Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 69-104)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ } معطوف على العامل في قوله { وَإِذَا نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ } الشعراء 10 ، وقد تقدّم ، والمراد بنبأ إبراهيم خبره أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وحديثه ، و { إِذْ قَالَ } منصوب بنبأ إبراهيم أي وقت قوله { لأِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } ، وقيل " إذ " بدل من نبأ بدل اشتمال ، فيكون العامل فيه اتل ، والأوّل أولى . ومعنى { مَا تَعْبُدُونَ } أيّ شيء تعبدون ؟ وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام ، ولكنه أراد إلزامهم الحجة { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَـٰكِفِينَ } أي فنقيم على عبادتها مستمراً لا في وقت معين ، يقال ظلّ يفعل كذا إذا فعله نهاراً ، وبات يفعل كذا إذا فعله ليلاً ، فظاهره أنهم يستمرّون على عبادتها نهاراً لا ليلاً ، والمراد من العكوف لها الإقامة على عبادتها ، وإنما قال { لها } لإفادة أن ذلك العكوف لأجلها ، فلما قالوا هذه المقالة قال إبراهيم منبهاً على فساد مذهبهم { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } قال الأخفش فيه حذف ، والمعنى هل يسمعون منكم ؟ أو هل يسمعون دعاءكم ؟ وقرأ قتادة " هل يسمعونكم " بضم الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم وقت دعائكم لهم { أَوْ يَنفَعُونَكُمْ } بوجه من وجوه النفع { أَوْ يَضُرُّونَ } أي يضرّونكم إذا تركتم عبادتهم ، وهذا الاستفهام للتقرير ، فإنها إذا كانت لا تسمع ، ولا تنفع ، ولا تضرّ ، فلا وجه لعبادتها ، فإذا قالوا نعم هي كذلك ، أقرّوا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث ، وعند ذلك تقوم الحجة عليهم ، فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة لم يجدوا لها جواباً إلاّ رجوعهم إلى التقليد البحت ، وهو أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون أي يفعلون لهذه العبادة لهذه الأصنام مع كونها بهذه الصفة التي هي سلب السمع والنفع والضر عنها . وهذا الجواب هو العصى التي يتوكأ عليها كلّ عاجز ، ويمشي بها كلّ أعرج ، ويغترّ بها كل مغرور ، وينخدع لها كل مخدوع فإنك لو سألت الآن هذه المقلدة للرجال التي طبقت الأرض بطولها والعرض ، وقلت لهم ما الحجة لهم على تقليد فرد من أفراد العلماء ، والأخذ بكل ما يقوله في الدين ، ويبتدعه من الرأي المخالف للدليل لم يجدوا غير هذا الجواب ، ولا فاهوا بسواه ، وأخذوا يعدّدون عليك من سبقهم إلى تقليد هذا من سلفهم ، واقتداء بأقواله وأفعاله ، وهم قد ملؤوا صدورهم هيبة ، وضاقت أذهانهم عن تصوّرهم ، وظنوا أنهم خير أهل الأرض ، وأعلمهم ، وأورعهم ، فلم يسمعوا لناصح نصحاً ، ولا لداع إلى الحق دعاء ، ولو فطنوا لوجدوا أنفسهم في غرور عظيم وجهل شنيع وإنهم كالبهيمة العمياء ، وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمي ، كما قال الشاعر @ كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الحائر @@ فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة المبرأ من التعصب والتعسف أن تورد عليهم حجج الله ، وتقيم عليهم براهينه ، فإنه ربما انقاد لك منهم من لم يستحكم داء التقليد في قلبه ، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء ، فلو أوردت عليه كلّ حجة ، وأقمت عليه كلّ برهان لما أعارك إلاّ أذنا صماء ، وعيناً عمياء ، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن ، والهداية بيد الخلاق العليم { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } القصص 56 . ولما قال هؤلاء المقلدة هذه المقالة { قَالَ } الخليل { قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُون أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ ٱلأقْدَمُونَ } أي فهل أبصرتم ، وتفكرتم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام التي لا تسمع ، ولا تنفع ، ولا تضرّ حتى تعلموا أنكم على ضلالة وجهالة ؟ ثم أخبرهم بالبراءة من هذه الأصنام التي يعبدونها . فقال { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } ، ومعنى كونهم عدوًّا له مع كونهم جماداً أنه إن عبدهم كانوا له عدوًّا يوم القيامة . قال الفراء هذا من المقلوب أي فإني عدوّ لهم لأن من عاديته عاداك ، والعدوّ كالصديق يطلق على الواحد والمثنى والجماعة والمذكر والمؤنث كذا قال الفراء . قال عليّ بن سليمان من قال عدوّة الله ، فأثبت الهاء ، قال هي بمعنى المعادية ، ومن قال عدوّ للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب . وقيل المراد بقوله { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى } آباؤهم الأقدمون لأجل عبادتهم الأصنام ، وردّ بأن الكلام مسوق فيما عبدوه لا في العابدين ، والاستثناء في قوله { إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } منقطع أي لكن ربّ العالمين ليس كذلك ، بل هو وليي في الدنيا والآخرة . قال الزجاج قال النحويون هو استثناء ليس من الأوّل ، وأجاز الزجاج أيضاً أن يكون من الأوّل على أنهم كانوا يعبدون الله عزّ وجلّ ، ويعبدون معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلاّ الله . قال الجرجاني تقديره أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلاّ رب العالمين ، فإنهم عدوّ لي ، فجعله من باب التقديم والتأخير ، وجعل إلاّ بمعنى دون وسوى كقوله { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } الدخان 56 أي دون الموتة الأولى . وقال الحسن بن الفضل إن المعنى إلاّ من عبد ربّ العالمين . ثم وصف ربّ العالمين بقوله { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } أي فهو يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا . وقيل إن الموصول مبتدأ ، وما بعده خبره ، والأوّل أولى . ويجوز أن يكون الموصول بدلاً من ربّ ، وأن يكون عطف بيان له ، وأن يكون منصوباً على المدح بتقدير أعني ، أو أمدح ، وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله ، فإن الخلق ، والهداية ، والرزق يدلّ عليه قوله { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } ، ودفع ضرّ المرض ، وجلب نفع الشفاء ، والإماتة ، والإحياء ، والمغفرة للذنب ، كلها نعم يجب على المنعم عليه ببعضها فضلاً عن كلها أن يشكر المنعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها ، وأولاها العبادة ، ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره ، وأسند المرض إلى نفسه دون غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية للأدب مع الربّ ، وإلاّ فالمرض وغيره من الله سبحانه ، ومراده بقوله { ثُمَّ يُحْيِينِ } البعث ، وحذف الياء من هذه الأفعال لكونها رؤوس الآي . وقرأ ابن أبي إسحاق هذه الأفعال كلها بإثبات الياء ، وإنما قال عليه الصلاة والسلام { وَٱلَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِينِ } هضماً لنفسه ، وقيل إن الطمع هنا بمعنى اليقين في حقه ، وبمعنى الرجاء في حق سواه . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق " خطاياي " قالا ليست خطيئته واحدة . قال النحاس خطيئة بمعنى خطايا في كلام العرب . قال مجاهد يعني بخطيئته قوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا } الأنبياء 63 ، وقوله { إِنّى سَقِيمٌ } الصافات 89 ، وقوله إن سارة أخته ، زاد الحسن وقوله للكوكب { هَـٰذَا رَبّي } الأنعام 86 ، وحكى الواحدي عن المفسرين أنهم فسروا الخطايا بما فسرها به مجاهد . قال الزجاج الأنبياء بشر ، ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلاّ أنهم لا تكون منهم الكبيرة لأنهم معصومون ، والمراد بيوم الدين يوم الجزاء للعباد بأعمالهم ، ولا يخفى أن تفسير الخطايا بما ذكره مجاهد ، ومن معه ضعيف ، فإن تلك معاريض ، وهي أيضاً إنما صدرت عنه بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه . ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه ، والاعتراف بنعمه عقبه بالدعاء ليقتدي به غيره في ذلك ، فقال { رَبّ هَبْ لِي حُكْماً } ، والمراد بالحكم العلم والفهم ، وقيل النبوّة والرسالة ، وقيل المعرفة بحدود الله ، وأحكامه إلى آخره { وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّـٰلِحِينَ } يعني بالنبيين من قبلي . وقيل بأهل الجنة { وَٱجْعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } أي اجعل لي ثناء حسناً في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة . قال القتيبي وضع اللسان موضع القول على الاستعارة ، لأن القول يكون به ، وقد تكنى العرب بها عن الكلمة ، ومنه قول الأعشى @ إني أتتني لسان لا أسرّ بها @@ وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ } الصافات 108 فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه . وقال مكي قيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق ، فأجيبت دعوته في محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا وجه لهذا التخصيص . وقال القشيري أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة ، ولا وجه لهذا أيضاً ، فإن لسان الصدق أعم من ذلك { وَٱجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ } { من ورثة } يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً ، وأن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني أي وارثاً من ورثة جنة النعيم ، لما طلب عليه السلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وجعلها مما يورث تشبيهاً لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا ، وقد تقدّم تفسير معنى الوراثة في سورة مريم { وَٱغْفِرْ لأِبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّالّينَ } كان أبوه قد وعده أنه يؤمن به ، فاستغفر له ، فلما تبين له أنه عدوّ الله تبرأ منه ، وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة التوبة وسورة مريم ، ومعنى { مِنَ ٱلضَّالّينَ } من المشركين الضالين عن طريق الهداية . و { كان } زائدة على مذهب سيبويه كما تقدّم في غير موضع . { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي ، أو لا تعذبني يوم القيامة ، أو لا تخزني بتعذيب أبي أو ببعثه في جملة الضالين ، والإخزاء يطلق على الخزي ، وهو الهوان ، وعلى الخزاية وهي الحياء ، و { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } بدل من يبعثون ، أي يوم لا ينفع فيه المال والبنون أحداً من الناس ، والابن هو أخصّ القرابة ، وأولاهم بالحماية ، والدفع ، والنفع ، فإذا لم ينفع ، فغيره من القرابة ، والأعوان بالأولى . وقال ابن عطية إن هذا وما بعده من كلام الله ، وهو ضعيف ، والاستثناء بقوله { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قيل هو منقطع ، أي لكن من أتى الله بقلب سليم . قال في الكشاف إلا حال من أتى الله بقلب سليم ، فقدّر مضافاً محذوفاً . قال أبو حيان ولا ضرورة تدعو إلى ذلك . وقيل إن هذا الاستثناء بدل من المفعول المحذوف ، أو مستثنى منه ، إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلاّ من كانت هذه صفته ، ويحتمل أن يكون بدلاً من فاعل { ينفع } ، فيكون مرفوعاً . قال أبو البقاء فيكون التقدير إلاّ مال من أو بنو من ، فإنه ينفع . واختلف في معنى القلب السليم ، فقيل السليم من الشرك ، فأما الذنوب ، فليس يسلم منها أحد ، قاله أكثر المفسرين . وقال سعيد بن المسيب القلب السليم الصحيح ، وهو قلب المؤمن ، لأن قلب الكافر والمنافق مريض ، وقيل هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة ، وقيل السالم من آفة المال والبنين . وقال الضحاك السليم الخالص . وقال الجنيد السليم في اللغة اللديغ ، فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله تعالى ، وهذا تحريف وتعكيس لمعنى القرآن . قال الرازي أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة . { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي قربت ، وأدنيت لهم ليدخلوها . وقال الزجاج قرب دخولهم إياها ، ونظرهم إليها { وَبُرّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } أي جعلت بارزة لهم ، والمراد بالغاوين الكافرون ، والمعنى أنها أظهرت قبل أن يدخلها المؤمنون ، ليشتدّ حزن الكافرين ، ويكثر سرور المؤمنين { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ ٱللَّهِ } من الأصنام والأنداد { هَلْ يَنصُرُونَكُمْ } فيدفعون عنكم العذاب { أَوْ يَنتَصِرُونَ } بدفعه عن أنفسهم . وهذا كله توبيخ وتقريع لهم ، وقرأ مالك بن دينار " وبرّزت " بفتح الباء والراء مبنياً للفاعل . { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَ } أي ألقوا في جهنم " هم " يعني المعبودين ، و { الغاوون } يعني العابدين لهم . وقيل معنى كبكبوا قلبوا على رؤوسهم ، وقيل ألقى بعضهم على بعض ، وقيل جمعوا ، مأخذوا من الكبكبة ، وهي الجماعة قاله الهروي . وقال النحاس هو مشتق من كوكب الشيء أي معظمه ، والجماعة من الخيل كوكب ، وكبكبة ، وقيل دهدهوا ، وهذه المعاني متقاربة ، وأصله كببوا بباءين الأولى مشدّدة من حرفين ، فأبدل من الباء الوسطى الكاف . وقد رجح الزجاج أن المعنى طرح بعضهم على بعض . ورجح ابن قتيبة أن المعنى ألقوا على رؤوسهم . وقيل الضمير في كبكبوا لقريش ، والغاوون الآلهة ، والمراد بجنود إبليس شياطينه الذين يغوون العباد ، وقيل ذريته ، وقيل كل من يدعو إلى عبادة الأصنام ، و { أَجْمَعُونَ } تأكيد للضمير في كبكبوا ، وما عطف عليه . وجملة { قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل ؟ ومقول القول { تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } وجملة { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } في محل نصب على الحال أي قالوا هذه المقالة حال كونهم في جهنم مختصمين ، و « إن » في { إِن كُنَّا } هي المخففة من الثقيلة ، واللام فارقة بينها وبين النافية أي قالوا تالله إن الشأن كوننا في ضلال واضح ظاهر ، والمراد بالضلال هنا الخسار ، والتبار ، والحيرة عن الحق ، والعامل في الظرف ، أعني { إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } هو كونهم في الضلال المبين . وقيل العامل هو الضلال ، وقيل ما يدل عليه الكلام ، كأنه قيل ضللنا وقت تسويتنا لكم بربّ العالمين . وقال الكوفيون إنّ « إن » في { أَن كُنَّا } نافية ، واللام بمعنى إلاّ أي ما كنا إلا في ضلال مبين . والأوّل أولى ، وهو مذهب البصريين . { فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِينَ } يشفعون لنا من العذاب كما للمؤمنين { وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } أي ذي قرابة ، والحميم القريب الذي تودّه ، ويودّك ، ووحد الصديق لما تقدّم غير مرة أنه يطلق على الواحد والإثنين والجماعة والمذكر والمؤنث ، والحميم مأخوذ من حامة الرجل أي أقربائه ، ويقال حمّ الشيء وأحمّ إذا قرب منه ، ومنه الحمى لأنه يقرّب من الأجل . وقال علي بن عيسى إنما سمي القريب حميماً لأنه يحمى لغضب صاحبه ، فجعله مأخوذاً من الحمية . { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } هذا منهم على طريق التمني الدالّ على كمال التحسر كأنهم قالوا فليت لنا كرّة أي رجعة إلى الدنيا ، وجواب التمني { فنكون من المؤمنين } أي نصير من جملتهم ، والإشارة بقوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } إلى ما تقدّم ذكره من نبأ إبراهيم ، والآية العبرة والعلامة ، والتنوين يدل على التعظيم والتفخيم { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ إبراهيم ، وهم قريش ومن دان بدينهم . وقيل وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين ، وهو ضعيف لأنهم كلهم غير مؤمنين { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } أي هو القاهر لأعدائه الرحيم بأوليائه ، أو الرحيم للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم . وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّـٰلِحِينَ } يعني بأهل الجنة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { وَٱجْعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } قال اجتماع أهل الملل على إبراهيم . وأخرج عنه أيضاً { وَٱغْفِرْ لأَبِى } قال امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك . وأخرج البخاري ، وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني ، فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم ربّ إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فأيّ خزي أخزى من أبي ؟ الأبعد فيقول الله إني حرّمت الجنة على الكافرين ، ثم يقول يا إبراهيم ما تحت رجليك ؟ فإذا هو بذيخ متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " ، والذيخ هو الذكر من الضباع ، فكأنه حوّل آزر إلى صورة ذيخ . وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال شهادة أن لا إلٰه إلاّ الله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا } قال جمعوا فيها { هُمْ وَٱلْغَاوُونَ } قال مشركو العرب والآلهة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } قال رجعة إلى الدنيا { فَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } حتى تحلّ لنا الشفاعة كما حلت لهؤلاء .