Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 284-284)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } قد تقدّم تفسيره . قوله { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } إلى آخر الآية ، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم ، أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها ، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها ، ويعذب من يشاء منهم بما أسرَّ ، أو أظهر منها ، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية . وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال الأول أنها ، وإن كانت عامة ، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة ، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه ، سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة ، أو لم يظهر . وقد روى هذا عن ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ومجاهد ، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به . والقول الثاني أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك ، واليقين ، قاله مجاهد ، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصِّص . والقول الثالث أنها محكمة عامة ، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار ، والمنافقين . حكاه الطبري عن قوم ، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصِّص ، فإن قوله { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } لا يختص ببعض معين إلا بدليل . والقول الرابع أن هذه الآية منسوخة ، قاله ابن مسعود ، وعائشة ، وأبو هريرة ، والشعبي ، وعطاء ، ومحمد بن سيرين ، ومحمد بن كعب ، وموسى بن عبيدة ، وهو مرويّ ، عن ابن عباس ، وجماعة من الصحابة ، والتابعين ، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها " قوله { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قدم الجار ، والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به ، وقدم الإبداء على الإخفاء لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية ، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } آل عمران 29 فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية ، والبادية على السوية . وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه ، وجملة قوله { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } مستأنفة ، أي فهو يغفر ، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } وهذا على قراءة ابن عامر ، وعاصم . وأما على قراءة ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وحمزة ، والكسائي بجزم الراء ، والباء ، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها ، وهو جواب الشرط ، أعني قوله { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } . وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري بنصب الراء ، والباء في قوله { فَيَغْفِرُ } { وَيُعَذّبَ } على إضمار أن عطفاً على المعنى . وقرأ طلحة بن مصرف يغفر بغير فاء على البدل ، وبه قرأ الجعفي ، وخلاد . وقد أخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ، فقالوا يا رسول الله كُلِّفْنا من الأعمال ما نطيق الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتريدون أن تقولوا ، كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا ، وعصينا ، بل قولوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } " فلما اقترأها القوم ، وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها { آمنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ } الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله ، فأنزل { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى آخرها . وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي ، عن ابن عباس مرفوعاً نحوه ، وزاد ، فأنزل { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال قد فعلت { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال قد فعلت { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال قد فعلت { وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا } الآية ، قال قد فعلت . وقد رويت هذه القصة ، عن ابن عباس من طرق . وأخرج البخاري ، والبيهقي عن مروان الأصفر ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال نسختها الآية التي بعدها . وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، عن علي نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والطبراني ، عن ابن مسعود ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن عائشة نحوه أيضاً . وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال نزلت في كتمان الشهادة ، فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة . وعلى كل حال ، فبعد هذه الأحاديث المصرّحة بالنسخ ، والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها ، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين ، والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم ، أو تعمل به " وأخرج ابن جرير ، عن عائشة قالت كل عبدٍ همَّ بسوءٍ ، ومعصيةٍ ، وحدَّث نفسه به حاسبه الله في الدنيا يخاف ، ويحزن ويشتدُّ همُّه لا يناله من ذلك شيئاً ، كما هم بالسوء ، ولم يعمل منه بشيء . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، عنها نحوه ، والأحاديث المتقدمة المصرِّحة بالنسخ تدفعه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال إن الله يقول يوم القيامة إن كتَّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأمَّا ما أسررتم في أنفسكم ، فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت ، وأعذب من شئت ، وهو مدفوع بما تقدم .