Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 94-100)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

حكى سبحانه عنهم شبهة أخرى قد تكرر في الكتاب العزيز التعرّض لإيرادها وردّها في غير موضع فقال { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ } المراد الناس على العموم ، وقيل المراد أهل مكة على الخصوص أي ما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو المفعول الثاني لمنع ، ومعنى { إِذْ جَاءهُمُ ٱلْهُدَىٰ } أنه جاءهم الوحي من الله سبحانه على رسوله ، وبيّن ذلك لهم وأرشدهم إليه ، وهو ظرف لـ { منع } أو { يؤمنوا } أي ما منعهم وقت مجيء الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوّة { إِلاَّ أَن قَالُواْ } أي ما منعهم إلاّ قولهم ، فهو في محل رفع على أنه فاعل منع ، والهمزة في { أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً } للإنكار منهم أن يكون الرسول بشراً ، والمعنى أن هذا الاعتقاد الشامل لهم ، وهو إنكار أن يكون الرسول من جنس البشر ، هو الذي منعهم عن الإيمان بالكتاب وبالرسول ، وعبّر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلاّ مجرد قول قالوه بأفواههم . ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم هذه فقال { قُل لَوْ كَانَ فِى ٱلأرْضِ مَلَـٰئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ } أي لو وجد وثبت أن في الأرض بدل من فيها من البشر ، ملائكة يمشون على الأقدام كما يمشي الإنس مطمئنين مستقرين فيها ساكنين بها . قال الزجاج { مطمئنين } مستوطنين في الأرض ، ومعنى الطمأنينة السكون ، فالمراد ها هنا المقام والاستيطان ، فإنه يقال سكن البلد فلان إذا أقام فيها وإن كان ماشياً متقلباً في حاجاته { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ ٱلسَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً } حتى يكون من جنسهم ، وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن تكون من جنس المرسل إليهم ، فكأنه سبحانه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين الأوّل كون سكان الأرض ملائكة ، والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء ، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها ، وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة . وانتصاب { بشراً } و { ملكاً } على أنهما مفعولان للفعلين ، و { رسولاً } في الموضعين وصف لهما . وجوّز صاحب الكشاف أن يكونا حالين في الموضعين من { رسولاً } فيهما وقوّاه صاحب الكشاف ، ولعل وجه ذلك أن الإنكار يتوجه إلى الرسول المتصف بالبشرية في الموضع الأوّل ، فيلزم بحكم التقابل أن يكون الآخر كذلك . ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد ، فقال { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي قل لهم يا محمد من جهتك كفى بالله وحده شهيداً على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة ، وقال { بيني وبينكم } ولم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة الكلية ، وقيل إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبيّ شهادة من الله له على الصدق ، ثم علّل كونه سبحانه شهيداً كافياً بقوله { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي عالماً بجميع أحوالهم محيطاً بظواهرها وبواطنها بصيراً بما كان منها وما يكون . ثم بيّن سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى } أي من يرد الله هدايته فهو المهتدي إلى الحق أو إلى كل مطلوب { وَمَن يُضْلِلِ } أي يرد إضلاله { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء } ينصرونهم { مِن دُونِهِ } يعني الله سبحانه ، ويهدونهم إلى الحق الذي أضلهم الله عنه أو إلى طريق النجاة ، وقوله { فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى } حملاً على لفظ « من » ، وقوله { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } حملاً على المعنى ، والخطاب في قوله { فَلَن تَجِدَ } إما للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } هذا الحشر على الوجوه فيه وجهان للمفسرين الأوّل أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم ، من قول العرب قد مرّ القوم على وجوههم إذا أسرعوا . الثاني أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه ، وهذا هو الصحيح ، لقوله تعالى { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } القمر 48 . ولما صح في السنة كما سيأتي ، ومحل { على وجوههم } النصب على الحال من ضمير المفعول . و { عُمْيًا } منتصب على الحال { وَبُكْمًا وَصُمّا } معطوفان عليه ، والأبكم الذي لا ينطق ، والأصمّ الذي لا يسمع ، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة ، وأشنع منظر ، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم ، ثم من وراء ذلك { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي المكان الذي يأوون إليه ، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة لا محل لها { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } أي كلما سكن لهبها ، يقال خبت النار تخبو خبواً إذا خمدت وسكن لهبها . قال ابن قتيبة ومعنى { زدناهم سعيراً } تسعراً ، وهو التلهب . وقد قيل إن في خبوّ النار تخفيفاً لعذاب أهلها ، فكيف يجمع بينه وبين قوله { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ } البقرة 162 ؟ وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبوّ والتسعر ، وقيل إنها تخبو من غير تخفيف عنهم من عذابها . { ذٰلِكَ } أي العذاب { جَزَآؤُهُمْ } الذي أوجبه الله لهم واستحقوه عنده ، والباء في قوله { بأنهم كفروا بآياتنا } للسببية أي بسبب كفرهم بها فلم يصدّقوا بالآيات التنزيلية ، ولا تفكّروا في الآيات التكوينية ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره { جزاؤهم } ، و { بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ } خبر آخر ، ويجوز أن يكون { جزاؤهم } مبتدأً ثانياً ، وخبره ما بعده ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل . { وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَـٰماً وَرُفَـٰتاً } الهمزة للإنكار ، وقد تقدم تفسير الآية في هذه السورة ، و { خلقاً } في قوله { أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } مصدر من غير لفظه أو حال أي مخلوقين ، فجاء سبحانه بحجة تدفعهم عن الإنكار وتردّهم عن الجحود . فقال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ * قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } أي من هو قادر على خلق هذا ، فهو على إعادة ما هو أدون منه أقدر ، وقيل المراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم ، وعلى القول الأوّل يكون الخلق بمعنى الإعادة ، وعلى هذا القول هو على حقيقته ، وجملة { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } عطف على { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } ، والمعنى قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم ، لأنهم ليسوا بأشدّ خلقاً منهنّ كما قال { أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَاء } النازعات 27 . { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } وهو الموت أو القيامة ، ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف ، وقيل في الكلام تقديم وتأخير ، أي أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم { فَأَبَىٰ ٱلظَّـٰلِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا } أي أبى المشركون إلاّ جحوداً ، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحدّ . ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم ، بيّن الله سبحانه أنهم لا يقنعون ، بل يبقون على بخلهم وشحهم فقال { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى } { أنتم } مرتفع على أنه فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده ، أي لو تملكون أنتم تملكون على أن الضمير المنفصل مبدل من الضمير المتصل وهو الواو ، وخزائن رحمته سبحانه هي خزائن الأرزاق . قال الزجاج أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحاً وبخلاً ، وهو خشية الإنفاق ، أي خشية أن ينفقوا فيفتقروا ، وفي حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم ، وإيراد الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصون بالشحّ . قال أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر بمعنى قلّ ماله ، فيكون المعنى لأمسكتم خشية قلّ المال { وَكَانَ ٱلإنْسَـٰنُ قَتُورًا } أي بخيلاً مضيقاً عليه . يقال قتر على عياله يقتر ويقتر قتراً وقتوراً ضيق عليهم في النفقة ، ويجوز أن يراد وكان الإنسان قتوراً أي قليل المال ، والظاهر أن المراد المبالغة في وصفه بالشح ، لأن الإنسان ليس بقليل المال على العموم . بل بعضهم كثير المال ، إلاّ أن يراد أن جميع النوع الإنساني قليل المال بالنسبة إلى خزائن الله وما عنده . وقداختلف في هذه الآية على قولين أحدهما أنها نزلت في المشركين خاصة ، وبه قال الحسن ، والثاني أنها عامة وهو قول الجمهور ، حكاه الماوردي . وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم قال " الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم " وأخرج أبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة . قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف مشاة ، وصنف ركباناً ، وصنف على وجوههم " ، ثم ذكر نحو حديث أنس . وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، في قوله { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } قال يعني أنهم وقودها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه في قوله { كُلَّمَا خَبَتْ } قال سكنت . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في الآية قال كلما أحرقهم سعرتهم حطباً ، فإذا أحرقتهم فلم يبق منهم شيء صارت جمراً تتوهج فذلك خبوها ، فإذا بدّلوا خلقاً جديداً عاودتهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله { خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى } قال الرزق . وأخرج أيضاً عن عكرمة في قوله { إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنفَاقِ } قال إذا ما أطعمتم أحداً شيئاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { خَشْيَةَ ٱلإِنفَاقِ } قال الفقر { وَكَانَ ٱلإنْسَـٰنُ قَتُورًا } قال بخيلاً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة { خَشْيَةَ ٱلإِنفَاقِ } قال خشية الفاقة { وَكَانَ ٱلإنْسَـٰنُ قَتُورًا } قال بخيلاً ممسكاً .