Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 25-33)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ } أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات ، ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه ، ويندرج تحت هذا العموم ما في النفس من البرّ والعقوق اندراجاً أوّلياً وقيل إن الآية خاصة بما يجب للأبوين من البرّ ، ويحرم على الأولاد من العقوق ، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ ، فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده { إِن تَكُونُواْ صَـٰلِحِينَ } قاصدين الصلاح ، والتوبة من الذنب ، والإخلاص للطاعة فلا يضركم ما وقع من الذنب الذي تبتم عنه . { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً } أي الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة ، وعن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص . غفوراً لما فرط منهم من قول أو فعل أو اعتقاد ، فمن تاب تاب الله عليه ، ومن رجع إلى الله رجع الله إليه . ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال { وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً لغيره من الأمة ، أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله { وَقَضَىٰ رَبُّكَ } الإسراء 23 والمراد بذي القربى ذو القرابة ، وحقهم هو صلة الرحم التي أمر الله بها ، وكرّر التوصية فيها . والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة ، أو لبعضهم كالوالدين على الأولاد . والأولاد على الوالدين معروف ، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة وحسبما يقتضيه الحال { وَٱلْمَسَـٰكِين } معطوف على { ذا القربى } ، وفي هذا العطف دليل على أن المراد بالحق الحق المالي { وَٱبْن ٱلسَّبِيلِ } معطوف على المسكين ، والمعنى وآت من اتصف بالمسكنة ، أو بكونه من أبناء السبيل حقه . وقد تقدّم بيان حقيقة المسكين وابن السبيل في البقرة ، وفي التوبة ، والمراد في هذه الآية التصدّق عليهما بما بلغت إليه القدرة من صدقة النفل ، أو مما فرضه الله لهما من صدقة الفرض ، فإنهما من الأصناف الثمانية التي هي مصرف الزكاة . ثم لما أمر سبحانه بما أمر به ها هنا ، نهى عن التبذير فقال { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } التبذير تفريق المال كما يفرّق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه ، وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحدّ المستحسن شرعاً في الإنفاق ، أو هو الإنفاق في غير الحق ، وإن كان يسيراً . قال الشافعي التبذير إنفاق المال في غير حقه ، ولا تبذير في عمل الخير . قال القرطبيّ بعد حكايته القول الشافعي هذا وهذا قول الجمهور . قال أشهب عن مالك التبذير هو أخذ المال من حقه ، ووضعه في غير حقه ، وهو الإسراف ، وهو حرام لقوله { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ } فإن هذه الجملة تعليل للنهي عن التبذير ، والمراد بالأخوة الممائلة التامة ، وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة من خصاله واجب ، فكيف فيما هو أعمّ من ذلك كما يدلّ عليه إطلاق المماثلة ، والإسراف في الإنفاق من عمل الشيطان ، فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به { وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا } أي كثير الكفران عظيم التمرّد عن الحق ، لأنه مع كفره لا يعمل إلاّ شراً ، ولا يأمر إلاّ بعمل الشرّ ، ولا يوسوس إلاّ بما لا خير فيه . وفي هذه الآية تسجيل على المبذرين بمماثلة الشياطين ، ثم التسجيل على جنس الشيطان بأنه كفور ، فاقتضى ذلك أن المنذر مماثل للشيطان ، وكل مماثل للشيطان له حكم الشيطان ، وكل شيطان كفور ، فالمبذر كفور . { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } قد تقدّم قريباً أن أصل « إما » هذه مركب من " إن " الشرطية و " ما " الإبهامية ، وأن دخول نون التأكيد على الشرط لمشابهته للنهي أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض { ٱبْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ } أي لفقد رزق من ربك ، ولكنه أقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق ، لأن فاقد الرزق مبتغٍ له ، والمعنى وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح الله به عليك { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } أي قولاً سهلاً ليناً كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول . قال الكسائي يسرت له القول أي لينته . قال الفراء معنى الآية إن تعرض عن السائل إضاقة وإعساراً { فقل لهم قولاً ميسوراً } عدهم عدة حسنة . ويجوز أن يكون المعنى وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولاً ميسوراً ، وليس المراد هنا الإعراض بالوجه . وفي هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون . ربما يردّون ، ولقد أحسن من قال @ إنْ لا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْماً أَجُوُد بِها لِلسَائِلين فإنِّي لينّ العُودِ لا يَعْدم السَائِلوُنَ الخْيرَ مِنْ خُلِقي إمَّا نَوالٌ وإمَّا حُسنُ مَرْدُودِ @@ لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بيّن أدب الإنفاق فقال { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } وهذا النهي يتناول كل مكلف ، سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته وتعليماً لهم ، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين . والمراد النهي للإنسان بأن يمسك إمساكاً يصير به مضيقاً على نفسه وعلى أهله ، ولا يوسع في الإنفاق توسيعاً لا حاجة إليه ، بحيث يكون به مسرفاً ، فهو نهى عن جانبي الإفراط والتفريط . ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط ، وهو العدل الذي ندب الله إليه @ ولا تك فيها مُفْرِطاً أو مفَرِّطا كلا طرفي قصد الأمور ذميم @@ وقد مثّل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه ، بحيث لا يستطيع التصرّف بها ، ومثّل حال من يجاوز الحدّ في التصرف بحال من يبسط يده بسطاً لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه ، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة . ثم بيّن سبحانه غائلة الطرفين المنهيّ عنهما فقال { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح { مَّحْسُوراً } بسبب ما فعلته من الإسراف ، أي منقطعاً عن المقاصد بسبب الفقر ، والمحسور في الأصل المنقطع عن السير ، من حسره السفر إذا بلغ منه ، والبعير الحسير هو الذي ذهبت قوّته فلا انبعاث به ، ومنه قوله تعالى { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } الملك 4 . أي كليل منقطع وقيل معناه نادماً على ما سلف ، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة ، وفيه نظر ، لأن الفاعل من الحسرة حسران . ولا يقال محسور إلاّ للملوم . ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله سبحانه ، ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } أي يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة لا لكون من وسع له رزقه مكرماً عنده ، ومن ضيقه عليه هائناً لديه . قيل ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه . فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا . ثم علل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي يعلم ما يسرون وما يعلنون ، لا يخفى عليه من ذلك خافية ، فهو الخبير بأحوالهم ، البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم ، وفي هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده ، فلذلك قال بعدها { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ } أملق الرجل لم يبق له إلاّ الملقات ، وهي الحجارة العظام الملس ، قال الهذلي يصف صائداً @ أتيح لها أقيدر ذو خشيف إذا سامت على الملقات ساما @@ الأقيدر تصغير الأقدر وهو الرجل القصير ، والخشيف من الثياب الخلق ، وسامت مرّت ، ويقال أملق إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده . قال أوس @ وأملق ما عندي خطوب تنبل @@ نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر ، وقد كانوا يفعلون ذلك ، ثم بيّن لهم أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له ، فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده ، يرزق الأبناء كما يرزق الآباء ، فقال { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع ، وقد مرّ مثل هذه الآية في الأنعام ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } . قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز المقصور . وقرأ ابن عامر خطأ بفتح الخاء والطاء والقصر في الهمز ، يقال خطىء في دينه خطئاً إذا أثم ، وأخطأ إذا سلك سبيل خطأً عامداً أو غير عامد . قال الأزهري ، خطىء يخطأ خطئاً ، مثل أثم يأثم إثماً ، إذا تعمد الخطأ ، وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ ، قال الشاعر @ دَعِيني إنمَّا خَطْئِي وصَوْبِي عليَّ وأَنَّ مَا أهلكتُ ، مالُ @@ والخطأ الاسم يقوم مقام الأخطاء ، وفيه لغتان القصر ، وهو الجيد ، والمدّ وهو قليل . وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمز . قال النحاس ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً ، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً . وقرأ الحسن خطا بفتح الخاء والطاء منوّنة من غير همز . ولما نهى سبحانه عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ، ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى ذلك لما فيه من اختلاط الأنساب فقال { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ } وفي النهي عن قربانه بمباشرة مقدماته نهي عنه بالأولى ، فإن الوسيلة إلى الشيء إذا كانت حراماً كان المتوسل إليه حراماً بفحوى الخطاب ، والزنى فيه لغتان المد ، والقصر . قال الشاعر @ كَانَتْ فَرِيضةُ مَا تَقُولُ كَمَا كان الزناء فريضةَ الرَّجْمِ @@ ثم علل النهي عن الزنا بقوله { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي قبيحاً متبالغاً في القبح ، مجاوزاً للحدّ { وَسَاء سَبِيلاً } أي بئس طريقاً طريقه ، وذلك لأنه يؤدي إلى النار ، ولا خلاف في كونه من كبائر الذنوب . وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم . ولما فرغ من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد ، وعن النهي عن الزنا الذي يفضي إلى ما يفضي إليه قتل الأولاد ، من اختلاط الأنساب ، وعدم استقرارها ، نهى عن قتل الأنفس المعصومة على العموم فقال { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } . والمراد بالتي حرّم الله التي جعلها معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد . والمراد بالحق الذي استثناه هو ما يباح به قتل الأنفس المعصومة في الأصل ، وذلك كالردّة ، والزنا من المحصن ، وكالقصاص من القاتل عمداً عدواناً ، وما يلتحق بذلك . والاستثناء مفرّغ ، أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلاّ بسبب متلبس بالحق ، أو إلاّ متلبسين بالحق ، وقد تقدّم الكلام في هذا في الأنعام . ثم بين حكم بعض المقتولين بغير حق فقال { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا } أي لا بسبب من الأسباب المسوّغة لقتله شرعاً { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـٰناً } أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين ، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين ، والسلطان التسلط على القاتل ، إن شاء قتل ، وإن شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدية . ثم لما بيّن إباحة القصاص ، لمن هو مستحق لدم المقتول ، أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحدّ فقال { فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ } أي لا يجاوز ما أباحه الله له ، فيقتل بالواحد اثنين أو جماعة ، أو يمثل بالقاتل أو يعذبه . قرأ الجمهور { لا يسرف } بالياء التحتية ، أي الولي ، وقرأ حمزة والكسائي تسرف بالتاء الفوقية ، وهو خطاب للقاتل الأوّل ، ونهي له عن القتل أي فلا تسرف أيها القاتل بالقتل فإن عليك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته . وقال ابن جرير الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأئمة من بعده ، أي لا تقتل يا محمد غير القاتل ، ولا يفعل ذلك الأئمة بعدك . وفي قراءة أبي ولا تسرفوا ، ثم علل النهي عن السرف فقال { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } أي مؤيداً معاناً ، يعني الولي ، فإن الله سبحانه قد نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج ، وأوضحه من الأدلة ، وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه ، ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى المقتول ، أي إن الله نصره بوليّه ، قيل وهذه الآية من أوّل ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكية . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { إِن تَكُونُواْ صَـٰلِحِينَ } قال تكون البادرة من الولد إلى الوالد ، فقال الله { إِن تَكُونُواْ صَـٰلِحِينَ } إن تكن النية صادقة { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً } للبادرة التي بدرت منه ، وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي في الشعب عنه في قوله { إِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً } قال الرجاعين إلى الخير . وأخرج سعيد بن منصور ، وهناد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن الضحاك في الآية ، قال الرجاعين من الذنب إلى التوبة ، ومن السيئات إلى الحسنات . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { لِلأوَّابِينَ } قال للمطيعين المحسنين . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه ، قال للتوابين . وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } قال أمره بأحقّ الحقوق ، وعلمه كيف يصنع إذا كان عنده ، وكيف يصنع إذا لم يكن عنده ، فقال { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا } قال إذا سألوك وليس عندك شيء انتظرت رزقاً من الله { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } يكون إن شاء الله يكون شبه العدة . قال سفيان والعدة من النبي صلى الله عليه وسلم دين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال هو أن تصل ذا القرابة ، وتطعم المسكين ، وتحسن إلى ابن السبيل . وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين أنه قال لرجل من أهل الشام أقرأت القرآن ؟ قال نعم ، قال فما قرأت في بني إسرائيل { وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } ؟ قال وإنكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتي حقهم ؟ قال نعم . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية ، قال والقربى قربى بني عبد المطلب . وأقول ليس في السياق ما يفيد هذا التخصيص ، ولا دلّ على ذلك دليل ، ومعنى النظم القرآني واضح ، إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة ، لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم وهو الصلة التي أمر الله بها . وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان على وجه التعريض لأمته فالأمر فيه كالأوّل ، وإن كان خطاباً له من دون تعريض ، فأمته أسوته ، فالأمر له صلى الله عليه وسلم بإيتاء ذي القربى حقه ، أمر لكل فرد من أفراد أمته ، والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما قبل هذه الآية ، وهي قوله { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ } الأسراء 23 وما بعدها ، وهي قوله { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ } . وفي معنى هذه الآية الدالة على وجوب صلة الرحم أحاديث كثيرة . وأخرج أحمد ، والحاكم وصححه عن أنس أن رجلاً قال يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة ، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع ؟ قال " تخرج الزكاة المفروضة ، فإنها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حقّ السائل والجار والمسكين " ، فقال يا رسول الله أقلل لي ؟ قال " فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً " قال حسبي يا رسول الله . وأخرج البزار ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت هذه الآية { وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت { وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فدك . قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أبي سعيد هذا ما لفظه وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده ، لأن الآية مكية ، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة ، فكيف يلتئم هذا مع هذا ؟ انتهى . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبخاري في الأدب ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } قال التبذير إنفاق المال في غير حقه . وأخرج ابن جرير عنه قال كنا - أصحاب محمد - نتحدّث أن التبذير النفقة في غير حقه . وأخرج سعيد بن منصور ، والبخاري في الأدب ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ } قال هم الذين ينفقون المال في غير حقه . وأخرج البيهقي في الشعب عن عليّ قال ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فلك ، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } قال العدة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن يسار أبي الحكم قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برّ من العراق ، وكان معطاء كريماً ، فقسمه بين الناس ، فبلغ ذلك قوماً من العرب ، فقالوا إنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم نسأله ، فوجدوه وقد فرغ منه ، فأنزل الله { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } قال محبوسة { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا } يلومك الناس { مَّحْسُوراً } ليس بيدك شيء . أقول ولا أدري كيف هذا ؟ فالآية مكية ، ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحمل إليه شيء من العراق ولا مما هو أقرب منه ، على أن فتح العراق لم يكن إلاّ بعد موته صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير عن المنهال بن عمرو بعثت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بابنها فقالت قل له اكسني ثوباً ، فقال " ما عندي شيء " ، فقالت ارجع إليه فقل له اكسني قميصك ، فرجع إليه ، فنزع قميصه فأعطاها إياه ، فنزلت { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } الآية . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه . وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وضرب بيده " أنفقي ما على ظهر كفي " ، قالت إذن لا يبقى شيء . قال ذلك ثلاث مرات ، فأنزل الله { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } الآية ، ويقدح في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوّج بعائشة إلاّ بعد الهجرة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } قال يعني بذلك البخل . وأخرجا عنه في الآية قال هذا في النفقة ، يقول لا تجعلها مغلولة لا تبسطها بخير ، ولا تبسطها كل البسط ، يعني التبذير { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } ، يلوم نفسه على ما فاته من ماله { مَّحْسُوراً } ذهب ماله كله . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } قال ينظر له ، فإن كان الغنى خيراً له ، أغناه ، وإن كان الفقر خيراً له ، أفقره . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ } قال مخافة الفقر والفاقة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله { خطأ } قال خطيئة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا } قال يوم نزلت هذه الآية لم يكن حدود ، فجاءت بعد ذلك الحدود في سورة النور . وأخرج أبو يعلى ، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب أنه قرأ { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فَـٰحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً إِلاَّ مَن تَابَ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } فذكر لعمر ، فأتاه فسأله ، فقال أخذتها من فيّ رسول الله ، وليس لك عمل إلاّ الصفق بالبقيع . وقد ورد في الترهيب عن فاحشة الزنا أحاديث كثيرة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن الضحاك في قوله { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ … } الآية ، قال هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها ، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل ، كان المشركون من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله من قتلكم من المشركين ، فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أباً أو أخاً أو واحداً من عشيرته وإن كانوا مشركين ، فلا تقتلوا إلاّ قاتلكم ، وهذا قبل أن تنزل براءة ، وقبل أن يؤمر بقتال المشركين ، فذلك قوله { فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } يقول لا تقتل غير قاتلك ، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلاّ قاتلهم . وأخرج البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلاً لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلاً شريفاً ، إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره ، فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ … } إلى قوله { فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـٰناً } قال بينة من الله أنزلها ، يطلبها وليّ المقتول ، القود أو العقل ، وذلك السلطان . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عنه { فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ } قال لا يكثر في القتل . وأخرج ابن المنذر من طريق أبي صالح عنه أيضاً لا يقاتل إلاّ قاتل رحمه .