Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 144-147)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } قال القرطبي في تفسيره قال العلماء هذه الآية مقدّمة في النزول على قوله { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَاء } ، ومعنى { قَدْ } تكثير الرؤية ، كما قاله صاحب الكشاف ، ومعنى { تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } تحوّل وجهك إلى السماء ، قاله قطرب . وقال الزجاج تقلب عينيك في النظر إلى السماء ، والمعنى متقارب . وقوله { فَلَنُوَلّيَنَّكَ } هو إما من الولاية ، أي فلنعطينك ذلك ، أو من التولي ، أي فلنجعلنك متولياً إلى جهتها ، وهذا أولى لقوله { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } . والمراد بالشطر هنا الناحية والجهة ، وهو منتصب على الظرفية ومنه قول الشاعر @ أقول لأم زِنْبَاعٍ أقيِمي صدُورَ العِيسِ شَطْرَ بني تَميم @@ ومنه أيضاً قول الآخر @ ألا مَنْ مُبْلغ عمراً رَسُولا وَمَا تُغْنِي الرِسَالةُ شَطْرَ عمرو @@ وقد يراد بالشطر النصف ، ومنه « الوضوء شطر الإيمان » ، ومنه قول عنترة @ إني امرؤ مِنْ خَيرِ عَبْس منصباً شَطِري وَأحْمِي سَائِري بِالمْنصَلِ @@ قال ذلك لأن أباه من سادات عبس ، وأمّه أمَة ، ويرد معنى البعض مطلقاً . ولا خلاف أن المراد بشطر المسجد هنا الكعبة ، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين ، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية ، ويستدل على ذلك بما يمكنه الاستدلال به ، والضمير في قوله { أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحويل إلى جهة الكعبة ، وعلم أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم ، أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبيّ يستقبل الكعبة ، أو لكونهم قد علموا من أنبيائهم ، أو كتبهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة ، فيكون ذلك موجباً عليهم الدخول في الإسلام ، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم . قوله { وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } قد تقدّم معناه . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي " تعملون " بالمثناة الفوقية على مخاطبة أهل الكتاب ، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الباقون بالياء التحتية . وقوله { وَلَئِنْ أَتَيْتَ } هذه اللام هي موطئة للقسم ، والتقدير والله لئن أتيت . وقوله { مَّا تَبِعُواْ } جواب القسم المقدّر . قال الأخفش والفراء أجيب " لئن " بجواب و " لو " لأن المعنى ولو أتيت ، ومثله قوله تعالى { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ } الروم 51 أي ولو أرسلنا . وإنما قالا هكذا لأن " لئن " هي ضد " لو " ، وذلك أن " لو " تطلب في جوابها المضيّ ، والوقوع ، و " لئن " تطلب في جوابها الاستقبال . وقال سيبويه إن معنى " لئن " يخالف معنى لو ، فلا تدخل إحداهما على الأخرى ، فالمعنى ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك . قال سيبويه ومعنى { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } ليظللن . انتهى . وفي هذه الآية مبالغة عظيمة ، وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترويح خاطره ، لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية ، ولا يرجعون إلى الحق ، وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد ، وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم ، أو لشبهة طرأت عليهم ، حتى يوازنوا بين ما عندهم ، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق ، بل كان تركهم للحق تمرداً ، وعناداً مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء ، ومن كان هكذا ، فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً . وقوله { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } هذا الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أي لا تتبع يا محمد قبلتهم ، ويمكن أن يكون على ظاهره ، دفعاً لأطماع أهل الكتاب ، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها . وقوله { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } فيه إخبار بأن اليهود ، والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم ، حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله ، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته . قال في الكشاف " وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى تستقبل مطلع الشمس " . انتهى . وقوله { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم } إلى آخر الآية ، فيه من التهديد العظيم ، والزجر البليغ ما تقشعرّ له الجلود ، وترجف منه الأفئدة ، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء ، والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون - وحاشاه - من الظالمين ، فما ظنك بغيره من أمته ، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام ، وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب ، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ، ووسيلة طاغوتية ، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة ، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم ، أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة ، أو كانوا من ذوي الصولة ، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل ، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب ، كما يشبه الماء الماء ، والبيضة البيضة ، والتمرة التمرة وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشدّ على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل ، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ، ويتبعون أحسنه ، وهم على العكس من ذلك ، والضدّ لما هنالك ، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة ، حتى يسلخوه من الدين ، ويخرجوه منه ، وهو يظنّ أنه منه في الصميم ، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم ، هذا إن كان في عداد المقصرين ، ومن جملة الجاهلين ، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق ، والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم ، وختم على قلبه ، وصار نقمة على عباد الله ، ومصيبة صبها الله على المقصرين لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى حق ، ولا يتبع إلا الصواب ، فيضلون بضلاله ، فيكون عليه إثمه ، وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة . نسأل الله اللطف ، والسلامة ، والهداية وقوله { ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْرِفُونَهُ } قيل الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي يعرفون نبوّته . روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم . وقيل يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، بالطريق التي قدّمنا ذكرها ، وبه قال جماعة من المفسرين ، ورجح صاحب الكشاف الأوّل . وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات . وقوله { لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ } هو عند أهل القول الأوّل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعند أهل القول الثاني استقبال القبلة . وقوله { ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ } يحتمل أن يكون المراد به الحقّ الأوّل ، ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله { من ربك } أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره . وقرأ عليّ بن أبي طالب { الحق } بالنصب على أنه بدل من الأول ، أو منصوب على الإغراء ، أي الزم الحق . وقوله { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والامتراء الشك ، نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه الحق من ربه ، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم ، وعلى الأول هو تعريض للأمة ، أي لا يكن أحد من أمته من الممترين ، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه . وقد أخرج ابن ماجه عن البراء قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهراً ، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في السماء ، وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة ، فصعد جبريل ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره ، وهو يصعد بين السماء ، والأرض ينظر ما يأتيه به ، فأنزل الله { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَاء } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا جبريل كيف حلنا في صلاتنا إلى بيت المقدس ؟ " فأنزل الله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ } . وأخرجه الطبراني من حديث معاذ مختصراً لكنه قال سبعة عشر شهراً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى { فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } قال قبلة إبراهيم نحو الميزاب . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن البراء في قوله { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } قال قبله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن عليّ مثله . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، والبيهقي عن ابن عباس قال { شَطْرَهُ } نحوه . وأخرج البيهقي ، عن مجاهد مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن أبي العالية قال { شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } تلقاءه ، وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال " البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب . وأخرج البيهقي في سننه عنه ، مرفوعاً قال البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ، ومغاربها من أمتي ، " وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } قال أنزل ذلك في اليهود . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } قال يعني بذلك القبلة . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير عن أبي العالية نحوه . وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } يقول ما اليهود بتابعي قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } قال اليهود والنصارى { يَعْرِفُونَهُ } أي قال يعرفون رسول الله في كتابهم { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عنه في قوله { يَعْرِفُونَهُ } أي يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة . وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله { وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال يكتمون محمداً ، وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، والإنجيل . وأخرج أبو داود ، في ناسخه ، وابن جرير ، عن أبي العالية قال قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم { ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } يقول لا تكوننّ في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك ، وكانت قبلة الأنبياء من قبلك .