Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 282-283)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا ، أي إذا داين بعضكم بعضاً ، وعاملهُ بذلك ، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } الأنعام 38 وقيل إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله { فَٱكْتُبُوهُ } ولو قال فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } ، والدين عبارة ، عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً ، والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضراً ، والدين ما كان غائباً ، قال الشاعر @ وَعَدتْنَا بِدْرِهَمْيِنا طِلاءً وسِواء معجلاً غَيرِ دَيْنِ @@ وقال الآخر @ إذا ما أوقدوا ناراً وحطبا فَذَاك الموتُ نَقْداً غَير دَيُن @@ وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز ، وخصوصاً أجل السلم . وقد ثبت في الصحيح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم " وقد قال بذلك الجمهور ، واشترطوا توقيته بالأيام ، أو الأشهر ، أو السنين ، قالوا ولا يجوز إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو رجوع القافلة ، أو نحو ذلك ، وجوَّزه مالك . قوله { فَٱكْتُبُوهُ } أي الدين بأجله لأنه أدفع للنزاع ، وأقطع للخلاف . قوله { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ } هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها ، وظاهر الأمر الوجوب ، وبه قال عطاء ، والشعبي ، وغيرهما ، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك ، ولم يوجد كاتب سواه . وقيل الأمر للندب . وقوله { بِٱلْعَدْلِ } متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل ، أي يكتب بالسوية لا يزيد ، ولا ينقص ، ولا يميل إلى أحد الجانبين ، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه ، ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر ، بل يتحرّى الحق بينهم ، والمعدلة فيهم . قوله { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم ، أي لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين ، كما علمه الله ، أي على الطريقة التي علمه الله من الكتابة ، أو كما علمه الله بقوله { بِٱلْعَدْلِ } . قوله { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } الإملال ، والإملاء لغتان الأولى لغة أهل الحجاز ، وبني أسد ، والثانية لغة بني تميم ، فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى ، وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى { فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } الفرقان 5 { وَٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } هو من عليه الدين ، أمره الله تعالى بالإملاء ، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته ، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب ، بالغ في ذلك بالجمع بين الإسم ، والوصف في قوله { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } ونهاه عن البخس ، وهو النقص ، وقيل إنه نهي للكاتب . والأوّل أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ، ولو كان نهياً للكاتب لم يقتصر في نهيه على النقص لأنه يتوقع منه الزيادة ، كما يتوقع منه النقص . والسفيه هو الذي لا رأي له في حسن التصرف ، فلا يحسن الأخذ ، ولا الإعطاء ، شبه بالثوب السفيه ، وهو الخفيف النسج ، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة ، وعلى ضعف البدن أخرى ، فمن الأوّل قول الشاعر @ نَخَافُ أن تَسْفَه أَحْلامُنا ويجْهلُ الدهرُ مع الجاهلِ @@ ومن الثاني قول ذي الرمة @ مَشَيْن كما اهتزَّت رماحٌ تَسَفَّهَتْ أعالِيها مَرُّ الرياحِ النّواسِم @@ أي استضعفها ، واستلانها بحركتها ، وبالجملة فالسفيه هو المبذر إما لجهله بالصرف ، أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصواب . والضعيف هو الشيخ الكبير ، أو الصبي . قال أهل اللغة الضُعف بضم الضاد في البدن ، وبفتحها في الرأي . والذي لا يستطيع أن يُمِلَّ هو الأخرس ، أو العَيِيُّ الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي ، وقيل إن الضعيف هو المذهول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء ، والذي لا يستطيع أن يملّ هو الصغير . قوله { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيملّ عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره ، عن التصرف في ماله ، ويملّ عن الصبي ، ووصيه ، أو وليه ، وكذلك يملّ عن العاجز ، الذي لا يستطيع الإملال لضعف وليه لأنه في حكم الصبيّ ، أو المنصوب عنه من الإمام ، أو القاضي ، ويملّ عن الذي لا يستطيع ، وكيله إذا كان صحيح العقل ، وعرضت له آفة في لسانه ، أو لم تعرض ، ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير ، كما ينبغي . وقال الطبري إن الضمير في قوله { وَلِيُّهُ } يعود إلى الحق ، وهو ضعيف جداً . قال القرطبي في تفسيره وتصرّف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً ، ولا يؤثر شيئاً ، فإن تصرف سفيه ، ولا حجر عليه ، ففيه خلاف . انتهى . قوله { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } الاستشهاد طلب الشهادة ، وسماهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول أي باعتبار ما يئول إليه أمرهما من الشهادة ، و { مّن رّجَالِكُمْ } متعلق بقوله { وَٱسْتَشْهِدُواْ } أو بمحذوف هو صفة لشهيدين ، أي كائنين من رجالكم ، أي من المسلمين ، فيخرج الكفار ، ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية . فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين ، وبه قال شريح ، وعثمان البتي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وجمهور العلماء لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق . وقال الشعبي ، والنخعي يصح في الشيء اليسير دون الكثير . واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة ، والعبيد لا يملكون شيئاً تجري فيه المعاملة . ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وأيضاً العبد تصح منه المداينة ، وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك . وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب ، أو مندوب ، فقال أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وعطاء ، وسعيد بن المسيب ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وداود بن علي الظاهري ، وابنه إنه واجب ، ورجحه ابن جرير الطبري ، وذهب الشعبي ، والحسن ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه إلى أنه مندوب ، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع . واستدل الموجبون بقوله تعالى { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } ولا فرق بين هذا الأمر ، وبين قوله { وَٱسْتَشْهِدُواْ } فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة . قوله { فَإِن لَّمْ يَكُونَا } أي الشهيدان { رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } أي فليشهد رجل ، وامرأتان ، أو فرجل ، وامرأتان يكفون . وقوله { ممن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء } متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل ، وامرأتان ، أي كائنون ممن ترضون حال كونهم من الشهداء . والمراد ممن ترضون دينهم ، وعدالتهم ، وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل ، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهنّ ، إلا فيما لا يطلع عليه غيرهنّ للضرورة . واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدّعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدّعي ؟ فذهب مالك ، والشافعي إلى أنه يجوز ذلك ، لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية . وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك ، وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدّعي ، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه ، وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز ، فيتعين قبولها . وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقي ، وغيره من مؤلفاتنا ، ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يردّ به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد ، واليمين ، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على شفا جرف هارٍ هي قولهم إن الزيادة على النص نسخ ، وهذه دعوى باطلة ، بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها ، وأيضاً كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب ، ولا بيمين الرد على الطالب . وقد حكموا بهما ، والجواب الجواب . قوله { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأخْرَىٰ } قال أبو عبيد معنى تضلّ تنسى ، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها ، وذكر جزء . وقرأ حمزة « إن تضلّ » بكسر الهمزة . وقوله { فَتُذَكّرَ } جوابه على هذه القراءة ، وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضلّ ، ومن رفعه فعلى الاستئناف . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو « فتذكر » بتخفيف الذال ، والكاف ، ومعناه تزيدها ذكراً . وقراءة الجماعة بالتشديد ، أي تنبهها إذا غفلت ، ونسيت ، وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء ، أي فليشهد رجل ، وتشهد امرأتان عوضاً ، عن الرجل الآخر لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت ، وعلى هذا ، فيكون في الكلام حذف ، وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضاً عن الرجل الواحد ، فقيل وجهه أن تضلّ إحداهما ، فتذكر إحداهما الأخرى ، والعلة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته ، وأبهم الفاعل في تضلّ ، وتذكر ، لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان فالمعنى إن ضلت هذه ذكرتها هذه ، وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين ، أي إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها المرأة الأخرى ، وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال . وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك يعني الضلال ، والتذكير يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر ، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها . وقال سفيان بن عيينة معنى قوله { فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأخْرَىٰ } تصيرها ذكراً ، يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد . وروى نحوه عن أبي عمرو بن العلاء ، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ، ولا لغة ، ولا عقل . قوله { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل ، وقيل إذا ما دعوا لتحمل الشهادة ، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم ، وحملها الحسن على المعنيين . وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام . قوله { ولا تسأموا أن تكتبوه } معنى تسأموا تملوا . قال الأخفش يقال سئمت أسأم سآمة ، وسآما ، ومنه قول الشاعر @ سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحياةِ وَمَنْ يَعِشْ ثَمانِين حَوْلاً لاَ أبا لك يَسأَمِ @@ أي لا تملوا أن تكتبوه ، أي الدين الذي تداينتم به ، وقيل الحق ، وقيل الشاهد ، وقيل الكتاب ، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملُّوا من كثرة المداينة أن يكتبوا ، ثم بالغ في ذلك ، فقال { صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } أي حال كون ذلك المكتوب صغيراً ، أو كبيراً أي لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيراً ، أو قليلاً . وقيل إنه كنى بالسآمة عن الكسل . والأول أولى . وقدّم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال إن هذا مال صغير ، أي قليل لا احتياج إلى كتبه ، والإشارة في قوله { ذٰلِكُمْ } إلى المكتوب المذكور في ضمير قوله { أَن تَكْتُبُوهُ } و { أقسط } معناه أعدل ، أي أصح ، وأحفظ { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ } أي أعون على إقامة الشهادة ، وأثبت لها ، وهو مبني من أقام ، وكذلك أقسط مبني من فعله ، أي أقسط . وقد صرح سيبويه بأنه قياسي ، أي بني أفعل التفضيل . ومعنى قوله { وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ } أقرب لنفي الريب في معاملاتكم ، أي الشك ، ذلك أن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائناً ما كان . قوله { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } " أن " في موضع نصب على الإستثناء قاله الأخفش ، و " كان " تامة ، أي إلا أن تقع ، أو توجد تجارة ، والإستثناء منقطع ، أي لكن وقت تبايعكم ، وتجارتكم حاضرة بحضور البدلين { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } تتعاطونها يداً بيد ، فالإدارة التعاطي ، والتقابض ، فالمراد التبايع الناجز يداً بيد ، فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته . وقرىء بنصب تجارة على أن " كان " ناقصة ، أي إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة . قوله { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } قيل معناه وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هنا ، وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي . وقيل معناه إذا تبايعتم أيّ تبايع كان حاضراً أو كالِئاً ، لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار . وقد تقدّم قريباً ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجباً ، أو مندوباً . قوله { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل ، أو للمفعول ، فعلى الأوّل معناه لا يضار كاتب ، ولا شهيد من طلب ذلك منهما ، إما بعدم الإجابة ، أو بالتحريف ، والتبديل ، والزيادة ، والنقصان في كتابته ، ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن أبي إسحاق « ولا يضارر » بكسر الراء الأولى ، وعلى الثاني لا يضارَر كاتب ، ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك ، وهما مشغولان بمهمّ لهما ، ويضيق عليهما في الإجابة ، ويؤذيا إن حصل منهما التراخي ، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد ، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود « ولا يضارر » بفتح الراء الأولى ، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعاً . وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى { لاَ تُضَارَّ وٰلِدَةٌ بِوَلَدِهَا } البقرة 233 ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله . قوله { وَإِن تَفْعَلُواْ } أي ما نهيتم عنه من المضارة { فَإِنَّهُ } أي فعلكم هذا { فُسُوقٌ بِكُمْ } أي خروج عن الطاعة إلى المعصية ملتبس بكم { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في فعل ما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه { وَيُعَلّمُكُمُ ٱللَّهُ } ما تحتاجون إليه من العلم ، وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه ، ومنه قوله تعالى { إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } الأنفال 29 . قوله { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ } لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة ، والإشهاد لحفظ الأموال ، ودفع الريب ، عقب ذلك بذكر حالة العذر ، عن وجود الكاتب ، ونص على حالة السفر ، فإنها من جملة أحوال العذر ، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر ، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة ، أي فإن كنتم مسافرين { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا } في سفركم { فَرِهَـٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ } قال أهل العلم الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل ، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت في الصحيحين « أنه رهن درعاً له من يهودي » . وقرأ الجمهور « كاتباً » أي رجلاً يكتب لكم . وقرأ ابن عباس ، وأبيّ ومجاهد ، والضحاك ، وعكرمة ، وأبو العالية « كتاباً » قال ابن الأنباري فسره مجاهد فقال معناه فإن لم تجدوا مداداً يعني في الأسفار . وقرأ أبو عمرو وابن كثير « فرُهُنٌ » بضم الراء والهاء . وروي عنهما تخفيف الهاء جمع رهان ، قاله الفراء ، والزجاج ، وابن جرير الطبري . وقرأ عاصم بن أبي النجود « فرَهْن » بفتح الراء ، وإسكان الهاء . وقراءة الجمهور « رهان » . قال الزجاج يقال في الرهن رهنت ، وأرهنت ، وكذا قال ابن الأعرابي ، والأخفش . وقال أبو علي الفارسي يقال أرهنت في المعاملات ، وأما في القرض ، والبيع فرهنت ، وقال ثعلب الرواة كلهم في قول الشاعر @ فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرهُمْ نَجَوتُ وأرْهَنْتُهم مَالِكاً @@ على أرهنتهم على أنه يجوز رهنته ، وأرهنته إلا الأصمعي ، فإنه رواه وأرهنهم على أنه عطف لفعل مستقبل على فعل ماض وشبهه بقوله قمت ، وأصك وجهه . وقال ابن السكيت أرهنت فيهما بمعنى أسلفت ، والمرتهن الذي يأخذ الرهن ، والشيء مرهون ، ورهين ، وراهنت فلاناً على كذا مراهنة خاطرته . وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض ، كما صرح به القرآن ، وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب ، والقبول من دون قبض . قوله { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } أي إن كان الذي عليه الحق أميناً ، عند صاحب الحق لحسن ظنه به ، وأمانته لديه ، واستغنى بأمانته عن الارتهان { فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ } وهو المديون { أَمَـٰنَتَهُ } أي الدين الذي عليه ، والأمانة مصدر سمي به الذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة ، وقريء « ايتمن » بقلب الهمزة ياء ، وقريء بإدغام الياء في التاء ، وهو خطأ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } في أن لا يكتم من الحق شيئاً . قوله { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ } نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة ، وهو في حكم التفسير لقوله { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ } أي لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدّمين . قوله { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ } خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله ، ولكونه رئيس الأعضاء ، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد كله ، وارتفاع القلب على أنه فاعل ، أو مبتدأ ، وآثم خبره على ما تقرر في علم النحو ، ويجوز أن يكون قلبه بدلاً من آثم بدل البعض من الكل ، ويجوز أن يكون أيضاً بدلاً من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من ، وقريء « قلبه » بالنصب كما في قوله { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } البقرة 130 . وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } قال نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم . وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وغيرهم عنه قال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أجله ، وقرأ هذه الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه في الآية . قال أمر بالشهادة عند المداينة لكيلا يدخل في ذلك جحود ، ولا نسيان ، فمن لم يشهد على ذلك ، فقد عصى { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء } يعني من احتيج إليه من المسلمين ليشهد على شهادة ، أو كانت عنده شهادة ، فلا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي ، ثم قال بعد هذا { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } والضرار أن يقول الرجل للرجل ، وهو عنه غنيّ إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت ، فيضارّه بذلك ، وهو مكتف بغيره ، فنهاه الله عن ذلك . وقال { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } يعني معصية . قال ومن الكبائر كتمان الشهادة ، لأن الله تعالى يقول { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } قال واجب على الكاتب أن يكتب . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك قال كانت الكتابة عزيمة ، فنسخها { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، قال { فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا } قال هو الجاهل . { أَوْ ضَعِيفًا } قال هو الأحمق . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك ، والسدي ، في قوله { سَفِيهًا } قالا هو الصبيّ الصغير . وأخرج ابن جرير ، من طريق عطية العوفي ، عن ابن عباس { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } قال صاحب الدين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن قال ولي اليتيم . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك قال وليّ السفيه ، أو الضعيف . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن مجاهد في قوله { مّن رّجَالِكُمْ } قال من الأحرار . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع في قوله { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء } قال عدول . وأخرج الشافعي ، والبيهقي ، عن مجاهد قال عدلان حران مسلمان . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } يقول أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة { فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأخْرَىٰ } يعني تذكرها التي حبطت شهادتها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء } قال إذا كانت عندهم شهادة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع قال كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم يشهدون ، فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن المنذر ، عن عائشة في قوله { أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } قالت أعدل . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال يأتي الرجل الرجلين ، فيدعوهما إلى الكتابة ، والشهادة ، فيقولان إنا على حاجة ، فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا ، فليس له أن يضارّهما . وأخرج ابن جرير ، عن طاوس { لا يُضَارَّ كَاتِبٌ } ، فيكتب ما لم يُملّ عليه { وَلاَ شَهِيدٌ } فيشهد بما لم يستشهد . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك في قوله { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ } الآية ، قال من كان على سفر ، فبايع بيعاً إلى أجل ، فلم يجد كاتباً ، فرخص له في الرهان المقبوضة ، وليس له إن وجد كاتباً أن يرتهن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال لا يكون الرهن إلا في السفر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، قال لا يكون الرهن ، إلا مقبوضاً . وأخرج البخاري في تاريخه ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن ماجه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه قرأ هذه الآية { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } حتى بلغ { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } قال هذه نسخت ما قبلها . وأقول رضي الله عن هذا الصحابي الجليل ، ليس هذا من باب النسخ ، فهذا مقيد بالائتمان ، وما قبله ثابت محكم لم ينسخ ، وهو مع عدم الائتمان . وأخرج ابن جرير ، عن السدّي في قوله { قَلْبُهُ وَٱللَّهُ } قال فاجر قلبه . وأخرج ابن جرير ، بإسناد صحيح ، عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، عن ابن شهاب قال آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا ، وآية الدين .