Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 125-128)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { عَهِدْنَا } معناه هنا أمرنا أو أوجبنا . وقوله { أَن طَهّرَا } في موضع نصب بنزع الخافض ، أي بأن طهراً قاله الكوفيون ، وقال سيبويه هو بتقدير أي المفسرة أي أن طهراً ، فلا موضع لها من الإعراب ، والمراد بالتطهير قيل من الأوثان ، وقيل من الآفات ، والريب . وقيل من الكفار . وقيل من النجاسات ، وطواف الجنب ، والحائض ، وكل خبيث . والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع ، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير ، فهو يتناوله ، إما تناولاً شمولياً أو بدلياً . والإضافة في قوله { بَيْتِىَ } للتشريف والتكريم ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وأهل المدينة ، وهشام ، وحفص « بيتي » بفتح الياء ، وقرأ الآخرون بإسكانها . والطائف الذي يطوف به . وقيل الغريب الطارىء على مكة . والعاكف المقيم وأصل العكوف في اللغة اللزوم ، والإقبال على الشيء ، وقيل هو المجاور دون المقيم من أهلها ، والمراد بقوله { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } المصلون ، وخص هذين الركنين بالذكر لأنهما أشرف أركان الصلاة . وقوله { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ } ستأتي الأحاديث الدالة على أن إبراهيم هو الذي حرّم مكة ، والأحاديث الدالة على أن الله حرّمها يوم خلق السموات والأرض ، والجمع بين هذه الأحاديث في هذا البحث . وقوله { بَلَدًا آمِنًا } أي مكة ، والمراد الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } الحاقة 21 أي راض صاحبها . وقوله { مَنْ ءامَنَ } بدل من قول أهلَه ، أي ارزق من آمن من أهله دون من كفر . وقوله { وَمَن كَفَرَ } الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه ردّاً على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم ، أي وارزق من كفر ، فأمتعه بالرزق قليلاً ، ثم أضطره إلى عذاب النار ، ويحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً بياناً لحال من كفر ، ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية ، أي من كفر ، فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق ، { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } بعد هذا التمتيع { إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ } فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم في هذه الدنيا ، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شرّ محض ، وهو عذاب النار وأما على قراءة من قرأ { فَأُمَتّعُهُ } بصيغة الأمر ، وكذلك قوله { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } بصيغة الأمر ، فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم ، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلاً ، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار . ومعنى { أَضْطَرُّهُ } ألزمه حتى صيره مضطراً لذلك لا يجد عنه مخلصاً ، ولا منه متحوّلاً . قوله { وَإِذْ يَرْفَعُ } هو حكاية لحال ماضية استحضاراً لصورتها العجيبة . والقواعد الأساس ، قاله أبو عبيدة والفراء . وقال الكسائي هي الجدر . والمراد برفعها رفع ما هو مبنيّ فوقها لا رفعها في نفسها ، فإنها لم ترتفع ، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه ، كما يقال ارتفع البناء ، ولا يقال ارتفع أعالي البناء ، ولا أسافله . قوله { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } في محل الحال بتقدير القول ، أي قائلين ربنا . وقرأ أبيّ ، وابن مسعود « وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ، ويقولان ربنا تقبل منا » . وقوله { وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } أي اجعلنا ثابتين عليه ، أو زدنا منه . قيل المراد بالإسلام هنا مجموع الإيمان ، والأعمال . وقوله { وَمِن ذُرّيَّتِنَا } أي واجعل من ذريتنا ، و « من » للتبعيض ، أو للتبيين . وقال ابن جرير إنه أراد بالذرية العرب خاصة ، وكذا قال السهيلي . قال ابن عطية وهذا ضعيف لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به . والأمة الجماعة في هذا الموضع ، وقد تطلق على الواحد ، ومنه قوله تعالى { إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ } النحل 120 وتطلق على الدين ، ومنه { إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أمة } الزخرف 22 وتطلق على الزمان ، ومنه { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } يوسف 45 . وقوله { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } هي من الرؤية البصرية . وقرأ عمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، وابن كثير ، وابن محيصن ، وغيرهم « أرنا » بسكون الراء ، ومنه قول الشاعر @ أرِنَا إدَاوةَ عَبْد الله يَمْلؤُهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئواُ @@ والمناسك جمع نسك ، وأصله في اللغة الغسل ، يقال نسك ثوبه إذا غسله . وهو في الشرع اسم للعبادة ، والمراد هنا مناسك الحج . وقيل مواضع الذبح . وقيل جميع المتعبدات . وقوله { وَتُبْ عَلَيْنَا } قيل المراد بطلبهما للتوبة التثبيت لأنهما معصومان لا ذنب لهما . وقيل المراد تب على الظلمة منا . وقد أخرج ابن جرير ، عن عطاء قال { وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } أي أمرناه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } قال من الأوثان . وأخرج أيضاً عن مجاهد ، وسعيد بن جبير مثله ، وزادوا الريب ، وقول الزور ، والرجس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال إذا كان قائماً ، فهو من الطائفين ، وإذا كان جالساً ، فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً ، فهو من الركع السجود . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال هم العاكفون . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن إبراهيم حرَّم مكة ، وإني حرّمت المدينة ما بين لابَتَيْها ، فلا يصاد صيدها ، ولا يقطع عضاهها " كما أخرجه أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وغيرهم من حديث جابر . وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة ، منهم رافع بن خديج عند مسلم ، وغيره ، ومنهم أبو قتادة عند أحمد ، ومنهم أنس عند الشيخين ، ومنهم أبو هريرة عند مسلم ، ومنهم عليّ بن أبي طالب عند الطبراني في الأوسط ، ومنهم أسامة بن زيد عند أحمد ، والبخاري ، ومنهم عائشة عند البخاري . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات ، والأرض ، وهي حرام إلى يوم القيامة " أخرجه البخاري تعليقاً ، وابن ماجه من حديث صفية بنت شيبة . وأخرجه الشيخان ، وغيرهما من حديث ابن عباس . وأخرجه الشيخان ، وأهل السنن من حديث أبي هريرة ، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا ، ولا تعارض بين هذه الأحاديث ، فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرّمها ، وأنها لم تزل حرماً ، آمناً نسب إليه أنه حرّمها ، أي أظهر للناس حكم الله فيها ، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية ، وابن كثير . وقال ابن جرير إنها كانت حراماً ، ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم ، فحرّمها ، وتعبَّدهم بذلك . انتهى . وكلا الجمعين حسن . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن محمد بن مسلم الطائفي قال بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم فقال { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ } نقل الله الطائف من فلسطين . وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ، والأزرقي ، عن الزهري . وأخرج نحوه أيضاً الأزرقي عن بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم . وقد أخرج الأزرقي نحوها مرفوعاً من طريق محمد بن المنكدر . وأخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي قال دعا إبراهيم للمؤمنين ، وترك الكفار ، ولم يدع لهم بشيء ، قال الله { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ } الآية . وأخرج نحوه سفيان بن عيينة ، عن مجاهد . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { مَنْ ءامَنَ بالله } قال كأنّ إبراهيم احتجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله { وَمَن كَفَرَ } أيضاً فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين ، أخلق خلقاً لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلاً ، ثم أضطرهم إلى عذاب النار ، ثم قرأ ابن عباس { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء } الآية الإسراء 20 . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال قال أبَيّ بن كعب في قوله { وَمَن كَفَرَ } أن هذا من قول الربّ . وقال ابن عباس هذا من قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر ، فأمتعه قليلاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال القواعد أساس البيت ، وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وغيرهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قصة مطوّلة ، وآخرها في بناء البيت . قال فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر ، فوضعه له ، فقام عليه ، وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ } قال القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك . وقد أكثر المفسرون في تفسير هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت ، ومن أي أحجار الأرض بني ، وفي أي زمان عرف ، ومن حجه ؟ وما ورد فيه من الأدلة الدالة على فضله ، أو فضل بعضه كالحجر الأسود . وفي الدرّ المنثور من ذلك مالم يكن في غيره ، فليرجع إليه ، وفي تفسير ابن كثير بعض من ذلك ، ولما لم يكن ما ذكروه متعلقاً بالتفسير لم نذكره . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال كانا مسلمين ، ولكن سألاه الثبات . وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم ، قال مخلصين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله { وَمِن ذُرّيَّتِنَا } قال يعنيان العرب . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال قال إبراهيم ربّ ، أرنا مناسكنا ، فأتاه جبريل ، فأتى به البيت ، فقال ارفع القواعد ، فرفع القواعد ، وأتمّ البنيان ، ثم أخذ بيده ، فأخرجه ، فانطلق به نحو مِنىً ، فلما كان عند العتبة ، فإذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال كبر وارمه ، فكبر ورماه ، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة الوسطى ، ففعل به إبراهيم كما فعل في الأولى ، ثم كذلك في الجمرة الثالثة ، ثم أخذ جبريل بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال هذا المشعر الحرام ، ثم ذهب حتى أتى به عرفات ، قال وقد عرفت ما أريتك ؟ قالها ثلاثاً ، قال نعم . قال فأذِّن في الناس بالحج ، قال وكيف أؤذن ؟ قال قل ياأيها الناس ، أجيبوا ربكم ثلاث مرات ، فأجاب العباد لبيك اللهم لبيك ، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق ، فهو حاجّ . وأخرج ابن جرير من طريق ابن المسيب ، عن عليّ قال لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال قد فعلت أي ربّ ، فأرنا مناسكنا أبرزها لنا عَلِّمْنَاها ، فبعث الله جبريل ، فحجّ به . وفي الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة ، ومن بعدهم تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك ، وفي أكثرها أن الشيطان تعرّض له كما تقدّم عن مجاهد . وقد أخرج ابن خزيمة ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس نحو ذلك ، وكذلك أخرج عنه أحمد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي .