له { خُشُوعًا } أي لين قلب ورطوبة عين . وقد أخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { تِسْع ءايَـٰتٍ } فذكر ما ذكرناه عن أكثر المفسرين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال يده ، وعصاه ولسانه ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم . وأخرج الطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن قانع ، والحاكم وصححه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، وابن مردويه عن صفوان بن عسال أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه انطلق بنا إلى هذا النبيّ نسأله ، فأتياه فسألاه عن قول الله { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ ءايَـٰتٍ بَيّنَاتٍ } فقال " لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تزنوا ، ولا تسرفوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببرىء إلى سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة - أو قال لا تفروا من الزحف - شكّ شعبة - وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت " ، فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد أنك نبيّ الله ، قال فما يمنعكما أن تسلما ؟ قالا إن داود دعا الله أن يزال في ذريته نبيّ ، وإنا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود . وأخرج ابن أبي الدينا في ذمّ الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن قوله { وَإِنّى لأظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُورًا } قال مخالفاً ، وقال الأنبياء أكرم من أن تلعن أو تسبّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس « مثبوراً » قال ملعوناً . وأخرج الشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه عنه قال قليل العقل . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { لفيفاً } قال جميعاً . وأخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ وقرآناً فرقناه مثقلاً قال نزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان جملة واحدة ، فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث لهم جواباً ، ففرقه الله في عشرين سنة . وقد روي نحو هذا عنه من طرق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { فَرَقْنَاهُ } قال فصلناه على مكث بأمد { يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ } يقول للوجوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد { إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } قال كتابهم .