Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 54-59)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم ، وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال الواضحة ، حكى بعض أهوال الآخرة فقال { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } أي كرّرنا ورددنا { فِى هَـٰذَا القرآن للناس } أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم { مِن كُلّ مَثَلٍ } من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل ، وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدال بالباطل ، ختم الآية بقوله { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } قال الزجاج المراد بالإنسان الكافر ، واستدل على أن المراد الكافر بقوله تعالى { وَيُجَـٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَـٰطِلِ } وقيل المراد به في الآية النضر بن الحارث ، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال جدلاً ، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً ، فقال " ألا تصليان ؟ " فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً ، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } ، وانتصاب جدلاً على التمييز . { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأوَّلِينَ } قد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل ، وذكرنا أنّ أن الأولى في محل نصب ، والثانية في محل رفع ، والهدى القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ، والناس هنا هم أهل مكة ، والمعنى على حذف مضاف ، أي ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأوّلين ، أو انتظار إتيان سنة الأوّلين ، وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل ، وسنة الأوّلين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال . قال الزجاج سنّتهم هو قولهم { إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } الآية الأنفال 2 { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي عذاب الآخرة { قُبُلاً } قال الفراء إن قبلاً جمع قبيل ، أي متفرقاً يتلو بعضه بعضاً ، وقيل عياناً ، وقيل فجأة . ويناسب ما قاله الفراء قراءة أبي جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ويحيـى بن وثاب وخلف { قُبُلاً } بضمتين فإنه جمع قبيل ، نحو سبيل وسبل ، والمراد أصناف العذاب ، ويناسب التفسير الثاني ، أي عياناً ، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء أي مقابلة ومعاينة ، وقرىء بفتحتين على معنى أو يأتيهم العذاب مستقبلاً ، وانتصابه على الحال . فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم ، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته . { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ } من رسلنا إلى الأمم { إِلا } حال كونهم { مُبَشّرِينَ } للمؤمنين { وَمُنذِرِينَ } للكافرين . فالاستثناء مفرّغ من أعمّ العام ، وقد تقدّم تفسير هذا { وَيُجَـٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } أي ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه وأصل الدحض الزلق يقال دحضت رجله ، أي زلقت تدحض دحضاً ، ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ، ودحضت حجته دحوضاً . بطلت ، ومن ذلك قول طرفة @ أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض @@ ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل { مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } الشعراء 154 . ونحو ذلك { وَٱتَّخَذُواْ ءايَـٰتِى } أي القرآن { وَمَا أُنْذِرُواْ } به من الوعيد والتهديد { هزؤا } أي لعباً وباطلاً ، وقد تقدّم هذا في البقرة . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِـئَايِـٰتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها وأعرض عن قبولها ، ولم يتدبرها حقّ التدبر ويتفكر فيها حق التفكر { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } من الكفر والمعاصي ، فلم يتب عنها . قيل والنسيان هنا بمعنى الترك ، وقيل هو على حقيقته { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } أي أغطية ، والأكنة جمع كنان ، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم . قال الزجاج أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم { وفي آذنهم وقرا } أي وجعلنا في آذانهم ثقلاً يمنع من استماعه ، وقد تقدّم تفسير هذا في الأنعام { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً } لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم . { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ } أي كثير المغفرة ، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة ، ولهذا قال { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ } أي بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض { لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ } لاستحقاقهم لذلك { بَلِ } جعل { لَّهُم مَّوْعِدٌ } أي أجل مقدّر لعذابهم ، قيل هو عذاب الآخرة ، وقيل يوم بدر { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } أي ملجأً يلجئون إليه . وقال أبو عبيدة منجاً ، وقيل محيصاً ، ومنه قول الشاعر @ لا وا ألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم @@ وقال الأعشى @ وقد أخالس ربّ البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل @@ أي ما ينجو . { وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ } أي قرى عاد وثمود وأمثالها { أَهْلَكْنَـٰهُمْ } هذا خبر اسم الإشارة و { القرى } صفته ، والكلام على حذف مضاف ، أي أهل القرى أهلكناهم { لَمَّا ظَلَمُواْ } أي وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } أي وقتاً معيناً ، وقرأ عاصم مهلكهم بفتح الميم واللام ، وهو مصدر هلك ، وأجاز الكسائي والفراء كسر اللام وفتح الميم ، وبذلك قرأ حفص ، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام . وقال الزجاج مهلك اسم للزمان ، والتقدير لوقت مهلكهم . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأوَّلِينَ } قال عقوبة الأولين . وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله { قُبُلاً } قال جهاراً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال فجأة . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } قال نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة . وأخرج أيضاً عن ابن عباس { بِمَا كَسَبُواْ } يقول بما عملوا . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } قال الموعد يوم القيامة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { مَوْئِلاً } قال ملجأ . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { مَوْئِلاً } قال محرزاً .