Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 52-58)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { فَلَمَّا أَحَسَّ } أي علم ووجد قاله الزجاج . وقال أبو عبيدة معنى أحسّ عرف . وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة ، والإحساس العلم بالشيء . قال الله تعالى { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ } مريم 98 . والمراد بالإحساس هنا الإدراك القويّ الجاري مجرى المشاهدة . وبالكفر إصرارهم عليه ، وقيل سمع منهم كلمة الكفر . وقال الفراء أرادوا قتله . وعلى هذا ، فمعنى الآية فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر قال من أنصاري إلى الله . الأنصار جمع نصير . وقوله { إِلَى ٱللَّهِ } متعلق بمحذوف وقع حالاً ، أي متوجهاً إلى الله ، أو ملتجئاً إليه ، أو ذاهباً إليه ، وقيل إلى بمعنى مع كقوله تعالى { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ } النساء 2 وقيل المعنى من أنصاري في السبيل إلى الله ، وقيل المعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله . والحواريون جمع حواري ، وحواريّ الرجل صفوته ، وخلاصته ، وهو مأخوذ من الحور ، وهو البياض عند أهل اللغة ، حوّرت الثياب بيضتها ، والحواري من الطعام ما حوّر أي بيض ، والحواري أيضاً الناصر ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " لكل نبيّ حواريّ ، وحواريي الزبير " وهو في البخاري ، وغيره . وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك ، فقيل لبياض ثيابهم . وقيل لخلوص نياتهم . وقيل لأنهم خاصة الأنبياء ، وكانوا اثني عشر رجلاً ، ومعنى أنصار الله أنصار دينه ورسله . وقوله { آمنا بالله } استئناف جار مجرى العلة لما قبله ، فإن الإيمان يبعث على النصرة . قوله { وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي اشهد لنا يوم القيامة بأنا مخلصون لإيماننا منقادون لما تريد منا . ومعنى { بِمَا أَنزَلْتُ } ما أنزله الله سبحانه في كتبه . والرسول عيسى ، وحذف المتعلق مشعر بالتعميم ، أي اتبعناه في كل ما يأتي به ، فاكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية ، ولرسولك بالرسالة . أو اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم . وقيل مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قوله { وَمَكَرُواْ } أي الذي أحسّ عيسى منهم الكفر ، وهم كفار بني إسرائيل . ومكر الله استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون . قاله الفراء ، وغيره . وقال الزجاج مكر الله مجازاتهم على مكرهم ، فسمى الجزاء باسم الابتداء ، كقوله تعالى { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } البقرة 15 { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } النساء 142 وأصل المكر في اللغة الاغتيال ، والخدع حكاه ابن فارس ، وعلى هذا ، فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة . وقيل مكر الله هنا إلقاء شبه عيسى على غيره ، ورفع عيسى إليه { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } أي أقواهم مكراً ، وأنفذهم كيداً ، وأقواهم على إيصال الضرر بمن يريد إيصاله به من حيث لا يحتسب . قوله { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى } العامل في إذ مكروا ، أو قوله { خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } أو فعل مضمر تقديره وقع ذلك . وقال الفراء إن في الكلام تقديماً ، وتأخيراً تقديره إني رافعك ، ومطهرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد إنزالك من السماء . وقال أبو زيد متوفيك قابضك . وقال في الكشاف مستوفي أجلك ، ومعناه إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم . وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر ، لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة ، كما رجحه كثير من المفسرين ، واختاره ابن جرير الطبري ، ووجه ذلك أنه قد صحّ في الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزوله ، وقتله الدجال ، وقيل إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ، ثم رفعه إلى السماء ، وفيه ضعف ، وقيل المراد بالوفاة هنا النوم ومثله { وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ } الأنعام 60 أي ينيمكم ، وبه قال كثيرون . قوله { وَمُطَهّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي من حيث جوازهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم . قوله { وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي الذين اتبعوا ما جئت به ، وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلوّ فيه إلى ما بلغ من جعله إلهاً ، ومنهم المسلمون ، فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلوّ ، فلم يفرّطوا في وصفه ، كما فرطت اليهود ، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى . وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم . وقيل المراد بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم ، فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة وقيل هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين ، وقيل هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح ، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار ، أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين ، كما تفيده الآيات الكثيرة ، بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل ، قاهرة لها مستعلية عليها . وقد أفردت هذه الآية بمؤلف سميته " وبل الغمامة في تفسير { وَجَاعُِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } " فمن رام استيفاء ما في المقام ، فليرجع إلى ذلك . والفوقية هنا هي أعم من أن تكون بالسيف ، أو بالحجة . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية ، ويكون المسلمون أنصاره ، وأتباعه إذ ذاك ، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة . قوله { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي رجوعكم ، وتقديم الظرف للقصر { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } يومئذ { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من أمور الدين . قوله { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } إلى قوله { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } تفسير للحكم . قوله { فِى ٱلدُّنُيَا وَٱلاْخِرَةِ } متعلق بقوله فأعذبهم ، أما تعذيبهم في الدنيا ، فبالقتل والسبي ، والجزية ، والصغار ، وأما في الآخرة ، فبعذاب النار . قوله { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي يعطيهم إياها كاملة موفرة ، قريء بالتحتية وبالنون . وقوله { لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } كناية عن بغضهم ، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها . قوله { ذٰلِكَ } إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى ، وغيره وهو مبتدأ خبره ما بعده ، و { مِنَ ٱلأيَـٰتِ } حال ، أو خبر بعد خبر . والحكيم المشتمل على الحكم ، أو المحكم الذي لا خلل فيه . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ } قال كفروا وأرادوا قتله ، فذلك حين استنصر قومه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال إنما سمُّوا الحواريين لبياض ثيابهم كانوا صيادين . وأخرج عبد بن حميد ، عن الضحاك قال الحواريون قصارون مرّ بهم عيسى فآمنوا به . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال الحواريون هم الذين تصلح لهم الخلافة . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال هم أصفياء الأنبياء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال الحواري الوزير . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سفيان بن عيينة قال الحواري الناصر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } قال مع محمد ، وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر من طريق الكلبي ، عن أبي صالح عنه قال { مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، عن السدي قال إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت ، فقال عيسى لأصحابه من يأخذ صورتي ، فيقتل ، وله الجنة ، فأخذها رجل منهم ، وصعد بعيسى إلى السماء ، فذلك قوله { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { إِنّي مُتَوَفّيكَ } يقول مميتك . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن قال متوفيك من الأرض . وأخرج الآخران عنه قال وفاة المنام . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة قال هذا من المقدّم ، والمؤخر أي رافعك إليّ ، ومتوفيك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مطر الوراق قال متوفيك من الدنيا ، وليس بوفاة موت . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن وهب قال توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه ، وأخرج ابن عساكر ، عنه قال أماته ثلاثة أيام ثم بعثه ، ورفعه . وأخرج الحاكم ، عنه قال توفى الله عيسى سبع ساعات . وأخرج ابن سعد ، وأحمد في الزهد ، والحاكم ، عن سعيد بن المسيب قال رفع عيسى ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . وأخرج ابن عساكر ، عن وهب مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله تعالى { وَمُطَهّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال طهره من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، ومن كفار قومه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله { وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته ، وملته ، وسنته . وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عساكر ، عن النعمان بن بشير سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله " قال النعمان من قال إني أقول على رسول الله ما لم يقل ، فإن تصديق ذلك في كتاب الله ، قال الله { وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ } الآية . وأخرج ابن عساكر ، عن معاوية مرفوعاً نحوه ، ثم قرأ معاوية الآية . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد قال النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة ، وليس بلد فيه أحد من النصارى ، إلا وهم فوق اليهود في شرق ، ولا غرب ، هم البلدان كلها مستذلون .