Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 73-80)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الضمير في { عَلَيْهِمْ } راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله { أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أي هؤلاء إذا قرىء عليهم القرآن تعذروا بالدنيا ، وقالوا لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ، ولم يكن بالعكس ، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعزّ أعداءه ، ومعنى البينات الواضحات التي لا تلتبس معانيها . وقيل ظاهرات الإعجاز . وقيل إنها حجج وبراهين ، والأوّل أولى . وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم . وقيل المراد بالذين كفروا هنا هم المتمردّون المصرّون منهم ، ومعنى قالوا { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } قالوا لأجلهم . وقيل هذه اللام هي لام التبليغ كما في قوله { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ } البقرة 247 أي خاطبوهم بذلك وبلغوا القول إليهم { أَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً } المراد بالفريقين المؤمنون والكافرون ، كأنهم قالوا أفريقنا خير أم فريقكم ؟ قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد " مقاماً " بضم الميم ، وهو موضع الإقامة ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإقامة ، وقرأ الباقون بالفتح أي منزلاً ومسكناً . وقيل المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة ، والمعنى أي الفريقين أكبر جاهاً وأكثر أنصاراً وأعواناً ، والنديّ والنادي مجلس القوم ومجتمعهم ، ومنه قوله تعالى { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } العنكبوت 29 . وناداه جالسه في النادي ، ومنه دار الندوة ، لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم ، ومنه أيضاً قول الشاعر @ أنادي به آل الوليد جعفرا @@ { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } القرن الأمة والجماعة { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا } الأثاث المال أجمع ، الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع . وقيل هو متاع البيت خاصة . وقيل هو الجديد من الفرش . وقيل اللباس خاصة . واختلفت القراءات في { ورئياً } فقرأ أهل المدينة وابن ذكوان " ورياً " بياء مشدّدة ، وفي ذلك وجهان أحدهما أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء والمعنى على هذه القراءة هم أحسن منظراً وبه قول جمهور المفسرين ، وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس ، أو حسن الأبدان وتنعمها ، أو مجموع الأمرين . وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير " ورئياً " بالهمز ، وحكاها ورش عن نافع ، وهشام عن ابن عامر ، ومعناها معنى القراءة الأولى . قال الجوهري من همز جعله من المنظر من رأيت ، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة ، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي @ أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث @@ ومن لم يهمز إما أن يكون من تخفيف الهمزة ، أو يكون من رويت ألوانهم أو جلودهم رياً ، أي امتلأت وحسنت . وقد ذكر الزجاج معنى هذا كما حكاه عنه الواحدي . وحكى يعقوب أن طلحة بن مصرف قرأ بياء واحدة خفيفة ، فقيل إن هذه القراءة غلط ، ووجهها بعض النحويين أنه كان أصلها الهمزة فقلبت ياء ثم حذفت إحدى الياءين ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالزاي مكان الراء ، وروي مثل ذلك عن أبيّ بن كعب وسعيد بن جبير والأعصم المكي واليزيدي . والزيّ الهيئة والحسن . قيل ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت ، فيكون أصلها زوياً فقلبت الواو ياء ، والزيّ محاسن مجموعة . { قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَـٰلَةِ } أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية ، أي من كان مستقرّاً في الضلالة { فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } هذا وإن كان على صيغة الأمر ، فالمراد به الخبر ، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة ، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال ، ويقال لهم يوم القيامة { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } فاطر 37 . أو للاستدراج كقوله سبحانه { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } آل عمران 178 وقيل المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس . قال الزجاج تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمدّه فيها ، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول أفعل ذلك وآمر به نفسي { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } يعني الذين مدّ لهم في الضلالة ، وجاء بضمير الجماعة اعتباراً بمعنى من ، كما أن قوله { كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ } اعتبار بلفظها ، وهذه غاية للمدّ ، لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد { إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ } هذا تفصيل لقوله { ما يوعدون } أي هذا الذي توعدون هو أحد أمرين إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر ، وإما يوم القيامة وما يحلّ بهم حينئذٍ من العذاب الأخروي { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } هذا جواب الشرط ، وهو جواب على المفتخرين ، أيّ هؤلاء القائلون { أيّ الفريقين خير مقاماً } إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين ، أو الأخروي ، فسيعلمون عند ذلك من هو شرّ مكاناً من الفريقين ، وأضعف جنداً منهما ، أي أنصاراً وأعواناً . والمعنى أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شرّ مكاناً لا خير مكاناً ، وأضعف جنداً لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جنداً ضعفاء ، بل لا جند لهم أصلاً كما في قوله سبحانه { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } الكهف 43 . ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة ، أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال { وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى } وذلك أن بعض الهدى يجرّ إلى البعض الآخر ، والخير يدعو إلى الخير وقيل المراد بالزيادة العبادة من المؤمنين ، والواو في { ويزيد } للاستئناف ، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين وقيل الواو للعطف على { فليمدد } وقيل للعطف على جملة { من كان في الضلالة } . قال الزجاج المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقيناً كما جعل جزاء الكافرين أن يمدّهم في ضلالتهم { وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } هي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية ، ومعنى كونها خيراً عند الله ثواباً أنها أنفع عائدة مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } المردّ ها هنا مصدر كالردّ ، والمعنى وخير مردّاً للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها ، والمردّ المرجع والعاقبة والتفضل للتهكم بهم للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلاً . ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِـئَايَـٰتِنَا } أي أخبرني بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب حديث أولئك ، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر ، لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه ، والآيات تعمّ كل آية ومن جملتها آية البعث ، والفاء للعطف على مقدّر يدل عليه المقام ، أي أنظرت فرأيت ، واللام في { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } هي الموطئة للقسم ، كأنه قال والله لأوتينّ في الآخرة مالاً وولداً ، أي أنظر إلى حال هذا الكافر وتعجب من كلامه وتأليه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته . ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله ، فقال { أَطَّلَعَ } على { ٱلْغَيْبَ } أي أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة { أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } بذلك ، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين وقيل المعنى أنظر في اللوح المحفوظ ؟ أم اتخذ عند الرحمٰن عهداً وقيل معنى { أم اتخذ عند الرحمن عهداً } أم قال لا إلٰه إلا الله فأرحمه بها . وقيل المعنى أم قدّم عملاً صالحاً فهو يرجوه . واطلع مأخوذ من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه . وقرأ حمزة والكسائي ويحيـى بن وثاب والأعمش " وولداً " بضم الواو ، والباقون بفتحها ، فقيل هما لغتان معناهما واحد ، يقال ولد وولد كما يقال عدم وعُدم ، قال الحارث بن حلزّة @ ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالاً وولداً @@ وقال آخر @ فليت فلاناً كان في بطن أمه وليت فلاناً كان ولد حمار @@ وقيل الولد بالضم للجمع وبالفتح للواحد . وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله { لأوتينّ مالاً وولداً } أنه يؤتى ذلك في الدنيا . وقال جماعة في الجنة ، وقيل المعنى إن أقمت على دين آبائي لأوتين . وقيل المعنى لو كنت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً . { كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } " كلا " حرف ردع وزجر ، أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد ، سيكتب ما يقول أي سنحفظ عليه ما يقوله فنجاز به في الآخرة ، أو سنظهر ما يقول ، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً } أي نزيده عذاباً فوق عذابه مكان ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد ، أو نطوّل له من العذاب ما يستحقه وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء . { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي نميته فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه . والمعنى مسمى ما يقول ومصداقه . وقيل المعنى نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره . { وَيَأْتِينَا فَرْداً } أي يوم القيامة لا مال له ولا ولد ، بل نسلبه ذلك ، فكيف يطمع في أن نؤتيه . وقيل المراد بما يقول نفس القول لا مسماه ، والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حياً ، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه ، والأوّل أولى . وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { أَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً } قال قريش تقوله لها ولأصحاب محمد . وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { خَيْرٌ مَّقَاماً } قال المنازل { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } قال المجالس ، وفي قوله { أَحْسَنُ أَثَاثاً } قال المتاع والمال { ورئياً } قال المنظر . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } فليدعه الله في طغيانه . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبيّ « قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة » . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } من حديث خباب بن الأرت قال كنت رجلاً قيناً وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك ، فأنزل الله فيه هذه الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } قال لا إلٰه إلا الله يرجو بها . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } قال ماله وولده .