Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 275-277)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الربا في اللغة الزيادة مطلقاً ، يقال ربا الشيء يربو إذا زاد ، وفي الشرع يطلق على شيئين ، على ربا الفضل ، وربا النسيئة حسبما هو مفصل في كتب الفروع ، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلَّ أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه أتقضي أم تربي ؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه ، وأخر له الأجل إلى حين . وهذا حرام بالاتفاق ، وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوّله . وقد كتبوه في المصحف بالواو . قال في الكشاف على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة ، والزكاة ، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع . انتهى . قلت وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه ، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كان في أصل الكلمة ، ونحوه ، كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف ، وعلى كل حال ، فرسم الكلمة ، وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى ، فما كان في النطق ألفاً كالصلاة ، والزكاة ، ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك ، وكون أصل هذا الألف واواً ، أو ياء لا يخفى على من يعرف علم الصرف ، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق ، فاعرف هذا ، ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش ، ويلزمون به أنفسهم ، ويعيبون من خالفه ، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحداً أن يتقيد بها ، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها ، فإنه الأمر المطلوب من وضعها ، والتواضع عليها ، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن ، فلا تغترّ بما يروى عن سيبويه ، ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو لأنه يقول في تثنيته ربوان . وقال الكوفيون يكتب بالياء ، وتثنيته ربيان . قال الزجاج ما رأيت خطأ أقبح من هذا ، ولا أشنع ، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية ، وهم يقرءون { وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عند الله } الروم 39 وليس المراد بقوله هنا { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرّبَوٰاْ } اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله ، بل هو عام لكل من يعامل بالربا ، فيأخذه ، ويعطيه ، وإنما خص الآكل لزيادة التشنيع على فاعله ، ولكونه هو الغرض الأهمّ ، فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل . قوله { لاَ يَقُومُونَ } أي يوم القيامة ، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ يَوْمُ ٱلْقِيَـٰمَةِ . أخرجه عبد ابن حميد ، وابن أبي حاتم ، وبهذا ، فسره جمهور المفسرين قالوا إنه يبعث كالمجنون عقوبة له ، وتمقيتاً عند أهل المحشر . وقيل إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته ، فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون لأن الحرص ، والطمع ، والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون ، كما يقال لمن يسرع في مشيه ، ويضطرب في حركاته أنه قد جُنَّ ، ومنه قول الأعشى في ناقته @ وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَي وَكأَنَّها ألَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ @@ فجعلها بسرعة مشيها ، ونشاطها كالمجنون . قوله { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ } أي إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه ، والخبط الضرب بغير استواء كخبط العشواء ، وهو المصروع . والمسّ الجنون ، والأمس المجنون ، وكذلك الأولق ، وهو متعلق بقوله { يَقُومُونَ } أي لا يقومون من المسّ الذي بهم { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } أو متعلق بـ { يقوم } . وفي الآية دليل على فساد قول من قال إن الصرع لا يكون من جهة الجنّ ، وزعم أنه من فعل الطبائع ، وقال إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان ، وليس بصحيح ، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ، ولا يكون منه مسّ . وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان كما أخرجه النسائي ، وغيره . قوله { ذٰلِكَ } إشارة إلى ما ذكر من حالهم ، وعقوبتهم بسبب قولهم { إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرّبَوٰاْ } أي أنهم جعلوا البيع ، والربا شيئاً واحداً ، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً ، والبيع فرعاً ، أي إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل ، كالبيع بزيادة عند حلوله ، فإن العرب كانت لا تعرف رباً إلا ذلك ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرّبَوٰاْ } أي أن الله أحلّ البيع ، وحرّم نوعاً من أنواعه ، وهو البيع المشتمل على الربا . والبيع مصدر باع يبيع ، أي دفع عوضاً ، وأخذ معوّضاً ، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب . قوله { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } أي من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي اشتمل عليها الأوامر ، والنواهي ، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا { فَٱنتَهَىٰ } أي فامتثل النهي الذي جاءه ، وانزجر عن المنهي عنه ، وهو معطوف ، أي قوله { فَٱنتَهَىٰ } على قوله { جَاءهُ } . وقوله { مّن رَّبّهِ } متعلق بقوله { جَاءهُ } أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ، أي كائنة { مّن رَّبّهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي ما تقدّم منه من الربا لا يؤاخذ به لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا ، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا . وقوله { أَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ } قيل الضمير عائد إلى الربا ، أي وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده ، واستمرار ذلك التحريم ، وقيل الضمير عائد إلى ما سلف ، أي أمره إلى الله في العفو عنه ، وإسقاط التبعة فيه ، وقيل الضمير يرجع إلى المربي ، أي أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الإنتهاء ، أو الرجوع إلى المعصية { وَمَنْ عَادَ } إلى أكل الربا ، والمعاملة به { فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } والإشارة إلى { من عاد } وجمع أصحاب باعتبار معنى " من " ، وقيل إن معنى { من عاد } هو أن يعود إلى القول بـ { إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرّبَوٰاْ } وأنه يكفر بذلك ، فيستحق الخلود ، وعلى التقدير الأوّل يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة ، كما تقول العرب ملك خالد ، أي طويل البقاء ، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار . قوله { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرّبَوٰاْ } أي يذهب بركته في الدنيا ، وإن كان كثيراً ، فلا يبقى بيد صاحبه . وقيل يمحق بركته في الآخرة . قوله { وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ } أي يزيد في المال الذي أخرجت صدقته ، وقيل يبارك في ثواب الصدقة ، ويضاعفه ، ويزيد في أجر المتصدّق ، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين جميعاً . قوله { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } أي لا يرضى لأن الحبّ مختص بالتوّابين ، وفيه تشديد ، وتغليظ عظيم على من أربى حيث حكم عليه بالكفر ، ووصفه بأثيم للمبالغة ، وقيل لإزالة الاشتراك ، إذ قد يقع على الزراع ، ويحتمل أن المراد بقوله { كُلَّ كَفَّارٍ } من صدرت منه خصلة توجب الكفر ، ووجه التصاقه بالمقام أن الذين قالوا إنما البيع مثل الربا كفار . وقد تقدم تفسير قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } إلى آخر الآية . وقد أخرج أبو يعلى من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرّبَوٰاْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ } قال يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام ، إلا كما يقوم المتخبط المنخنق { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرّبَوٰاْ } وكذبوا على الله { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرّبَوٰاْ } ومن عاد فأكل الربا { فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه في الآية قال آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر من وجه آخر عنه أيضاً في قوله { لاَ يَقُومُونَ } قال ذلك حين يبعث من قبره . وأخرج الأصبهاني في ترغيبه ، عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شفتيه " ثم قرأ { لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ } ، وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا ، منها من حديث عبد الله بن مسعود ، عند الحاكم وصححه ، والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الربا ثلاثة وسبعون باباً ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً ، عند ابن ماجه ، والبيهقي بلفظ " سبعون باباً " وورد هذا المعنى مع اختلاف العدد عن عبد الله بن سَلاَم ، وكعب ، وابن عباس ، وأنس . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع في الآية قال يبعثون يوم القيامة ، وبهم خَبَل من الشيطان ، وهي في بعض القراءات « لا يقومون يوم القيامة » . يعني قراءة ابن مسعود المتقدم ذكرها . وفي الصحيحين ، وغيرهما من حديث عائشة قالت لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فقرأهنّ على الناس ، ثم حرّم التجارة في الخمر » وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن عمر بن الخطاب أنه خطب ، فقال إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم . وأخرج البخاري ، وغيره ، عن ابن عباس أنه قال آخر آية أنزلها الله على رسوله آية الربا . وأخرج البيهقي في الدلائل ، عن عمر مثله . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد في الربا الذي نهى الله ، عنه قال كان أهل الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين ، فيقول لك كذا وكذا ، وتؤخر عني ، فيؤخر عنه . وأخرج أيضاً ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، نحوه أيضاً ، وزاد في قوله { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } قال يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا ، فانتهى عنه { فَلَهُ مَا سَلَفَ } يعني فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم { وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ } يعني بعد التحريم ، وبعد تركه إن شاء عصمه منه ، وإن شاء لم يفعل { وَمَنْ عَادَ } يعني في الربا بعد التحريم ، فاستحله بقولهم { إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرّبَوٰاْ } { فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } يعني لا يموتون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق ابن جريج ، عن ابن عباس في قوله { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرّبَوٰاْ } قال ينقص الربا { وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ } قال يزيد فيها ، وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً " من تصدق بعْدل تمرة من كسبٍ طيبٍ ، ولا يقبل الله إلا طيباً ، فإن الله يقبلها بيمينه ، ثم يُرْبَيها لصاحبها ، كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل " وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن حبان ، والطبراني من حديث عائشة نحوه . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً . وفي حديث عائشة ، وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بعد أن ساق الحديث { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ } . وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن العبد ليتصدّق بالِكْسَرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد " وهذه الأحاديث تبين معنى الآية .