Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 35-38)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بيّن سبحانه من الأحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال ، فقال { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ، وهذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها ، والاسم الشريف مبتدأ ، و { نور السمٰوات والأرض } خبره ، إما على حذف مضاف ، أي ذو نور السموات ، والأرض ، أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله ، وظهور عدله ، وبسطه أحكامه ، كما يقال فلان نور البلد ، وقمر الزمن ، وشمس العصر ، ومنه قول النابغة @ فإنك شمس والملوك كواكب إذا ظهرت لم يبق منهن كوكب @@ وقول الآخر @ هلا قصدت من البلاد لمفضل قمر القبائل خالد بن يزيد @@ ومن ذلك قول الشاعر @ إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها @@ وقول الآخر @ نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا @@ ومعنى النور في اللغة الضياء ، وهو الذي يبين الأشياء ، ويري الأبصار حقيقة ما تراه ، فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه على طريقة المدح ، ولكونه أوجد الأشياء المنوّرة ، وأوجد أنوارها ، ونوّرها ، ويدلّ على هذا المعنى قراءة زيد بن عليّ ، وأبي جعفر ، وعبد العزيز المكي { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } على صيغة الفعل الماضي ، وفاعله ضمير يرجع إلى الله ، والسماوات مفعوله فمعنى { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } إنه سبحانه صيرهما منيرتين باستقامة أحوال أهلهما ، وكمال تدبيره عزّ وجلّ لمن فيهما ، كما يقال الملك نوّر البلد ، هكذا قال الحسن ، ومجاهد ، والأزهري ، والضحاك ، والقرظي ، وابن عرفة ، وابن جرير ، وغيرهم ، ومثله قول الشاعر @ وأنت لنا نور وغيث وعصمة ونبت لمن يرجو نداك وريف @@ وقال هشام الجواليقي ، وطائفة من المجسمة إنه سبحانه نور لا كالأنوار ، وجسم لا كالأجسام ، وقوله { مَثَلُ نُورِهِ } مبتدأ ، وخبره { كَمِشْكَاةٍ } أي صفة نوره الفائض عنه ، الظاهر على الأشياء كمشكاة ، والمشكاة الكوّة في الحائط غير النافذة ، كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين ، وحكاه القرطبي عن جمهورهم . ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح ، أو غيره ، وأصل المشكاة الوعاء يجعل فيه الشيء . وقيل المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة . وقال مجاهد هي القنديل . والأوّل أولى ، ومنه قول الشاعر @ كأن عينيه مشكاتان في جحر @@ ثم قال { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو السراج { ٱلْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ } قال الزجاج النور في الزجاج ، وضوء النار أبين منه في كل شيء ، وضوؤه يزيد في الزجاج ، ووجه ذلك أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور . ثم وصف الزجاجة ، فقال { ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ } أي منسوب إلى الدرّ لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدرّ . وقال الضحاك الكوكب الدرّي الزهرة . قرأ أبو عمرو " دِريّ " بكسر الدال . قال أبو عمرو لم أسمع أعرابياً يقول إلاّ كأنه كوكب درّيّ بكسر الدال ، أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت . وقرأ حمزة بضم الدال مهموزاً ، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد . وقال أبو عبيد إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز ، لأنه ليس في كلام العرب . والدّراري هي المشهورة من الكواكب كالمشتري ، والزهري ، والمريخ ، وما يضاهيها من الثوابت . ثم وصف المصباح بقوله { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } و « من » هذه هي الابتدائية أي ابتداء إيقاد المصباح منها ، وقيل هو على تقدير مضاف ، أي يوقد من زيت شجرة مباركة ، والمباركة الكثيرة المنافع . وقيل المنماة ، والزيتون من أعظم الثمار نماء ، ومنه قول أبي طالب ، يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس @ ليت شعري مسافر بن أبي عمرو وليت يقولها المحزون بورك الميت الغريب كما بورك نبع الرمان والزيتون @@ قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها ، وهي إدام ، ودهان ، ودباغ ، ووقود ، وليس فيها شيء إلاّ وفيه منفعة ، ثم وصفها بأنها { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } . وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف ، فقال عكرمة ، وقتادة ، وغيرهم إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت ، ولا تصيبها إذا غربت . والغربية هي التي تصيبها إذا غربت ، ولا تصيبها إذا شرقت . وهذه الزيتونة هي في صحراء بحيث لا يسترها عن الشمس شيء لا في حال شروقها ، ولا في حال غروبها ، وما كانت من الزيتون هكذا ، فثمرها أجود . وقيل إن المعنى إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها ، فهي غير منكشفة من جهة الشرق ، ولا من جهة الغرب ، حكى هذا ابن جرير عن ابن عباس . قال ابن عطية وهذا لا يصح عن ابن عباس ، لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها ، وذلك مشاهد في الوجود . ورجح القول الأوّل الفراء ، والزجاج . وقال الحسن ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا ، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية . قال الثعلبي قد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا ، لأن قوله { زَيْتُونَةٍ } بدل من قوله { شَجَرَةٍ } . قال ابن زيد إنها من شجر الشام ، فإن الشام لا شرقيّ ، ولا غربيّ ، والشام هي الأرض المباركة . وقد قرىء " توقد " بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح ، وبها قرأ الكوفيون . وقرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص { يُوقَدُ } بالتحتية مضمومة ، وتخفيف القاف ، وضم الدال . وقرأ الحسن ، والسلمي ، وأبو عمرو بن العلاء ، وأبو جعفر " توقد " بالفوقية مفتوحة ، وفتح الواو ، وتشديد القاف ، وفتح الدال على أنه فعل ماض من توقد يتوقد ، والضمير في هاتين القراءتين راجع إلى المصباح . قال النحاس وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعاً للمصباح ، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء ، وإنما الزجاجة وعاء له . وقرأ نصر بن عاصم كقراءة أبي عمرو ومن معه إلاّ أنه ضم الدال على أنه فعل مضارع ، وأصله تتوقد . ثم وصف الزيتونة بوصف آخر ، فقال { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } قرأ الجمهور { تمسسه } بالفوقية ، لأن النار مؤنثة . قال أبو عبيد إنه لا يعرف إلاّ هذه القراءة . وحكى أبو حاتم أن السدّي روى عن أبي مالك ، عن ابن عباس أنه قرأ « يمسسه » بالتحتية لكون تأنيث النار غير حقيقي . والمعنى أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلاً ، وارتفاع { نُورٍ } على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو نور ، و { عَلَىٰ نُورٍ } متعلق بمحذوف ، هو صفة لنور مؤكدة له ، والمعنى هو نور كائن على نور . قال مجاهد والمراد النار على الزيت . وقال الكلبي المصباح نور ، والزجاجة نور . وقال السديّ نور الإيمان ، ونور القرآن { يَهْدِى ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } من عباده أي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب ، وليس المراد بالهداية هنا مجرّد الدلالة { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } أي يبين الأشياء بأشباهها ، ونظائرها تقريباً لها إلى الأفهام وتسهيلاً لإدراكها ، لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس ، وتصويره بصورته يزيده وضوحاً وبياناً { وَٱللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } لا يغيب عنه شيء من الأشياء معقولاً كان أو محسوساً ، ظاهراً ، أو باطناً . واختلف في قوله { فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ } بما هو متعلق فقيل متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت الله ، وهي المساجد ، كأنه قيل مثل نوره كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت ، وقيل متعلق بمصباح . وقال ابن الأنباري سمعت أبا العباس يقول هو حال للمصباح ، والزجاجة ، والكوكب ، كأنه قيل وهي في بيوت ، وقيل متعلق بتوقد أي توقد في بيوت ، وقد قيل متعلق بما بعده ، وهو { يسبح } أي يسبح له رجال في بيوت ، وعلى هذا يكون قوله { فِيهَا } تكريراً كقولك ، زيد في الدار جالس فيها . وقيل إنه منفصل عما قبله ، كأنه قال الله في بيوت أذن الله أن ترفع . قال الحكيم الترمذي وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه . وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة ، أو بمصباح ، أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح ، والمشكاة ، وجمع البيوت ؟ ولا تكون المشكاة الواحدة ، ولا المصباح الواحد إلاّ في بيت واحد . وأجيب بأن هذا من الخطاب الذي يفتح أوّله بالتوحيد ، ويختم بالجمع كقوله سبحانه { يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء } الطلاق 1 ونحوه . وقيل معنى { في بيوت } في كلّ واحد من البيوت ، فكأنه قال في كلّ بيت ، أو في كلّ واحد من البيوت . واختلف الناس في البيوت ، على أقوال الأوّل أنها المساجد ، وهو قول مجاهد ، والحسن ، وغيرهما . الثاني أن المراد بها بيوت بيت المقدس ، روي ذلك عن الحسن . الثالث أنها بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، روي عن مجاهد . الرابع هي البيوت كلها ، قاله عكرمة . الخامس أنها المساجد الأربعة الكعبة ، ومسجد قباء ، ومسجد المدينة ، ومسجد بيت المقدس ، قاله ابن زيد . والقول الأوّل أظهر لقوله { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ } ، والباء من بيوت تضم ، وتكسر كلّ ذلك ثابت في اللغة ، ومعنى { أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ } أمر وقضى ، ومعنى { تُرْفَعَ } تبنى ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، وغيرهما ، ومنه قوله سبحانه { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ } البقرة 127 . وقال الحسن البصري ، وغيره معنى ترفع تعظم ، ويرفع شأنها ، وتطهر من الأنجاس ، والأقذار ، ورجحه الزجاج وقيل المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين ، ومعنى { يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } كلّ ذكر لله عزّ وجلّ ، وقيل هو التوحيد ، وقيل المراد تلاوة القرآن ، والأوّل أولى . { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ رِجَالٌ } قرأ ابن عامر ، وأبو بكر " يسبح " بفتح الباء الموحدة مبنياً للمفعول ، وقرأ الباقون بكسرها مبنياً للفاعل إلاّ ابن وثاب ، وأبا حيوة ، فإنهما قرآ بالتاء الفوقية ، وكسر الموحدة ، فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة ، ويكون رجال مرفوع على أحد وجهين إما بفعل مقدّر ، وكأنه جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل من يسبحه ؟ فقيل يسبحه رجال . الثاني أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وعلى القراءة الثانية يكون رجال فاعل يسبح ، وعلى القراءة الثالثة يكون الفاعل أيضاً رجال ، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال . واختلف في هذا التسبيح ما هو ؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، قالوا الغدوّ صلاة الصبح ، والآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين ، لأن اسم الآصال يشملها ، ومعنى بالغدوّ والآصال بالغداة والعشي ، وقيل صلاة الصبح والعصر ، وقيل المراد صلاة الضحى ، وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي ، وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده ، وهذا أرجح مما قبله ، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه الأوّلون ، وهو ما ذكرناه . { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } هذه الجملة صفة لرجال ، أي لا تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر وخصّ التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الذكر . وقال الفراء التجارة لأهل الجلب ، والبيع ما باعه الرجل على بدنه ، وخصّ قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعدها ، وبمثل قول الفراء . قال الواقدي ، فقال التجار هم الجلاب المسافرون ، والباعة هم المقيمون ، ومعنى { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } هو ما تقدّم في قوله { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } ، وقيل المراد الآذان ، وقيل عن ذكره بأسمائه الحسنى أي يوحدونه ، ويمجدونه . وقيل المراد عن الصلاة ، ويردّه ذكر الصلاة بعد الذكر هنا . والمراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها من غير تأخير ، وحذفت التاء لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله @ ثلاثة تحذف تاآتها مضافة عند جمع النحاة وهي إذا شئت أبو عذرها وليت شعري وإقام الصلاة @@ وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر @ إن الخليط أجدوا البين وانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا @@ أي عدة الأمر ، وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع . قال الزجاج وإنما حذفت الهاء لأنه يقال أقمت الصلاة إقامة ، وكان الأصل إقواماً ، ولكن قلبت الواو ألفاً ، فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين ، فبقي أقمت الصلاة إقاماً ، فأدخلت الهاء عوضاً من المحذوف ، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة ، وهذا إجماع من النحويين . انتهى . وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة أن يحمل إقامة الصلاة على تأديتها في أوقاتها فراراً من التكرار ، ولا ملجىء إلى ذلك ، بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدّمنا . والمراد بالزكاة المذكورة هي المفروضة ، وقيل المراد بالزكاة طاعة الله ، والإخلاص ، إذ ليس لكلّ مؤمن مال . { يَخَـٰفُونَ يَوْماً } أي يوم القيامة ، وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له ، ثم وصف هذا اليوم بقوله { تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَـٰرُ } أي تضطرب ، وتتحوّل ، قيل المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ، ولا تخرج ، والمراد بتقلب الأبصار هو أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة . وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة ، والخوف من الهلاك ، وأما تقلب الأبصار فهو نظرها من أيّ ناحية يؤخذون ، وإلى أيّ ناحية يصيرون . وقيل المراد تحوّل قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين ، ومثله قوله { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } قۤ 22 . فما كان يراه في الدنيا غياً يراه في الآخرة رشداً . وقيل المراد التقلب على جمر جهنم ، وقيل غير ذلك . { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } متعلق بمحذوف ، أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح ، والذكر ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا أي أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله ، وإلى سبعمائة ضعف ، وقيل المراد بما في هذه الآية ما يتفضل سبحانه به عليهم زيادة على ما يستحقونه ، والأوّل أولى لقوله { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه ، أو أن عطاءه سبحانه لا نهاية له ، والجملة مقرّرة لما سبقها من الوعد بالزيادة . وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } قال يدبر الأمر فيهما نجومهما ، وشمسهما ، وقمرهما . وأخرج الفريابي عنه في قوله { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } مثل نوره الذي أعطاه المؤمن { كَمِشْكَاةٍ } ، وقال في تفسير { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } إنها التي في سفح جبل لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } فذلك مثل قلب المؤمن نور على نور . وأخرج عبد بن حميد ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن الشعبيّ قال في قراءة أبيّ بن كعب " مثل نور المؤمن كمشكاة " . وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة ، وهي الكوّه . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { مَثَلُ نُورِهِ } قال هي خطأ من الكاتب هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة ، قال مثل نور المؤمن كمشكاة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } قال هادي أهل السماوات والأرض { مَثَلُ نُورِهِ } مثل هداه في قلب المؤمن { كَمِشْكَاةٍ } يقول موضع الفتيلة كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه ، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ، ونوراً على نور ، وفي إسناده عليّ بن أبي طلحة ، وفيه مقال . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبيّ بن كعب { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ } قال هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره ، فضرب الله مثله ، فقال { نُورٍ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ } فبدأ بنور نفسه ، ثم ذكر نور المؤمن ، فقال مثل نور من آمن به ، فكان أبيّ بن كعب يقرؤها " مثل نور من آمن به " فهو المؤمن ، جعل الإيمان والقرآن في صدره { كَمِشْكَاةٍ } قال فصدر المؤمن المشكاة { فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ } النور ، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره { فِى زُجَاجَةٍ } و { ٱلزُّجَاجَةُ } قلبه { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ } يقول كوكب مضيء { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } ، والشجرة المباركة أصل المبارك الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا شريك له { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قال فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر ، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غربت ، فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره ، فقال { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } المشكاة كوّة البيت فيها مصباح ، وهو السراج يكون في الزجاجة ، وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمى طاعته نوراً ، ثم سماها أنواعاً شتى { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قال وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت ، ولا إذا غربت ، وذلك أجود الزيت { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء } بغير نار { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } يعني بذلك إيمان العبد وعلمه { يَهْدِى ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } وهو مثل المؤمن . وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } قال المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم ، والزجاجة قلبه ، والمصباح النور الذي في قلبه . { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } الشجرة إبراهيم { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } لا يهودية ولا نصرانية ، ثم قرأ { مَا كَانَ إِبْرٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } آل عمران 67 . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن شمر بن عطية قال جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال حدّثني عن قول الله { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ } قال مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة قال المشكاة الكوّة ضربها الله مثلاً لقمة فيها مصباح ، والمصباح قلبه { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } ، والزجاجة صدره { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ } شبه صدر محمد صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدرّيّ ، ثم رجع المصباح إلى قلبه ، فقال { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ … يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء } قال يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ، ولو لم يتكلم أنه نبيّ ، كما يكاد الزيت أن يضيء ، ولو لم تمسسه نار . وأقول إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدّم عن أبيّ بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب ، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجوّز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية ، ولكن هؤلاء الصحابة ، ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة ، ولهذا قال ابن عباس هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدّمنا عنه ، ولا وجه لهذا الاستبعاد . فإنا قد قدّمنا في أوّل البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه ، وأبلغ أسلوب ، وعلى ما تقتضيه لغة العرب ، ويفيده كلام الفصحاء ، فلا وجه للعدول عن الظاهر ، لا من كتاب ، ولا من سنة ، ولا من لغة . وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدّمنا ، فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية ، فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا . وقد نبهناك فيما سبق أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيراً ، فلا تقوم به الحجة ، ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي ، نعم إن صحت قراءة أبيّ بن كعب ، كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر ، وتكون كالزيادة المبينة للمراد ، وإن لم تصح ، فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة ، وغيرهم ممن قبلهم ، وممن بعدهم هو المتعين . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ } قال هي المساجد تكرم ، وينهى عن اللغو فيها ، ويذكر فيها اسم الله ، يتلى فيها كتابه { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ } صلاة الغداة وصلاة العصر ، وهما أوّل ما فرض الله من الصلاة فأحبّ أن يذكرهما ، ويذكر بهما عباده . وقد ورد في تعظيم المساجد ، وتنزيهها عن القذر ، وتنظيفها ، وتطييبها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها . وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال إن صلاة الضحى لفي القرآن ، وما يغوص عليها إلى غوّاص في قوله { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ } . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } قال " هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } قال " هم الذين يبتغون من فضل الله " وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية ، قال كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون ، فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم ، وقاموا إلى المسجد ، فصلوا . وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية ، قال ضرب الله هذا المثل قوله { كَمِشْكَاةٍ } لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ، ولا بيع عن ذكر الله ، وكانوا أتجر الناس ، وأبيعهم ، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ، ولا بيعهم عن ذكر الله . وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه أيضاً عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ قال عن شهود الصلاة . وأخرج عبد الرزّاق ، وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ، ثم دخلوا المسجد ، فقال ابن عمر فيهم نزلت { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } . وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه رأى ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان ، فتركوا أمتعتهم ، فقال هؤلاء الذين قال الله فيهم { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } . وأخرج هناد بن السري في الزهد ، وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب ، ومحمد ابن نصر في الصلاة ، عن أسماء بنت يزيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيدٍ واحدٍ يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، فيقوم منادٍ ، فينادي أين الذين كانوا يحمدون الله في السرّاء والضرّاء ؟ فيقومون ، وهم قليل ، فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادي أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ فيقومون ، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادي ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ، ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون ، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ، ثم يقوم سائر الناس ، فيحاسبون " وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب ، عن عقبة بن عامر مرفوعاً نحوه .