Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 176-180)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَلاَ يَحْزُنكَ } قرأ نافع بضم الياء ، وكسر الزاي ، وقرأ ابن محيصن بضم الياء ، والزاي ، وقرأ الباقون بفتح الياء ، وضم الزاي ، وهما لغتان ، يقال حزنني الأمر ، وأحزنني ، والأولى أفصح . وقرأ طلحة { يُسَـٰرِعُونَ } قيل هم قوم ارتدّوا ، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ، فسلاه الله سبحانه ، ونهاه عن الحزن ، وعلل ذلك بأنهم لن يضروا الله شيئاً ، وإنما ضروا أنفسهم بأن لا حظ لهم في الآخرة ، ولهم عذاب عظيم ، وقيل هم كفار قريش ، وقيل هم المنافقون ، وقيل هو عام في جميع الكفار . قال القشيري ، والحزن على كفر الكافر طاعة ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن ، فنهى عن ذلك ، كما قال الله تعالى { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ } فاطر 8 { فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } الكهف 6 وعدى يسارعون بفي دون إلى للدلالة على أنهم مستقرون فيه مديمون لملابسته ، ومثله { يسارعون في الخيرات } المؤمنون 61 وقوله { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } تعليل للنهي ، والمعنى أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئاً ، وقيل المراد لن يضروا أولياءه ، ويحتمل أن يراد لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده ، وشيئاً منصوب على المصدرية أي شيئاً من الضرر ، وقيل منصوب بنزع الخافض أي بشيء . والحظ النصيب . قال أبو زيد يقال رجل حظيظ إذا كان ذا حظّ من الرزق ، والمعنى أن الله يريد أن لا يجعل لهم نصيباً في الجنة ، أو نصيباً من الثواب ، وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة ، واستمرارها { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } بسبب مسارعتهم في الكفر ، فكان ضرر كفرهم عائداً عليهم جالباً لهم عدم الحظ في الآخرة ، ومصيرهم في العذاب العظيم . قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإيمَـٰنِ } أي استبدلوا الكفر بالإيمان ، وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } معناه كالأول ، وهو للتأكيد لما تقدمه ، وقيل إن الأول خاص بالمنافقين ، والثاني يعم جميع الكفار ، والأول أولى . قوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ } قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وغيرهما { يَحْسَبَنَّ } بالياء التحتية ، وقرأ حمزة بالفوقية ، والمعنى على الأولى لا يحسبن الكافرون أنما نملي لهم بطول العمر ، ورغد العيش ، أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد { خَيْرٌ لأِنفُسِهِمْ } فليس الأمر كذلك بل { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين } . وعلى القراءة الثانية لا تحسبن يا محمد أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم ، بل هو شرّ واقع عليهم ، ونازل بهم ، وهو أن الإملاء الذي نمليه لهم ليزدادوا إثماً ، فالموصول على القراءة الأولى فاعل الفعل ، وأنما نملي ، وما بعده ساد مسد مفعولي الحسبان عند سيبويه ، أو سادّ مَسَدَّ أحدهما ، والآخر محذوف عند الأخفش . وأما على القراءة الثانية ، فقال الزجاج إن الموصول هو المفعول الأول ، وإنما ، وما بعدها بدل من الموصول سادّ مسدّ المفعولين ، ولا يصح أن يكون إنما ، وما بعده هو المفعول الثاني لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو الأوّل في المعنى . وقال أبو علي الفارسي لو صح هذا لكان خيراً بالنصب لأنه يصير بدلاً من الذين كفروا ، فكأنه قال لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيراً . وقال الكسائي ، والفراء إنه يقدر تكرير الفعل كأنه قال ولا تحسبنّ الذين كفروا ، ولا تحسبن إنما نملي لهم ، فسدت مسدّ المفعولين . وقال في الكشاف فإن قلت كيف صح مجيء البدل ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد ؟ قلت صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل ، والمبدل منه في حكم المنحي ، ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك . انتهى . وقرأ يحيـى بن وثاب { أَنَّمَا نُمْلِى } بكسر إن فيهما ، وهي قراءة ضعيفة باعتبار العربية . وقوله { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } جملة مستأنفة مبينة لوجه الاملاء للكافرين . وقد احتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما تقوله المعتزلة لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار الكفار ، ويجعل عيشهم رغداً ليزدادوا إثماً . قال أبو حاتم وسمعت الأخفش يذكر كسر { أَنَّمَا نُمْلِى } الأولى ، وفتح الثانية ، ويحتج بذلك لأهل القدر لأنه منهم ، ويجعله على هذا التقدير ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً إنما نملي لهم خير لأنفسهم . وقال في الكشاف إن ازدياد الإثم علة ، وما كل علة بعرض ألا تراك تقول قعدت عن الغزو للعجز ، والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء يعرض لك ، وإنما هي علل ، وأسباب . قوله { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } كلام مستأنف ، والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار ، والمنافقين ، أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر ، والنفاق { حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ } وقيل الخطاب للمؤمنين ، والمنافقين ، أي ما كان الله ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض وقيل الخطاب للمشركين . والمراد بالمؤمنين من في الأصلاب ، والأرحام ، أي ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم ، وبينهم ، وقيل الخطاب للمؤمنين ، أي ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم ، وعلى هذا الوجه ، والوجه الثاني يكون في الكلام التفات . وقرىء { يَمِيزَ } بالتشديد للمخفف ، من ماز الشيء يميزه ميزاً إذا فرق بين شيئين ، فإن كانت أشياء قيل ميزه تمييزاً { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } حتى تميزوا بين الطيب ، والخبيث ، فإنه المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول من رسله يجتبيه ، فيطلعه على شيء من غيبه ، فيميز بينكم ، كما وقع من نبينا صلى الله عليه وسلم من تعيين كثير من المنافقين ، فإن ذلك كان بتعليم الله له ، لا بكونه يعلم الغيب وقيل المعنى وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة ، حتى يكون الوحي باختياركم { وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى } أي يختار { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } . قوله { فآمنوا بالله ورسوله } أي افعلوا الإيمان المطلوب منكم ، ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه { وَإِن تُؤْمِنُواْ } بما ذكر { وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ } عوضاً عن ذلك { أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا يعرف قدره ، ولا يبلغ كنهه . قوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } الموصول في محل رفع على أنه فاعل الفعل على قراءة من قرأ بالياء التحتية ، والمفعول الأول محذوف ، أي لا يحسبنّ الباخلون البخل خيراً لهم . قاله الخليل ، وسيبويه ، والفراء ، قالوا وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه ، ومن ذلك قول الشاعر @ إذا نُهِى السَفِيه جَرَى إليه وخالَفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ @@ أي جرى إلى السفه ، فالسّفيه دلّ على السَّفه . وأما على قراءة من قرأ بالفوقية ، فالفعل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمفعول الأول محذوف ، أي لا تحسبنّ يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم . قال الزجاج هو مثل { وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } يوسف 82 والضمير المذكور هو ضمير الفصل . قال المبرد والسين في قوله { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } سين الوعيد ، وهذه الجملة مبينة قوله { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } قيل ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقاً من نار في أعناقهم . وقيل معناه أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به ، فهو من الطاقة ، وليس من التطويق ، وقيل المعنى أنهم يلزمون أعمالهم ، كما يلزم الطوق العنق ، يقال طوق فلان عمله طوق الحمامة أي ألزم جزاء عمله ، وقيل إن ما لم تؤدّ زكاته من المال يمثل له شجاعاً أقرع حتى يطوّق به في عنقه ، كما ورد ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال القرطبي والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب ، فأما من منع ما لا يجب عليه ، فليس ببخيل . قوله { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضِ } أي له وحده لا لغيره ، كما يفيده التقديم . والمعنى أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها ، فما بالهم يبخلون بذلك ، ولا ينفقونه ، وهو لله سبحانه لا لهم ، وإنما كان عندهم عارية مستردة ! ومثل هذه الآية قوله تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } مريم 40 وقوله { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } الحديد 7 والميراث في الأصل هو ما يخرج من مالك إلى آخر ، ولم يكن مملوكاً لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث ، ومعلوم أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإيمَـٰنِ } قال هم المنافقون ، وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، عن ابن مسعود قال ما من نفس برّة ، ولا فاجرة إلا ، والموت خير لها من الحياة إن كان براً ، فقد قال الله { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لّلأبْرَارِ } آل عمران 198 وإن كان فاجراً ، فقد قال { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي الدرداء نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن محمد بن كعب ، نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، عن أبي برزة أيضاً نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي قال قالوا إن كان محمد صادقاً ، فليخبرنا بمن يؤمن به منا ، ومن يكفر ، فأنزل الله { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال يميز بينهم في الجهاد ، والهجرة ، وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } قال ولا يطلع على الغيب إلا رسول . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد { وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى } قال يختص . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مالك قال يستخلص . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } قال هم أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد قال هم يهود . وأخرج ابن جرير ، عن السدي قال بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله لم يؤدوا زكاتها . وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من آتاه الله مالاً ، فلم يؤد زكاته ، مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، فيأخذ بلهزمته - يعني بشدقه - فيقول أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية " وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها .