Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 142-143)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { سَيَقُولُ } هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، بأن السفهاء من اليهود ، والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . وقيل إن { سَيَقُولُ } بمعنى قال ، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته ، واستمرار عليه ، وقيل إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة ، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهوين لصدمته ، وتخفيف لروعته ، وكسراً لسَوْرته . والسفهاء جمع سفيه ، وهو الكذَّاب البَهَّات المعتقد خلاف ما يعلم ، كذا قال بعض أهل اللغة . وقال في الكشاف هم خفاف الأحلام ، ومثله في القاموس . وقد تقدّم في تفسير قوله { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } البقرة 130 ما ينبغي الرجوع إليه ، ومعنى { مَا وَلَّـٰهُمْ } ما صرفهم { عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا } وهي بيت المقدس . فردّ الله عليهم بقوله { قُل لّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } فله أن يأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء . وفي قوله { يَهْدِى مَن يَشَآء } إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولأهل ملته إلى الصراط المستقيم وقوله { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ } أي مثل ذلك الجعل جعلناكم ، قيل معناه وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا . والوسط الخيار ، أو العدل ، والآية محتملة للأمرين ، ومما يحتملهما قول زهير @ هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأنَامُ بِحُكْمِهِم إذَا نَزَلت إحْدَى الليالِي بِمُعْظِم @@ ومثله قول الآخر @ أنْتُم أوْسطُ حَيٍّ علِمُوا بِصَغِير الأمْرِ أو إحْدى الكُبرَ @@ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الوسط هنا بالعدل كما سيأتي ، فوجب الرجوع إلى ذلك ، ومنه قول الراجز @ لا تذهبنَّ في الأمور مفرطا لا تسألنّ إن سألتَ شطَطَا وكن مِن النَّاسِ جميعاً وسَطَاً @@ ولما كان الوسط مجانباً للغلو ، والتقصير كان محموداً ، أي هذه الأمة لم تغلُ غلوّ النصارى في عيسى ، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم ، ويقال فلان أوسط قومه وواسطتهم أي خيارهم . وقوله { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } أي يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم ، أنهم قد بلَّغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم ، ويكون الرسول شهيداً على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغه إليهم ، ومثله قوله تعالى { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً } النساء 41 ، قيل إن قوله { عَلَيْكُمْ } يعني لكم ، أي يشهد لهم بالإيمان . وقيل معناه يشهد عليكم بالتبليغ لكم . قال في الكشاف لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ، ومنه قوله تعالى { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } المجادلة 9 { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } المائدة 117 . انتهى . وقالت طائفة معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت . وقيل المراد لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا ، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول ، وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله . وإنما أخر لفظ « على » في شهادة الأمة على الناس ، وقدّمها في شهادة الرسول عليهم ، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم . وقوله { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا } قيل المراد بهذه القبلة هي بيت المقدس ، أي ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب ، ويؤيد هذا قوله { كُنتَ عَلَيْهَا } إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة . وقيل المراد الكعبة ، أي ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض ، ويكون { كُنتُ } بمعنى الحال ، وقيل المراد بذلك القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس ، فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة ، ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفاً لليهود ، ثم صُرِف إلى الكعبة . وقوله { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } قيل المراد بالعلم هنا الرؤية ، وقيل المراد إلا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك ، وقيل ليعلم النبي وقيل المراد لنعلم ذلك موجوداً حاصلاً ، وهكذا ما ورد معللاً بعلم الله سبحانه لا بدّ أن يؤول بمثل هذا كقوله { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } آل عمران 140 . وقوله { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي ما كانت إلا كبيرة ، كما قاله الفراء في " أن " و " إن " أنهما بمعنى ما وإلا . وقال البصريون هي الثقيلة خففت ، والضمير في كانت راجع إلى ما يدل عليه قوله { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا } من التحويلة ، أو التولية ، أو الجعلة ، أو الردّة ، ذكر معنى ذلك الأخفش ، ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة أي وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان ، فانشرحت صدورهم لتصديقك ، وقبلت ما جئت به عقولهم . وهذا الاستثناء مفرّغ ، لأن ما قبله في قوّة النفي ، أي أنها لا تخفّ ، ولا تسهل إلا على الذين هدى الله . وقوله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ } قال القرطبي اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات ، وهو يصلي إلى بيت المقدس ، ثم قال فسمى الصلاة إيماناً لاجتماعها على نية ، وقول ، وعمل ، وقيل المراد ثبات المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة ، وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم . والأول يتعين القول به ، والمصير إليه لما سيأتي من تفسيره صلى الله عليه وسلم للآية بذلك . والرءوف كثير الرأفة ، وهي أشدّ من الرحمة . قال أبو عمرو بن العلاء الرأفة أكبر من الرحمة ، والمعنى متقارب . وقرأ أبو جعفر بن يزيد بن القعقاع « لروف » بغير همز ، وهي لغة بني أسد ، ومنه قول الوليد بن عتبة @ وَشَرُّ الغالبين فلا تَكُنْه يقَاتِلِ عمه الروف الرحِيم @@ وقد أخرج البخاري ومسلم ، وغيرهما عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوّل ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأن أوّل صلاة صلاها العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه ، فمرّ على أهل المسجد ، وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس ، وأهل الكتاب ، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك ، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال ، وقتلوا ، فلم ندر ما يقول فيهم ، فأنزل الله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } وله طرق أخر ، وألفاظ متقاربة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس قال إن أوّل ما نسخ في القرآن القبلة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود في ناسخه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس ، والكعبة بين يديه ، وبعد ما تحوّل إلى المدينة ستة عشر شهراً ، ثم صرفه الله إلى الكعبة . وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدّم . وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة ، وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم ذلك ، وقد كانوا في الصلاة ، فلا نطوّل بذكرها . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والنسائي ، والترمذي وصححه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والإسماعيلي في صحيحه ، والحاكم وصححه عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال عدلاً . وأخرج ابن جرير ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس مثله . وأخرج أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم ، عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدعى نوح يوم القيامة ، فيقال له هل بلغت ؟ فيقول نعم ، فيدعى قومه ، فيقال لهم هل بلغكم ؟ فيقولون ما أتانا من نذير ، وما أتانا من أحد ، فيقال لنوح من يشهد لك ؟ فيقول محمد وأمته فذلك قوله { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قال والوسط العدل ، فتُدْعَون ، فَتَشْهَدون له بالبلاغ ، وأشهد عليكم . " وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن أبي سعيد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنا وأمتي يوم القيامة على كَوْم مشرفين على الخلائق ، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا ، وما من نبيّ كذبه قومه إلا ، ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه " وأخرج ابن جرير ، عن أبي سعيد في قوله { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } بأن الرسل قد بلغوا { وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } بما عملتم ، وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن أنس قال مرّوا بجنازة ، فأثنوا عليها خيراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وجبت وجبت وجببت " ومرّوا بجنازة فأثنى عليها شراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وجبت وجبت وجبت " فسأله عمر فقال " من أثنيتم عليه خيراً ، وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شرّاً ، وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض " زاد الحكيم الترمذي ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } الآية ، وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند ابن المنذر ، والحاكم وصححه ، ومنها عن عمر مرفوعاً عند ابن أبي شيبة وأحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، ومنها عن أبي زهير الثقفي مرفوعاً عند أحمد وابن ماجه والطبراني ، والدارقطني في الإفراد ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في السنن ، ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً عند ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، ومنها عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً عند ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والطبراني . وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا } قال يعني بيت المقدس { إلا لنعلم } قال نبتليهم لنعلم من يسلم لأمره . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } قال لنميز أهل اليقين من أهل الشك { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } يعني تحويلها على أهل الشرك ، والريب . وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا ، فقالوا مرة ها هنا ، ومرة ها هنا . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن عباس ، قال لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة ، قالوا يا رسول الله ، فكيف بالذين ماتوا ، وهم يصلون إلى بيت المقدس ، فأنزل الله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ } . وقد تقدّم حديث البراء . وفي الباب أحاديث كثيرة ، وآثار عن السلف .