Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 11-21)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

خبر " إن " من قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَاءُو بِٱلإفْكِ } هو { عُصْبَةٌ } ، و { مّنكُمْ } صفة لعصبة ، وقيل هو { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } ، ويكون عصبة بدلا من فاعل جاءُوا . قال ابن عطية وهذا أنسق في المعنى ، وأكثر فائدة من أن يكون الخبر عصبة ، وجملة { لا تحسبوه } ، وإن كانت طلبية ، فجعلها خبراً يصح بتقدير كما في نظائر ذلك ، والإفك أسوأ الكذب وأقبحه ، وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه . فالإفك هو الحديث المقلوب ، وقيل هو البهتان . وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية ما وقع من الإفك على عائشة أمّ المؤمنين ، وإنما وصفه الله بأنه إفك لأن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك ، قال الواحدي ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر أن عائشة رضي الله عنها كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة ، وشرف النسب والسبب لا القذف ، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه ، فهو إفك قبيح ، وكذب ظاهر ، والعصبة هم الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، والمراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، زيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح ابن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، ومن ساعدهم . وقيل العصبة من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل من عشرة إلى خمسة عشر . وأصلها في اللغة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض ، وجملة { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } إن كانت خبراً لإنّ فظاهر ، وإن كان الخبر عصبة كما تقدّم ، فهي مستأنفة ، خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وعائشة ، وصفوان بن المعطل الذي قذف مع أمّ المؤمنين ، وتسلية لهم ، والشرّ ما زاد ضرّه على نفعه ، والخير ما زاد نفعه على ضرّه ، وأما الخير الذي لا شرّ فيه فهو الجنة ، والشرّ الذي لا خير فيه فهو النار ، ووجه كونه خيراً لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أمّ المؤمنين ، وصيرورة قصتها هذه شرعاً عامًّا { لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإثْمِ } أي بسبب تكلمه بالإفك { وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قرأ الحسن ، والزهري ، وأبو رجاء ، وحميد الأعرج ، ويعقوب ، وابن أبي علية ، ومجاهد ، وعمرة بنت عبد الرحمٰن بضمّ الكاف . قال الفرّاء وهو وجه جيد ، لأن العرب تقول فلان تولى عظيم كذا وكذا أي أكبره ، وقرأ الباقون بكسرها . قيل هما لغتان ، وقيل هو بالضم معظم الإفك ، وبالكسر البداءة به ، وقيل هو بالكسر الإثم . فالمعنى إن الذي تولى معظم الإفك من العصبة له عذاب عظيم في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما . واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم ؟ فقيل هو عبد الله بن أبيّ ، وقيل هو حسان ، والأوّل هو الصحيح . وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة ، وهم مسطح ابن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش . وقيل جلد عبد الله بن أبيّ ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، ولم يجلد مسطحاً ، لأنه لم يصرح بالقذف ، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح . وقيل لم يجلد أحداً منهم . قال القرطبي المشهور من الأخبار ، والمعروف عند العلماء أن الذين حدّوا حسان ، ومسطح ، وحمنة . ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبيّ ، ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة ، قالت لما نزل عذري ، قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم ، وسماهم حسان ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش . واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبيّ ، فقيل لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة ، وحدّ من عداه ليكون ذلك تكفيراً لذنبهم كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحدود أنه قال " إنها كفارة لمن أقيمت عليه " وقيل ترك حدّه تألفاً لقومه ، واحتراماً لابنه ، فإنه كان من صالحي المؤمنين ، وإطفاء لنائرة الفتنة ، فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه كما في صحيح مسلم . ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات فقال { لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً } « لولا » هذه هي التحضيضية تأكيداً للتوبيخ ، والتقريع ، ومبالغة في معاتبتهم أي كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم ، فإن كان ذلك يبعد فيهم ، فهو في أمّ المؤمنين أبعد . قال الحسن معنى { بأنفسهم } بأهل دينهم ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ألا ترى إلى قوله { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } النساء 29 . قال الزجاج ولذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضاً إنهم يقتلون أنفسهم . قال المبرّد ومثله قوله سبحانه { فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } البقرة 54 . قال النحاس { بأنفسهم } بإخوانهم ، فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحداً ، ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه . قال العلماء إن في الآية دليلاً على أن درجة الإيمان والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع { وَقَالُواْ هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ } أي قال المؤمنون عند سماع الإفك هذا إفك ظاهر مكشوف . وجملة { لَّوْلاَ جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } من تمام ما يقوله المؤمنون أي وقالوا هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ما قالوا { فَإِذَا لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَـٰئِك } أي الخائضون في الإفك { عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ } أي في حكم الله تعالى هم الكاذبون الكاملون في الكذب { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } هذا خطاب للسامعين ، وفيه زجر عظيم { وَلَوْلاَ } هذه هي لامتناع الشيء لوجود غيره { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ } أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك ، يقال أفاض في الحديث ، واندفع وخاض . والمعنى لولا أني قضيت عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال ، والرحمة في الآخرة بالعفو ، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك . وقيل المعنى لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معاً ، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا ، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً . { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } الظرف منصوب بمسكم ، أو بأفضتم ، قرأ الجمهور { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } من التلقي ، والأصل تتلقونه ، فحذف إحدى التاءين . قال مقاتل ، ومجاهد المعنى يرويه بعضكم عن بعض . قال الكلبي وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا ، وكذا ، ويتلقونه تلقياً . قال الزجاج معناه يلقيه بعضكم إلى بعض . وقرأ محمد ابن السميفع بضم التاء ، وسكون اللام ، وضم القاف ، من الإلقاء ، ومعنى هذه القراءة واضح . وقرأ أبيّ وابن مسعود " تتلقونه " من التلقي ، وهي كقراءة الجمهور . وقرأ ابن عباس ، وعائشة ، وعيسىٰ بن عمر ، ويحيـىٰ بن يعمر ، وزيد بن عليّ بفتح التاء ، وكسر اللام ، وضم القاف ، وهذه القراءة مأخوذة من قول العرب ، ولق يلق ولقاً إذا كذب . قال ابن سيده جاءوا بالمعتدي شاهداً على غير المعتدي . قال ابن عطية وعندي أنه أراد يلقون فيه ، فحذف حرف الجرّ ، فاتصل الضمير . قال الخليل ، وأبو عمرو أصل الولق الإسراع ، يقال جاءت الإبل تلق أي تسرع ، ومنه قول الشاعر @ لما رأوا جيشاً عليهم قد طرق جاءوا بأسراب من الشام ولق @@ وقال الآخر @ جاءت به عيس من الشام تلق @@ قال أبو البقاء أي يسرعون فيه . قال ابن جرير وهذه اللفظة أي " تلقونه " على القراءة الأخيرة مأخوذة من الولق ، وهو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد ، وكلام في إثر كلام . وقرأ زيد بن أسلم ، وأبو جعفر " تألقونه " بفتح التاء ، وهمزة ساكنة ، ولام مكسورة ، وقاف مضمومة من الألق ، وهو الكذب ، وقرأ يعقوب " تيلقونه " بكسر التاء من فوق بعدها ياء تحتية ساكنة ، ولام مفتوحة ، وقاف مضمومة ، وهو مضارع ولق بكسر اللام ، ومعنى { وَتَقُولُونَ بِأَفْوٰهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أن قولهم هذا مختصّ بالأفواه من غير أن يكون واقعاً في الخارج معتقداً في القلوب . وقيل إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله { يطير بجناحيه } الأنعام 38 ، ونحوه ، والضمير في { تحسبونه } راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له { وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً } أي شيئاً يسيراً لا يلحقكم فيه إثم ، وجملة { وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ } في محل نصب على الحال أي عظيم ذنبه وعقابه . { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا } هذا عتاب لجميع المؤمنين أي هلا إذا سمعتم حديث الإفك قلتم تكذيباً للخائضين فيه المفترين له ما ينبغي لنا ، ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث ، ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه ، ومعنى قوله { سُبْحَـٰنَكَ هَـٰذَا بُهْتَـٰنٌ عَظِيمٌ } التعجب من أولئك الذين جاءوا بالإفك ، وأصله التنزيه لله سبحانه ، ثم كثر حتى استعمل في كلّ متعجب منه . والبهتان هو أن يقال في الإنسان ما ليس فيه أي هذا كذب عظيم لكونه قيل في أمّ المؤمنين رضي الله عنها ، وصدوره مستحيل شرعاً من مثلها . ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال { يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } أي ينصحكم الله ، أو يحرّم عليكم ، أو ينهاكم كراهة أن تعودوا ، أو من أن تعودوا ، أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف مدّة حياتكم { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمان يقتضي عدم الوقوع في مثله ما دمتم ، وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ { وَيُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَـٰتِ } في الأمر والنهي لتعملوا بذلك ، وتتأدبوا بآداب الله ، وتنزجروا عن الوقوع في محارمه { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بما تبدونه وتخفونه { حَكِيمٌ } في تدبيراته لخلقه . ثم هدّد سبحانه القاذفين ، ومن أراد أن يتسامع الناس بعيوب المؤمنين ، وذنوبهم فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي يحبون أن تفشو الفاحشة وتنتشر ، من قولهم شاع الشيء يشيع شيوعاً ، وشيعاً ، وشيعاناً إذا ظهر وانتشر ، والمراد بالذين آمنوا المحصنون العفيفون ، أو كلّ من اتصف بصفة الإيمان ، والفاحشة هي فاحشة الزنا ، أو القول السيء { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي ٱلدُّنْيَا } بإقامة الحدّ عليهم { وَٱلآخِرَةِ } بعذاب النار { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ } جميع المعلومات { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } إلاّ ما علمكم به وكشفه لكم ، ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف ، وعقوبة فاعله { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } هو تكرير لما تقدّم تذكيراً للمنة منه سبحانه على عباده بترك المعاجلة لهم { وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ومن رأفته بعباده أن لا يعاجلهم بذنوبهم ، ومن رحمته لهم أن يتقدّم إليهم بمثل هذا الإعذار ، والإنذار ، وجملة { وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } معطوفة على فضل الله ، وجواب " لولا " محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لعاجلكم بالعقوبة . { ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } الخطوات جمع خطوة ، وهي ما بين القدمين ، والخطوة بالفتح المصدر أي لا تتبعوا مسالك الشيطان ومذاهبه ، ولا تسلكوا طرائقه التي يدعوكم إليها . قرأ الجمهور { خطوات } بضم الخاء ، والطاء ، وقرأ عاصم ، والأعمش بضم الخاء ، وإسكان الطاء . { مَن يَتَّبِعُ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ } قيل جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له ، كأنه قيل فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لأن دأبه أن يستمرّ آمراً لغيره بهما ، والفحشاء ما أفرط قبحه ، والمنكر ما ينكره الشرع ، وضمير إنه للشيطان ، وقيل للشأن ، والأولى أن يكون عائداً إلى من يتبع خطوات الشيطان ، لأن من اتبع الشيطان صار مقتدياً به في الأمر بالفحشاء والمنكر { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } قد تقدّم بيانه ، وجواب " لولا " هو قوله { مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً } أي لولا التفضل ، والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حياً . قرأ الجمهور { زَكَى } بالتخفيف ، وقرأ الأعمش ، وابن محيصن ، وأبو جعفر بالتشديد أي ما طهره الله . وقال مقاتل أي ما صلح . والأولى تفسير زكى بالتطهر والتطهير ، وهو الذي ذكره ابن قتيبة . قال الكسائي إن قوله { ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } معترض ، وقوله { مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً } جواب لقوله أوّلاً ، وثانياً ، ولولا فضل الله . وقراءة التخفيف أرجح لقوله { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكّي مَن يَشَاء } أي من عباده بالتفضل عليهم ، والرحمة لهم { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لما يقولونه { عَلِيمٌ } بجميع المعلومات ، وفيه حثّ بالغ على الإخلاص ، وتهييج عظيم لعباده التائبين ، ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان ، ويحبّ أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين ، ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه . وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظٍ متعدّدة ، وطرق مختلفة . حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدّم ذكرهم في شأن عائشة رضي الله عنها ، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقداً لها انقطع من جزع ، فرحلوا ، وهم يظنون أنها في هودجها ، فرجعت ، وقد ارتحل الجيش ، والهودج معهم ، فأقامت في ذلك المكان ، ومرّ بها صفوان بن المعطل ، وكان متأخراً عن الجيش ، فأناخ راحلته ، وحملها عليها فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا ، فبرأها الله مما قالوه . هذا حاصل القصة مع طولها ، وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك . وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأهل السنن الأربع ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم . قال الترمذي هذا حديث حسن . ووقع عند أبي داود تسميتهم حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبيّ بن سلول ، ومسطح ، وحسان ، وحمنة بنت جحش . وأخرج البخاري ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال كنت عند الوليد بن عبد الملك ، فقال الذي تولى كبره منهم علىّ ، فقلت لا ، حدثني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ ، قال فقال لي فما كان جرمه ؟ قلت حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمٰن بن عوف ، وأبو بكر بن عبد الرحمٰن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول كان مسيئاً في أمري . وقال يعقوب بن شيبة في مسنده حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني ، حدّثنا الشافعي ، حدّثنا عمي قال دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال عبد الله بن أبيّ . قال كذبت هو عليّ . قال أمير المؤمنين أعلم بما يقول ، فدخل الزهري فقال يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال ابن أبيّ . قال كذبت هو عليّ . قال أنا أكذب ؟ لا أبا لك ، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت ، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ ، وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن مسروق قال دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال @ حصان رزان ما تزنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل @@ قالت لكنك لست كذلك ، قلت تدعين مثل هذا يدخل عليك ، وقد أنزل الله { وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فقالت وأيّ عذاب أشدّ من العمى ؟ . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال بلى وذلك الكذب ، أكنت أنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب ؟ قالت لا والله ، قال فعائشة والله خير منك وأطيب ، إنما هذا كذب وإفك باطل فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك . ثم قال { لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ } أي كما قال أبو أيوب ، وصاحبته . وأخرج الواقدي ، والحاكم ، وابن عساكر عن أفلح مولى أبي أيوب أن أمّ أيوب … فذكر نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد ابن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس { يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } قال يحرّج الله عليكم . وأخرج البخاري في الأدب ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن عليّ بن أبي طالب قال القائل الفاحشة ، والذي شيع بها في الإثم سواء . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً } قال ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير .