Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 149-153)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدّم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار ، وهم مشركو العرب وقيل اليهود والنصارى . وقيل المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دين آبائكم . وقوله { يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ } أي يخرجوكم من دين الإسلام إلى الكفر { فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِينَ } أي ترجعوا مغبونين . وقوله { بَلِ ٱللَّهُ مَوْلَـٰكُمْ } إضراب عن مفهوم الجملة الأولى أي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم لا غيره وقريء « بل الله » بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله . قوله { سَنُلْقِى } قرأ السَّخْتِيَانّي بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالنون . وقرأ ابن عامر ، والكسائي " ٱلرُّعْبَ " بضم العين . وقرأ الباقون بالسكون ، وهما لغتان ، يقال رَعَبْتُه رُعباً ، ورُعُباً ، فهو مرعُوب ، ويجوز أن يكون مصدراً ، والرعب بالضم الاسم ، وأصله المَلء ، يقال سْيل راعب ، أي يملأ الوادي ، ورعبت الحوض ملأته ، فالمعنى سنملأ قلوب الكافرين رعباً ، أي خوفاً ، وفزعاً ، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام ، ومجازاً في غيرها ، كهذه الآية ، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين ، وقالوا بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا ، فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا ، عما هموا به { بِمَا أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ } متعلق بقوله { سَنُلْقِى } و " ما " مصدرية ، أي بسبب إشراكهم { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً } أي ما لم ينزل الله بجعله شريكاً له حجة ، وبياناً ، وبرهاناً ، والنفي يتوجه إلى القيد ، والمقيد ، أي لا حجة ، ولا إنزال ، والمعنى أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل . والمثوى المكان الذي يقام فيه ، يقال ثوى يثوي ثواءً . قوله { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } نزلت لما قال بعض المسلمين من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله النصر ، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء ، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين ، وتسعة نفر بعده فلما اشتغلوا بالغنيمة ، وترك الرماة مركزهم طلباً للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة . والحسّ الاستئصال بالقتل ، قاله أبو عبيد . يقال جراد محسوس إذا قتله البرد ، وسنة حسوس أي جدبة تأكل كل شيء . قيل وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة ، فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل ، وتحسونهم تقتلونهم ، وتستأصلونهم ، قال الشاعر @ حسسناهم بالسيف حسَّاً فأصْبَحت بِقيَّتهُم قد شُرِّدوا وتَبَدَّدوا @@ وقال جرير @ تَحُسَّهُم السّيوفُ كما تسامىَ حَرِيقُ النَّارِ في الأجِمِ الحَصِيدِ @@ { بِإِذْنِهِ } أي بعلمه ، أو بقضائه { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ } أي جبنتم وضعفتم ، قيل جواب حتى محذوف تقديره امتحنتم ، وقال الفراء جواب حتى قوله { وَتَنَـٰزَعْتُمْ } والواو مقحمة زائدة ، كقوله { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } الصافات 103 وقال أبو علي يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم ، وقيل فيه تقديم وتأخير ، أي حتى إذا تنازعتم ، وعصيتم فشلتم . وقيل إن الجواب عصيتم ، والواو مقحمة . وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى { حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ } التوبة 118 ، وقيل " حتى " بمعنى " إلى " ، وحينئذ لا جواب لها ، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم نلحق الغنائم ، وقال بعضهم نثبت في مكاننا ، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومعنى قوله { مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد ، كما تقدّم { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } يعني الغنيمة { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلأخِرَةَ } أي الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } لما علم من ندمكم ، فلم يستأصلكم بعد المعصية ، والمخالفة ، والخطاب لجميع المنهزمين ، وقيل للرماة فقط . قوله { إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بقوله { صَرَفَكُمْ } أو بقوله { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أو بقوله { لِيَبْتَلِيَكُمْ } وقرأه الجمهور بضمّ التاء ، وكسر العين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة بفتح التاء ، والعين . وقرأ ابن محيصن ، وقنبل « يصعدون » بالتحتية . قال أبو حاتم أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل ، فالإصعاد السير في مستوى الأرض ، وبطون الأودية ، والصعود الارتفاع على الجبال ، والسطوح ، والسلالم ، والدرج ، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي ، فيصح المعنى على القراءتين . وقال القتيبي أصعد إذا أبعد في الذهاب ، وأمعن فيه ، ومنه قول الشاعر @ ألا أيها ذا السَائِلي أيْنَ أصْعدت فِإنَ لَها من بَطِن يَثرِبَ مَوْعِدا @@ وقال الفراء الإصعاد الابتداء في السفر ، والانحدار الرجوع منه ، يقال أصعدنا من بغداد إلى مكة ، وإلى خراسان ، وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها ، وأخذنا في السفر ، وانحدرنا إذا رجعنا . وقال المفضل صعد ، وأصعد بمعنى واحد . ومعنى { تَلْوُونَ } تعرجون ، وتقيمون ، أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً ، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته { عَلَىٰ أَحَدٍ } أي على أحد ممن معكم ، وقيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ الحسن « تلون » بواو واحدة ، وقرأ عاصم في رواية عنه بضم التاء ، وهي لغة . قوله { وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ } أي في الطائفة المتأخرة منكم ، يقال جاء فلان في آخر الناس ، وآخرة الناس ، وأخرى الناس ، وأخريات الناس . وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " أي عباد الله ارجعوا " قوله { فَأَثَـٰبَكُمْ } عطف على صرفكم ، أي فجازاكم الله غماً حين صرفكم عنه بسبب غمّ أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم ، أو غماً موصولاً بغمّ بسبب ذلك الإرجاف ، والجرح ، والقتل ، وظفر المشركين ، والغمّ في الأصل التغطية ، غميت الشيء غطيته ، ويوم غمّ ، وليلة غمة إذا كانا مظلمين ، ومنه غمّ الهلال ، وقيل الغمّ الأول الهزيمة ، والثاني الإشراف من أبي سفيان ، وخالد بن الوليد عليهم في الجبل . قوله { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } اللام متعلقة بقوله { فَأَثَـٰبَكُمْ } أي هذا الغمّ بعد الغمّ لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ، ولا ما أصابكم من الهزيمة ، تمريناً لكم على المصائب ، وتدريباً لاحتمال الشدائد . وقال المفضل معنى { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } لكي تحزنوا ، و " لا " زائدة كقوله تعالى { مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ } الأعراف 12 أي أن تسجد ، وقوله { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ } الحديد 29 أي ليعلم . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال لا تنتصحوا اليهود ، والنصارى على دينكم ، ولا تصدقوهم بشيء في دينكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ يقول إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردّكم كفاراً . وأخرج ابن جرير ، عنه في قوله { سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } نحو ما قدّمناه في سبب نزول الآية . وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } قال كان الله وعدهم على الصبر ، والتقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتركوا مصافهم ، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم ، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة . وقصة أحد مستوفاة في السير ، والتواريخ ، فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } قال الحسّ القتل . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه . قال الفشل الجبن . وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في قوله { مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } قال الغنائم ، وهزيمة القوم . وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قال يقول الله قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم . وأخرج أيضاً عن ابن جرير نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس { إِذْ تُصْعِدُونَ } قال أصعدوا في أحُد فراراً ، والرسول يدعوهم في أخراهم " إليّ عباد الله ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا " وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف { فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاً بِغَمّ } قال الغمّ الأوّل بسبب الهزيمة ، والثاني حين قيل قتل محمد ، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله { غَمّاً بِغَمّ } قال فرّة بعد الفرّة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمداً قد قتل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم قال الغم الأوّل الجراح والقتل ، والغم الآخر حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع مثله .