Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 83-86)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد تقدّم تفسير الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل . وقال مكي إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم هنا هو ما أخذه الله عليهم في حياتهم ، على ألسن أنبيائهم ، وهو قوله { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } وعبادة الله إثبات توحيده ، وتصديق رسله ، والعمل بما أنزل في كتبه . قال سيبويه إن قوله { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } هو جواب قسم ، والمعنى ، استحلفناهم ، والله لا تعبدون إلا الله . وقيل هو إخبار في معنى الأمر . ويدل عليه قراءة أبيّ ، وابن مسعود « لا تعبدوا » على النهي ، ويدل عليه أيضاً ما عطف عليه من قوله { وقولوا ــ وأقيموا ــ وآتوا } وقال قطرب ، والمبرّد إن قوله { لاَ تَعْبُدُونَ } جملة حالية ، أي أخذنا ميثاقهم موحدين أو غير معاندين . قال القرطبي وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير ، وحمزة والكسائي « يعبدون » بالياء التحتية . وقال الفراء ، والزجاج وجماعة إن معناه أخذنا ميثاقكم بأن لا تعبدوا إلا الله ، وبأن تحسنوا بالوالدين ، وبأن لا تسفكوا الدماء . ثم حذف " أن " ، فارتفع الفعل لزوالها . قال المبرّد هذا خطأ لأن كل ما أضمر في العربية ، فهو يعمل عمله مظهراً . وقال القرطبي ليس بخطأ بل هما وجهان صحيحان ، وعليهما أنشد @ ألا أيُّهذا الزّاجِري أحْضُرَ الوَغَى وأنْ أشْهَدَ اللّذاتِ هل أنت مُخْلِدي @@ بالنصب لقوله أحضر ، وبالرفع . والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف ، والتواضع لهما ، وامتثال أمرهما ، وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق . والقربى مصدر كالرجعى ، والعقبى ، هم القرابة ، والإحسان بهم صلتهم ، والقيام بما يحتاجون إليه بحسب الطاقة ، وبقدر ما تبلغ إليه القدرة . واليتامى جمع يتيم ، واليتيم في بني آدم من فقد أبوه . وفي سائر الحيوانات من فقدت أمه . وأصله الانفراد يقال صبيّ يتيم ، أي منفرد من أبيه ، والمساكين جمع مسكين ، وهو من أسكنته الحاجة وذللته ، وهو أشدّ فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة ، وكثير من أهل الفقه . وروى عن الشافعي أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين . وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها . ومعنى قوله { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حسنا } أي قولوا لهم قولاً حسناً ، فهو صفة مصدر محذوف ، وهو مصدر كبشرى . وقرأ حمزة ، والكسائي « حسناً » بفتح الحاء ، والسين ، وكذلك قرأ زيد بن ثابت ، وابن مسعود . قال الأخفش هما بمعنى واحد ، مثل البُخل ، والبَخل ، والرُّشد ، والرَّشد ، وحكى الأخفش أيضاً « حسنى » بغير تنوين على فعلى . قال النحاس وهذا لا يجوز في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف ، واللام نحو الفضلى ، والكبرى ، والحسنى ، وهذا قول سيبويه . وقرأ عيسى ، بن عمر « حُسُناً » بضمتين والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين ، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعاً كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر ، وقد قيل إن ذلك هو كلمة التوحيد . وقيل الصدق . وقيل الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . وقيل غير ذلك . وقوله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } قد تقدّم تفسيره ، وهو خطاب لبني إسرائيل ، فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها ، والزكاة التي كانوا يخرجونها . قال ابن عطية وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها ، فتنزل النار على ما يُقبل ، ولا ينزل على ما لا يُقبَل . وقوله { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } قيل الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم مثل سلفهم في ذلك ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب . وقوله { إِلاَّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء ، ومنهم عبد الله بن سلام ، وأصحابه . وقوله { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } في موضع النصب على الحال ، والإعراض ، والتولي بمعنى واحد ، وقيل التولي بالجسم ، والإعراض بالقلب . وقوله { لاَ تَسْفِكُونَ } الكلام فيه كالكلام في لا تعبدون ، وقد سبق . وقرأ طلحة بن مُصَرَّف ، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء ، وهي لغة . وقرأ أبو نهيك بضم الياء ، وتشديد الفاء ، وفتح السين ، والسفك الصبّ ، وقد تقدّم ، والمراد أنه لا يفعل ذلك بعضهم ببعض ، والدار المنزل الذي فيه أبنية المقام ، بخلاف منزل الارتحال . وقال الخليل كل موضع حلّه قوم ، فهو دار لهم ، وإن لم يكن فيه أبنية وقيل سميت داراً لدورها على سكانها ، كما يسمى الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه . وقوله { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } من الإقرار أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم ، في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك ، قيل الشهادة هنا بالقلوب ، وقيل هي بمعنى الحضور أي أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك . وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضاً ، ولا ينفيه ، ولا يسترقه . وقوله { ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلاء } أي أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة ، فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية . وقيل { إن هؤلاء } منصوب بإضمار أعني ، ويمكن أن يقال منصوب بالذم ، أو الاختصاص ، أي أذمّ ، أو أخص . وقال القتيبي إن التقدير يا هؤلاء قال النحاس هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز . وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين ، أي ثم أنتم الذين تقتلون . وقيل هؤلاء مبتدأ ، وأنتم خبره مقدّم ، وقرأ الزهري { تقتلون } مشدّداً ، فمن جعل قوله { أَنتُمْ هَـٰؤُلاء } مبتدأ ، وخبراً جعل قوله { تَقْتُلُونَ } بياناً لأن معنى قوله { أَنتُمْ هَـٰؤُلاء } أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق ، ومن جعل هؤلاء منادى ، أو منصوباً بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده . وقوله { تَظَـٰهَرُونَ } بالتشديد ، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج ، وهي قراءة أهل مكة . وقرأ أهل الكوفة « تظاهرون » مخففاً بحذف التاء الثانية ، لدلالة الأولى عليها . وأصل المظاهرة المعاونة ، مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوي بعضاً ، فيكون له كالظهر ، ومنه قول الشاعر @ تظاهرتُم من كل أوب ووجهة على واحد لا زلْتُمْ قِرنَ واحدِ @@ ومنه قوله تعالى { وَكَانَ ٱلْكَـٰفِرُ عَلَىٰ رَبّهِ ظَهِيراً } الفرقان 55 وقوله { وَالْمَلَـئِكَةُ بَعْدَ ذٰلِكَ ظَهِيرٌ } التحريم 4 . و { أسارى } حال . قال أبو عبيد ، وكان أبو عمرو يقول ما صار في أيديهم ، فهو أسارى ، وما جاء مستأسراً ، فهو الأسرى . ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو ، وإنما هذا كما تقول سكارى ، وسكرى . وقد قرأ حمزة « أسرى » . وقرأ الباقون { أسارى } ، والأسرى جمع أسير ، كالقتلى جمع قتيل ، والجرحى جمع جريح . قال أبو حاتم ولا يجوز أسارى . وقال الزجاج يقال أسارى كما يقال سكارى . وقال ابن فارس يقال في جمع أسير أسرى وأسارى . انتهى . فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل . وقرأ به الجمهور ، والأسير مشتق من السير ، وهو القيد الذي يشدّ به المحمل ، فسمي أسيراً لأنه يشدّ وثاقه ، والعرب تقول قد أسَرَقتْبه أي شدّه ، ثم سمي كل أخيذ أسيراً ، وإن لم يؤخذ . وقوله { تُفَـٰدُوهُمْ } جواب الشرط ، وهي قراءة حمزة ، ونافع ، والكسائي ، وقرأ الباقون « تفدوهم » . والفداء هو ما يؤخد من الأسير ليفكّ به أسره ، يقال فداه ، وفاداه إذا أعطاه فداءه . قال الشاعر @ قفى فادى أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعاً @@ وقوله { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } الضمير للشأن وقيل مبهم تفسره الجملة التي بعده ، وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد ، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أوّل الكلام . و { إِخْرَاجُهُمْ } مرتفع بقوله { مُحَرَّمٌ } سادّ مسدّ الخبر ، وقيل بل مرتفع بالابتداء ، ومحرّم خبره . قال المفسرون كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود ترك القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أسراهم ، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء ، فوبخهم الله على ذلك . بقوله { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَـٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } . والخزي الهوان . قال الجوهري والخزي بالكسر يخزي خزياً إذا ذلّ وهان ، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً ، فصاروا في خزي عظيم ، بما ألصق بهم من الذلّ ، والمهانة بالقتل ، والأسر ، وضرب الجزية ، والجلاء ، وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشدّ العذاب لأنهم جاءوا بذنب شديد ، ومعصية فظيعة . وقد قرأ الجمهور " يردّون " بالياء التحتية . وقرأ الحسن بالفوقية على الخطاب . وقد تقدّم تفسير قوله { وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } وكذلك تفسير { أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ } وقوله { فَلاَ يُخَفَّفُ } إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية ، والصغار ، والذلة والمهانة ، فلا يخفف عنهم ذلك أبداً ما داموا ، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم ، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدّوهم . وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ } قال يؤنبهم أي ميثاقكم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حسنا } قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وروى البيهقي في الشعب عن عليّ في قوله { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ } قال يعني الناس كلهم ، ومثله روى عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عطاء . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } قال أي تركتم ذلك كله . وأخرج ابن جرير عنه أنه قال معناه أعرضتم عن طاعتي إلا قليلاً منكم ، وهم الذين اخترتهم لطاعتي . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ } لا يقتل بعضكم بعضاً { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ } لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } بهذا الميثاق { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } وأنتم شهود . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } أن هذا حق من ميثاقي عليكم { ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } أي أهل الشرك حتى تسفكوا دماءهم معهم { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن دِيَـٰرِهِمْ } قال تخرجونهم من ديارهم معهم { تَظَـٰهَرُونَ علَيْهِم بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوٰنِ } فكانوا إذا كان بين الأوس ، والخزرج حرب خرجت معهم بنو قينقاع مع الخزرج ، والنضير ، وقريظة مع الأوس ، وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يسافكوا دماءهم ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة { وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـٰرَىٰ تُفَـٰدُوهُمْ } وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ } في كتابكم لإخراجهم { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَـٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أتفادونهم مؤمنين بذلك ، وتخرجونهم كفراً بذلك . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة في قوله { أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلأخِرَةِ } قال استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة .