Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 14-24)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } قد تقدّم الكلام في بلوغ الأشدّ في الأنعام ، وقد قال ربيعة ومالك هو الحلم لقوله تعالى { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً } النساء 6 الآية ، وأقصاه أربع وثلاثون سنة كما قال مجاهد وسفيان الثوري وغيرهما . وقيل الأشدّ ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين ، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين ، وقيل الاستواء هو بلوغ الأربعين ، وقيل الاستواء إشارة إلى كمال الخلقة ، وقيل هو بمعنى واحد ، وهو ضعيف لأن العطف يشعر بالمغايرة { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } الحكم الحكمة على العموم ، وقيل النبوّة . وقيل الفقه في الدين . والعلم الفهم ، قاله السديّ . وقال مجاهد الفقه . وقال ابن إسحاق العلم بدينه ودين آبائه ، وقيل كان هذا قبل النبوّة ، وقد تقدّم بيان معنى ذلك في البقرة { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أي مثل ذلك الجزاء الذي جزينا أمّ موسى لما استسلمت لأمر الله وألقت ولدها في البحر ، وصدّقت بوعد الله نجزي المحسنين على إحسانهم ، والمراد العموم . { وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ } أي ودخل موسى مدينة مصر الكبرى . وقيل مدينة غيرها من مدائن مصر ، ومحل قوله { عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا } النصب على الحال إما من الفاعل ، أي مستخفياً ، وإما من المفعول . قيل لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في دينه عاب ما عليه قوم فرعون ، وفشا ذلك منه ، فأخافوه ، فخافهم ، فكان لا يدخل المدينة إلاّ مستخفياً . قيل كان دخوله بين العشاء والعتمة ، وقيل وقت القائلة . قال الضحاك طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخل على حين علم منهم ، فكان منه ما حكى الله سبحانه بقوله { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ } أي ممن شايعه على دينه ، وهم بنو إسرائيل { وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوّهِ } أي من المعادين له على دينه ، وهم قوم فرعون { فَٱسْتَغَـٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ } أي طلب منه أن ينصره ، ويعينه على خصمه { عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوّهِ } فأغاثه لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل . قيل أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطباً لمطبخ فرعون ، فأبى عليه ، واستغاث بموسى { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ } الوكز الضرب بجمع الكف ، وهكذا اللكز واللهز . وقيل اللكز على اللحى ، والوكز على القلب . وقيل ضربه بعصاه . وقرأ ابن مسعود " فلكزه " ، وحكى الثعلبي أن في مصحف عثمان " فنكزه " بالنون ، قال الأصمعي " نكزه " بالنون ضربه ، ودفعه . قال الجوهري اللكز الضرب على الصدر . وقال أبو زيد في جميع الجسد يعني أنه يقال له لكز ، واللهز الضرب بجميع اليدين في الصدر ، ومثله عن أبي عبيدة { فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } أي قتله ، وكل شيء أتيت عليه ، وفرغت منه فقد قضيت عليه ، ومنه قول الشاعر @ قد عضه فقضى عليه الأشجع @@ قيل لم يقصد موسى قتل القبطي ، وإنما قصد دفعه ، فأتى ذلك على نفسه ، ولهذا قال { هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل لأنه لم يكن إذ ذاك مأموراً بقتل الكفار . وقيل إن تلك الحالة حالة كفّ عن القتال لكونه مأموناً عندهم ، فلم يكن له أن يغتالهم . ثم وصف الشيطان بقوله { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } أي عدوّ للإنسان يسعى في إضلاله ، ظاهر العداوة والإضلال . وقيل إن الإشارة بقوله { هَـٰذَا } إلى عمل المقتول لكونه كافراً مخالفاً لما يريده الله . وقيل إنه إشارة إلى المقتول نفسه يعني أنه من جند الشيطان وحزبه . ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه { قَالَ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ } الله { لَهُ } ذلك { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } ووجه استغفاره أنه لم يكن لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر ، وقيل إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين ، أو أراد إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به ، ومعنى { فَٱغْفِرْ لِي } فاستر ذلك عليّ لا تطلع عليه فرعون ، وهذا خلاف الظاهر فإن موسى عليه السلام ما زال نادماً على ذلك خائفاً من العقوبة بسببه ، حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها ، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح . وقد قيل إن هذا كان قبل النبوّة . وقيل كان ذلك قبل بلوغه سنّ التكليف ، وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة ، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء ، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر ، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة ، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل . ثم لما أجاب الله سؤاله ، وغفر له ما طلب منه مغفرته ، قال { رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } هذه الباء يجوز أن تكون باء القسم والجواب مقدر أي أقسم بإنعامك عليّ لأتوبنّ ، وتكون جملة { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ } كالتفسير للجواب وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً . ويجوز أن تكون هذه الباء هي باء السببية متعلقة بمحذوف ، أي اعصمني بسبب ما أنعمت به عليّ ، ويكون قوله { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً } مترتباً عليه ، ويكون في ذلك استعطاف لله تعالى ، وتوصل إلى إنعامه بإنعامه ، و « ما » في قوله { بِمَا أَنْعَمْتَ } إما موصولة ، أو مصدرية ، والمراد بما أنعم به عليه هو ما آتاه من الحكم والعلم أو بالمغفرة أو بالجميع ، وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في ظاهر الأمر ، أو مظاهرته على ما فيه إثم . قال الكسائي ، والفراء ليس قوله { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ } خبراً بل هو دعاء ، أي فلا تجعلني يا ربّ ظهيراً لهم . قال الكسائي ، وفي قراءة عبد الله " فلا تجعلني يا ربّ ظهيراً للمجرمين " وقال الفراء المعنى اللهم فلن أكون ظهيراً للمجرمين . وقال النحاس إن جعله من باب الخبر أوفى وأشبه بنسق الكلام . { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } أي دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي ، و { خائفاً } خبر { أصبح } ويجوز أن يكون حالاً ، والخبر { في المدينة } ، و { يترقب } يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً ثانية ، وأن يكون بدلاً من { خائفاً } ، ومفعول { يترقب } محذوف ، والمعنى يترقب المكروه أو يترقب الفرح { فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } إذا هي الفجائية ، والموصول مبتدأ ، وخبره { يستصرخه } أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يقاتل قبطياً آخر ، أراد أن يسخره ويظلمه كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس ، والاستصراخ الاستغاثة ، وهو من الصراخ ، وذلك أن المستغيث يصوّت ، ويصرخ في طلب الغوث ، ومنه قول الشاعر @ كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الجواب له قرع الظنابيب @@ { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } أي بين الغواية ، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته ، ولا تطيقه . وقيل إنما قال له هذه المقالة لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل يريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر . { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } أي يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ لموسى ، وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما ، وقد تقدّم معنى يبطش ، واختلاف القراء فيه . { قَالَ يَـامُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ } القائل هو الإسرائيلي لما سمع موسى يقول له { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } ورآه يريد أن يبطش بالقبطي ظن أنه يريد أن يبطش به ، فقال لموسى { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ } فلما سمع القبطي ذلك أفشاه ، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي ، هكذا قال جمهور المفسرين . وقيل إن القائل { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ } هو القبطي ، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي ، وهذا هو الظاهر ، وقد سبق ذكر القبطي قبل هذا بلا فصل لأنه هو المراد بقوله عَدُوٌّ لَّهُمَا ، ولا موجب لمخالفة الظاهر حتى يلزم عنه أن المؤمن بموسى المستغيث به المرّة الأولى ، والمرّة الأخرى هو الذي أفشى عليه ، وأيضاً إن قوله { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } لا يليق صدور مثله إلاّ من كافر ، و " إن " في قوله { إِن تُرِيدُ } هي النافية ، أي ما تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض ، قال الزجاج الجبار في اللغة الذي لا يتواضع لأمر الله ، والقاتل بغير حق جبار . وقيل الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب ، والقتل ، ولا ينظر في العواقب ، ولا يدفع بالتي هي أحسن { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } أي الذين يصلحون بين الناس . { وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ } قيل المراد بهذا الرجل حزقيل ، وهو مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم موسى ، وقيل اسمه شمعون ، وقيل طالوت ، وقيل شمعان . والمراد بأقصى المدينة آخرها وأبعدها ، و { يسعى } يجوز أن يكون في محل رفع صفة لرجل ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال ، لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ ، { قَالَ يَـامُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } أي يتشاورون في قتلك ، ويتآمرون بسببك . قال الزجاج يأمر بعضهم بعضاً بقتلك ، وقال أبو عبيد يتشاورون فيك ليقتلوك يعني أشراف قوم فرعون . قال الأزهري ائتمر القوم وتآمروا ، أي أمر بعضهم بعضاً ، نظيره قوله { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } الطلاق 6 قال النمر بن تولب @ أرى الناس قد أحدثوا شيمة وفي كـل حادثة يؤتمر @@ { فَٱخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ } في الأمر بالخروج ، واللام للبيان لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } فخرج موسى من المدينة حال كونه خائفاً من الظالمين مترقباً لحوقهم به ، وإدراكهم له ، ثم دعا ربه بأن ينجيه مما خافه قائلاً { رَبّ نَجّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي خلصني من القوم الكافرين ، وادفعهم عني ، وحلّ بيني وبينهم { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ } أي نحو مدين قاصداً لها . قال الزجاج أي سلك في الطريق الذي تلقاء مدين فيها . انتهى . يقال داره تلقاء دار فلان ، وأصله من اللقاء ، ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون ، ولهذا خرج إليها { قَالَ عَسَىٰ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } أي يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين . { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } أي وصل إليه ، وهو الماء الذي يستقون منه { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ } أي وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم ، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد ، وقد يطلق على البلوغ إليه ، وإن لم يدخل فيه ، وهو المراد هنا ، ومنه قول زهير @ فلما وردنا الماء زرقا حمامه @@ وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } مريم 71 وقيل مدين اسم للقبيلة لا للقرية ، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين . { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أي من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها ، وقيل معناه في موضع أسفل منهم { ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } أي تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس ، ويخلو بينهما وبين الماء ، ومعنى الذود الدفع ، والحبس ، ومنه قول الشاعر @ أبيت على باب القوافي كأنما أذود بها سرباً من الوحش نزّعا @@ أي أحبس ، وأمنع ، وورد الذود بمعنى الطرد ، ومنه قول الشاعر @ لقد سلبت عصاك بنو تميم فما تدري بأي عصى تذود @@ أي تطرد { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي قال موسى للمرأتين ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس ؟ والخطب الشأن ، قيل وإنما يقال ما خطبك لمصاب ، أو مضطهد ، أو لمن يأتي بمنكر { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرّعَاء } أي إن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء ، وينصرفوا منه حذراً من مخالطتهم ، أو عجزاً عن السقي معهم . قرأ الجمهور { يصدر } بضم الياء ، وكسر الدال مضارع أصدر المتعدّى بالهمزة . وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صدر يصدر لازماً ، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف ، أي يرجعون مواشيهم ، والرعاء جمع راع . قرأ الجمهور { الرعاء } بكسر الراء . وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها . قال أبو الفضل هو مصدر أقيم مقام الصفة ، فلذلك استوى فيه الواحد ، والجمع . وقرىء " الرعاء " بالضم اسم جمع . وقرأ طلحة بن مصرف " نسقى " بضم النون من أسقى { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } عالي السن ، وهذا من تمام كلامهما ، أي لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر ، فلذلك احتجنا ، ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك فلما سمع موسى كلامهما { سقى لهما } رحمة لهما ، أي سقى أغنامهما لأجلهما ، " ثم " لما فرغ من السقي لهما { تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظّلّ } أي انصرف إليه ، فجلس فيه . قيل كان هذا الظل ظل سمرة هنالك . ثم قال لما أصابه من الجهد ، والتعب منادياً لربه { إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ } أيّ خير كان { فَقِيرٌ } أي محتاج إلى ذلك . قيل أراد بذلك الطعام ، واللام في { لِمَا أَنزَلْتَ } معناها إلى . قال الأخفش يقال هو فقير له ، وإليه . وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } قال ثلاثاً وثلاثين سنة { وَٱسْتَوَىٰ } قال أربعين سنة . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين ، والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله { وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا } قال نصف النهار . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عنه أيضاً في الآية قال ما بين المغرب والعشاء . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ } قال إسرائيلي { وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوّهِ } قال قبطي { فَٱسْتَغَـٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ } الإسرائيلي { عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوّهِ } القبطي { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } قال فمات ، قال فكبر ذلك على موسى . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } قال هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال الذي استنصره هو الذي استصرخه . وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال من قتل رجلين فهو جبار ، ثم تلا هذه الآية { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } ، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال لا يكون الرجل جباراً حتى يقتل نفسين . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال خرج موسى خائفاً يترقب جائعاً ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين ، و { عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ } ، وامرأتان جالستان بشياههما ، فسألهما { مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } قال فهل قربكما ماء ؟ قالتا لا ، إلاّ بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر ، قال فانطلقا ، فأريانيها ، فانطلقتا معه ، فقال بالصخرة بيده ، فنحاها ، ثم استقى لهم سجلاً واحداً فسقى الغنم ، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ، فسمعتا ، قال فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما ، فسألهما فأخبرتاه ، فقال لإحداهما انطلقي فادعيه ، فأتت ، فقالت { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } فمشت بين يديه ، فقال لها امشي خلفي ، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي أن أرى منك ما حرّم الله عليّ ، وأرشديني الطريق { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَـئجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَـجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } قال لها أبوها ما رأيت من قوّته وأمانته ؟ فأخبرته بالأمر الذي كان ، قالت أما قوّته فإنه قلب الحجر وحده ، وكان لا يقلبه إلاّ النفر . وأما أمانته فقال امشي خلفي وأرشديني الطريق لأني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي منك ما حرّمه الله . قيل لابن عباس أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال أبرّهما وأوفاهما . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال إن موسى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلاّ عشرة رجال ، فإذا هو بامرأتين ، قال ما خطبكما ؟ فحدّثتاه ، فأتى الحجر ، فرفعه وحده ، ثم استقى فلم يستق إلاّ ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم ، فرجعت المرأتان إلى أبيهما ، فحدّثتاه ، وتولى موسى إلى الظلّ فقال { ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير } . قال { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ٱسْتِحْيَاء } واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء خرّاجة ولاجة { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } فقام معها موسى ، فقال لها إمشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ، فلما انتهى إلى أبيها قصّ عليه ، فقالت إحداهما { يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويّ الأمين } قال يا بنية ما علمك بأمانته وقوّته ؟ قالت أما قوّته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلاّ عشرة رجال ، وأما أمانته فقال امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك ، فتصف لي جسدك ، فزاده ذلك رغبة فيه ، فقال { إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } إلى قوله { سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّـٰلِحِينَ } أي في حسن الصحبة ، والوفاء بما قلت { قَالَ } موسى { ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } قال نعم ، قال { وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } فزوَّجه ، وأقام معه يكفيه ويعمل في رعاية غنمه ، وما يحتاج إليه ، وزوجه صفوراً وأختها شرفاً ، وهما اللتان كانتا تذودان . قال ابن كثير بعد إخراجه لطرق من هذا الحديث إن إسناده صحيح . والسلفع من النساء الجريئة السليطة . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } قال ورد الماء حيث ورد ، وإنه لتتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثماني ليالٍ ، ولم يكن له طعام إلاّ ورق الشجر ، وخرج حافياً ، فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً قال { تَذُودَانِ } تحبسان غنمهما حتى ينزع الناس ، ويخلو لهما البئر . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه أيضاً قال لقد قال موسى { ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير } وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة ، ولقد لصق بطنه بظهره من شدّة الجوع . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال ما سأل إلاّ الطعام . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال سأل فلقاً من الخبز يشدّ بها صلبه من الجوع .