Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 38-46)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما بيّن سبحانه كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من مواساة القرابة ، وأهل الحاجات ممن بسط الله له في رزقه ، فقال { فَـئَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته ، أو لكل مكلف له مال وسع الله به عليه ، وقدم الإحسان إلى القرابة لأن خير الصدقة ما كان على قريب ، فهو صدقة مضاعفة وصلة رحم مرغب فيها ، والمراد الإحسان إليهم بالصدقة والصلة والبر { وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } أي وآت المسكين وابن السبيل حقهما الذي يستحقانه . ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان ، ولكون ذلك واجباً لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول . وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ قيل هي منسوخة بآية المواريث . وقيل محكمة وللقريب في مال قريبه الغنيّ حقّ واحب ، وبه قال مجاهد وقتادة . قال مجاهد لا تقبل صدقة من أحد ، ورحمه محتاج . قال مقاتل حق المسكين أن يتصدّق عليه ، وحق ابن السبيل الضيافة . وقيل المراد بالقربى قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم . قال القرطبي والأوّل أصح ، فإن حقهم مبين في كتاب الله عزّ وجلّ في قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ } الأنفال 41 وقال الحسن إن الأمر في إيتاء ذي القربى للندب { ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ } أي ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرّب إلى الله سبحانه { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالاً لأمره . { وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً } قرأ الجمهور { آتيتم } بالمدّ بمعنى أعطيتم ، وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير بالقصر بمعنى ما فعلتم ، وأجمعوا على القراءة بالمدّ في قوله { وما آتيتم من زكاة } وأصل الربى الزيادة ، وقراءة القصر تؤول إلى قراءة المدّ لأن معناها ما فعلتم على وجه الإعطاء ، كما تقول أتيت خطأ وأتيت صواباً والمعنى في الآية ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض { لّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ } أي ليزيد ويزكو في أموالهم { فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ } أي لا يبارك الله فيه . قال السديّ الربا في هذا الموضع الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة لأن ذلك لا يربو عند الله ، لا يؤجر عليه صاحبه ، ولا إثم عليه ، وهكذا قال قتادة والضحاك . قال الواحدي وهذا قول جماعة المفسرين . قال الزجاج يعني دفع الإنسان الشيء ليعوّض أكثر منه وذلك ليس بحرام ، ولكنه لا ثواب فيه لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه . وقال الشعبي معنى الآية أن ما خدم به الإنسان أحداً ، لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله . وقيل هذا كان حراماً على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص لقوله سبحانه { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } المدثر 6 ومعناها أن تعطي فتأخذ أكثر منه عوضاً عنه . وقيل إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب . قال ابن عطية وما يجري مجراه مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه . قال عكرمة الربا ربوان فربا حلال ، وربا حرام . فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه يعني كما في هذه الآية . وقيل إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرّم ، فمعنى لا يربو عند الله على القول لا يحكم به ، بل هو للمأخوذ منه . قال المهلب اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب ، فقال مالك ينظر فيه ، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك ، مثل هبة الفقير للغنيّ ، وهبة الخادم للمخدوم ، وهبة الرجل لأميره ، وهو أحد قولي الشافعي . وقال أبو حنيفة لا يكون له ثواب إذا لم يشترط ، وهو قول الشافعي الآخر . قرأ الجمهور { ليربوا } بالتحتية على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا . وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية مضمومة خطاباً للجماعة بمعنى لتكونوا ذوي زيادات . وقرأ أبو مالك { لتربوها } ومعنى الآية أنه لا يزكو عند الله ، ولا يثيب عليه لأنه لا يقبل إلاّ ما أريد به وجهه خالصاً له { وَمَا آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ } أي وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة ، وإنما تقصدون بها ما عند الله { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ } المضعف دون الأضعاف من الحسنات الذين يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف . قال الفراء هو نحو قولهم مسمن ومعطش ومضعف إذا كانت له إبل سمان ، أو عطاش ، أو ضعيفة . وقرأ أبيّ " المضعفون " بفتح العين اسم مفعول . { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْء } عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين ، وأنه الخالق الرازق المميت المحيي ، ثم قال على جهة الاستفهام { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْء } ومعلوم أنهم يقولون ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك ، فتقوم عليهم الحجة ، ثم نزّه سبحانه نفسه ، فقال { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي نزّهوه تنزيهاً ، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك ، وقوله { من شركائكم } خبر مقدّم ومن للتبعيض ، والمبتدأ هو الموصول ، أعني من يفعل ، و { من ذلكم } متعلق بمحذوف لأنه حال من { شيء } المذكور بعده ، ومن في { من شيء } مزيدة للتوكيد ، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة ، ويجعلون لهم نصيباً من أموالهم . { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ } بيّن سبحانه أن الشرك والمعاصي سبب لظهور الفساد في العالم . واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور ، فقيل هو القحط وعدم النبات ، ونقصان الرزق ، وكثرة الخوف ونحو ذلك ، وقال مجاهد ، وعكرمة فساد البرّ قتل ابن آدم أخاه يعني قتل قابيل لهابيل ، وفي البحر الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً . وليت شعري أيّ دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب ، فإن الآية نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، والتعريف في الفساد يدلّ على الجنس ، فيعم كل فساد واقع في حيزي البرّ والبحر . وقال السديّ الفساد الشرك ، وهو أعظم الفساد . ويمكن أن يقال إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي ، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه . وقيل الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش . وقيل الفساد قطع السبل والظلم ، وقيل غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه . والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات ، وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم ، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار . والبرّ والبحر هما المعروفان المشهوران . وقيل البرّ الفيافي ، والبحر القرى التي على ماء قاله عكرمة ، والعرب تسمي الأمصار البحار . قال مجاهد البرّ ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر ما كان على شط نهر . والأوّل أولى . ويكون معنى البرّ مدن البرّ ، ومعنى البحر مدن البحر ، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها . والباء في { بما كسبت } للسببية ، " ما " إما موصولة أو مصدرية { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ } اللام متعلقة بظهر ، وهي لام العلة ، أي ليذيقهم عقاب بعض عملهم أو جزاء بعض عملهم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم فيه من المعاصي ويتوبون إلى الله . { قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ } لما بين سبحانه ظهور الفساد بما كسبت أيدي المشركين والعصاة بيّن لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأوّل ، وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم ، فإن منازلهم خاوية وأراضيهم مقفرة موحشة كعاد وثمود ونحوهم من طوائف الكفار . وجملة { كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ } مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها ، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ ٱلْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمته أسوته فيه ، كأن المعنى إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدّم فأقم وجهك يا محمد إلخ . قال الزجاج اجعل جهتك اتباع الدين القيم ، وهو الإسلام المستقيم { من قبل أن يأتي يوم } يعني يوم القيامة { ا مردّ له } لا يقدر أحد على ردّه ، والمردّ مصدر ردّ ، وقيل المعنى أوضح الحق ، وبالغ في الأعذار ، و { مِنَ ٱللَّهِ } يتعلق بـ { يأتي } أو بمحذوف يدل عليه المصدر ، أي لا يردّه من الله أحد . وقيل يجوز أن يكون المعنى لا يردّه الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه ، وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله ما لا يخفى { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أصله يتصدعون ، والتصدع التفرق ، يقال تصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه قول الشاعر @ وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا @@ والمراد بتفرقهم هاهنا أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة ، وأهل النار يصيرون إلى النار . { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي جزاء كفره ، وهو النار { وَمَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلأِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل الصالح ، والمهاد الفراش ، وقد مهدت الفراش مهداً إذا بسطته ووطأته ، فجعل الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة كبناء المنازل في الجنة وفرشها . وقيل المعنى فعلى أنفسهم يشفقون ، من قولهم في المشفق أمٌّ فرشت فأنامت ، وقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص . وقال مجاهد { فلأنفسهم يمهدون } في القبر ، واللام في { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } متعلقة بـ { يصدّعون } ، أو { يمهدون } ، أي يتفرّقون ليجزي الله المؤمنين بما يستحقونه { مِن فَضْلِهِ } أو يمهدون لأنفسهم بالأعمال الصالحة ليجزيهم . وقيل يتعلق بمحذوف . قال ابن عطية تقديره ذلك ليجزي ، وتكون الإشارة إلى ما تقدّم من قوله { من عمل } و { من كفر } . وجعل أبو حيان قسيم قوله { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } محذوفاً لدلالة قوله { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَـٰفِرِينَ } عليه لأنه كناية عن بغضه لهم الموجب لغضبه سبحانه ، وغضبه يستتبع عقوبته . { وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرّيَـٰحَ مُبَشّرٰتٍ } أي ومن دلالات بديع قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر لأنها تتقدّمه كما في قوله سبحانه { بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } النمل63 قرأ الجمهور { الرياح } وقرأ الأعمش " الريح " بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله { مبشرات } ، واللام في قوله { وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ } متعلقة بـ { يرسل } ، أي يرسل الرياح مبشرات ويرسلها ليذيقكم من رحمته ، يعني الغيث والخصب . وقيل هو متعلق بمحذوف ، أي وليذيقكم أرسلها . وقيل الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك ، فتتعلق اللام بـ { يرسل } { وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ } معطوف على { ليذيقكم من رحمته } أي يرسل الرياح لتجري الفلك في البحر عند هبوبها ، ولما أسند الجري إلى الفلك عقبه بقوله { بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي تبتغوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعم فتفردون الله بالعبادة ، وتستكثرون من الطاعة . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً } الآية قال الربا ربوان ربا لا بأس به وربا لا يصلح . فأما الربا الذي لا بأس به فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها ، وأضعافها . وأخرج البيهقي عنه قال هذا هو الربا الحلال ، أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقال { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } المدثر 6 . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً { وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ } قال هي الصدقة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } قال البر البرية التي ليس عندها نهر ، والبحر ما كان من المدائن والقرى على شط نهر . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } قال من الذنوب . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً { يَصَّدَّعُونَ } قال يتفرقون .