Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 41-50)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَٱذْكُرْ } معطوف على " وأنذر " ، والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرٰهِيمَ } الشعراء 69 ، وجملة { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً } تعليل لما تقدّم من الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يذكره ، وهي معترضة ما بين البدل والمبدل منه ، والصدّيق كثير الصدق ، وانتصاب { نبياً } على أنه خبر آخر لكان ، أي اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين ، و { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ } بدل اشتمال من إبراهيم ، وتعليق الذكر الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة ، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدّم تقريره ، التاء في { يا أبت } عوض عن الياء ، ولهذا لا يجتمعان ، والاستفهام في { لِمَ تَعْبُدُ } للإنكار والتوبيخ { مَا لاَ يَسْمَعُ } ما تقوله من الثناء عليه والدعاء له { وَلاَ يَبْصِرُ } ما تفعله من عبادته ومن الأفعال التي تفعلها مريداً بها الثواب ، يجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعمّ من ذلك ، أي لا يسمع شيئاً من المسموعات ، ولا يبصر شيئاً من المبصرات { وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } من الأشياء ، فلا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضرراً ، وهي الأصنام التي كان يعبدها آزر . أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح ، وصدّر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلبه ، وامتثالاً لأمر ربه . ثم كرّر دعوته إلى الحق فقال { يٰأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ } فأخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه ، وأنه قد تجدّد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق ، ويقتدر به على إرشاد الضالّ ، ولهذا أمره باتباعه فقال { فَٱتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } مستوياً موصلاً إلى المطلوب منجياً من المكروه . ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ } أي لا تطعه ، فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان ، ثم علل ذلك بقوله { إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } حين ترك ما أمر به من السجود لآدم ، ومن أطاع من هو عاصٍ لله سبحانه فهو عاصٍ لله ، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم وتحلّ به النقم . قال الكسائي العصيّ والعاصي بمعنى واحد . ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال { يٰأَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } قال الفراء معنى أخاف هنا أعلم . وقال الأكثرون إن الخوف هنا محمول على ظاهره ، لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر ، إذ لو كان جازماً بذلك لم يشتغل بنصحه ، ومعنى الخوف على الغير هو أن يظنّ وصول الضرر إلى ذلك الغير { فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيّاً } أي إنك إذا أطعت الشيطان كنت معه في النار واللعنة ، فتكون بهذا السبب موالياً ، أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه ، وليس هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه { ٱلاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } الزخرف 67 . وقيل الوليّ بمعنى التالي . وقيل الوليّ بمعنى القريب ، أي تكون للشيطان قريباً منه في النار ، فلما مرّت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة ، فقَال { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى يٰإِبْرٰهِيمُ } والاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب ، والمعنى أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره ؟ ثم توعده فقال { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } أي بالحجارة . وقيل باللسان ، فيكون معناه لأشتمنك . وقيل معناه لأضربنك . وقيل لأظهرنّ أمرك { وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } أي زماناً طويلاً . قال الكسائي يقال هجرته ملياً وملوة وملاوة ، بمعنى الملاوة من الزمان ، وهو الطويل ، ومنه قول مهلهل @ فتصدّعت صمّ الجبال لموته وبكت عليه المرملات ملياً @@ وقيل معناه اعتزلني سالم العرض لا تصيبك مني معرّة ، واختار هذا ابن جرير ، فملياً على هذا منتصب على الحال من إبراهيم وعلى القول الأوّل منتصب على الظرفية ، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد { قَالَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ } أي تحية توديع ومتاركة كقوله { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } الفرقان 63 . وقيل معناه أمنة مني لك ، قاله ابن جرير . وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله ، والأوّل أولى ، وبه قال الجمهور . وقيل معناه الدعاء له بالسلامة ، استمالة له ورفقاً به ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفاً له وطمعاً في لينه وذهاب قسوته @ والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه @@ وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على الكفر ، وتحق عليه الكلمة ، ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } . بعد قوله { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } التوبة 114 وجملة { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } تعليل لما قبلها والمعنى سأطلب لك المغفرة من الله ، فإنه كان بي كثير البرّ واللطف . يقال حفي به وتحفّى إذا برّه . قال الكسائي يقال حفي بي حفاوة وحفوة . وقال الفراء إنه كان بي حفياً ، أي عالماً لطيفاً يجيبني إذا دعوته . ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي { وَٱدْعُواْ رَبّي } وحده { عَسَىٰ أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا } أي خائباً . وقيل عاصياً . قيل أراد بهذا الدعاء هو أن يهب الله له ولداً وأهلاً يستأنس بهم في اعتزاله ويطمأن إليهم عند وحشته . وقيل أراد دعاءه لأبيه بالهداية ، وعسى للشك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا ، والأوّل أولى لقوله { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } أي جعلنا هؤلاء الموهوبين له ، أهلاً وولداً بدل الأهل الذين فارقهم { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } أي كل واحد منهما ، وانتصاب { كلا } على أنه المفعول الأوّل لجعلنا قدّم عليه للتخصيص ، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم أي كل واحد منهم جعلنا نبياً ، لا بعضهم دون بعض { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } بأن جعلناهم أنبياء ، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوّة هي من باب الرحمة . وقيل المراد بالرحمة هنا المال ، وقيل الأولاد ، وقيل الكتاب ، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } لسان الصدق الثناء الحسن ، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به كما عبر باليد عن العطية . وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد . وقد أخرج ابن المنذر . وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { لأرْجُمَنَّكَ } قال لأشتمنك { وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } قال حيناً . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } قال اجتنبني سوياً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة . وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير وعكرمة { مَلِيّاً } دهراً . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال سالماً . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } قال لطيفاً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } قال يقول وهبنا له إسحاق ويعقوب ابن ابنه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } قال الثناء الحسن .