Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 20-28)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم وإقامة الحجج عليهم ، فقال { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } قال الزجاج معنى تسخيرها للآدميين الانتفاع بها انتهى ، فمن مخلوقات السمٰوات المسخرة لبني آدم ، أي التي ينتفعون بها الشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك . ومن جملة ذلك الملائكة فإنهم حفظة لبني آدم بأمر الله سبحانه ، ومن مخلوقات الأرض المسخرة لبني آدم الأحجار والتراب والزرع والشجر والثمر والحيوانات التي ينتفعون بها والعشب الذي يرعون فيه دوابهم ، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة ، فالمراد بالتسخير جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له ، سواء كان منقاداً له ، وداخلاً تحت تصرّفه أم لا { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً } أي أتمّ وأكمل عليكم نعمه ، يقال سبغت النعمة إذا تمت وكملت . قرأ الجمهور { أسبغ } بالسين ، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة " أصبغ " بالصاد مكان السين . والنعم جمع نعمة على قراءة نافع وأبي عمرو وحفص ، وقرأ الباقون " نعمة " بسكون العين على الإفراد والتنوين اسم جنس يراد به الجمع ويدلّ به على الكثرة ، كقوله { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } إبراهيم 34 وهي قراءة ابن عباس . والمراد بالنعم الظاهرة ما يدرك بالعقل أو الحسّ ويعرفه من يتعرفه ، وبالباطنة ما لا يدرك للناس ، ويخفى عليهم . وقيل الظاهرة الصحة وكمال الخلق ، والباطنة المعرفة ، والعقل . وقيل الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال ، وفعل الطاعات ، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفعه الله عن البعد من الآفات . وقيل الظاهرة نعم الدنيا ، والباطنة نعم الآخرة . وقيل الظاهرة الإسلام والجمال ، والباطنة ما ستره الله على العبد من الأعمال السيئة { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِي ٱللَّهِ } أي في شأن الله سبحانه في توحيده وصفاته مكابرة وعناداً بعد ظهور الحق له وقيام الحجة عليه ، ولهذا قال { بِغَيْرِ عِلْمٍ } من عقل ولا نقل { وَلاَ هُدًى } يهتدي به إلى طريق الصواب { وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ } أنزله الله سبحانه ، بل مجرّد تعنت ، ومحض عناد . وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي إذا قيل لهؤلاء المجادلين . والجمع باعتبار معنى من ، اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الكتاب تمسكوا بمجرد التقليد البحت . و { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءنَا } فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام ، ونمشي في الطريق التي كانوا يمشون بها في دينهم ، ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت { أَوْ لَّوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } أي يدعو آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم ، أي يتبعونهم في الشرك ، ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك ، ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع إلى عذاب السعير لأنه زين لهم اتباع آبائهم والتدين بدينهم ، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب ، فدعاؤه للمتبوعين بتزيينه لهم الشرك ، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم ، وجواب لو محذوف ، أي يدعوهم فيتبعونهم ، ومحل الجملة النصب على الحال . وما أقبح التقليد ، وأكثر ضرره على صاحبه ، وأوخم عاقبته ، وأشأم عائدته على من وقع فيه . فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق ، فتأبى ذلك ، وتتهافت في نار الحريق ، وعذاب السعير . { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ } أي يفوّض إليه أمره ، ويخلص له عبادته ويقبل عليه بكليته { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في أعماله لأن العبادة من غير إحسان لها ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها ، لا تقع بالموقع الذي تقع به عبادة المحسنين . وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " { فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } أي اعتصم بالعهد الأوثق وتعلق به ، وهو تمثيل لحال من أسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل ، فتمسك بأوثق عرى حبل متدلّ منه { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلأُمُورِ } أي مصيرها إليه لا إلى غيره . وقرأ عليّ بن أبي طالب والسلمي وعبد الله بن مسلم بن يسار " ومن يسلم " بالتشديد ، قال النحاس والتخفيف في هذا أعرف كما قال عزّ وجلّ { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ } آل عمران 20 { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ } أي لا تحزن لذلك ، فإن كفره لا يضرك ، بيّن سبحانه حال الكافرين بعد فراغه من بيان حال المؤمنين ، ثم توعدهم بقوله { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ } أي نخبرهم بقبائح أعمالهم ، ونجازيهم عليها { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي بما تسرّه صدورهم لا تخفى عليه من ذلك خافية . فالسرّ عنده كالعلانية . { نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً } أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها . فإن النعيم الزائل هو أقل قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم . وانتصاب { قليلاً } على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي تمتيعاً قليلاً { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي نلجئهم إلى عذاب النار . فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه وأصيب به ، فلهذا استعير له الغلظ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } أي يعترفون بالله خالق ذلك لوضوح الأمر فيه عندهم . وهذا اعتراف منهم بما يدل على التوحيد وبطلان الشرك ، ولهذا قال { قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } أي قل يا محمد الحمد لله على اعترافكم ، فكيف تعبدون غيره ، وتجعلونه شريكاً له ؟ أو المعنى فقل الحمد لله على ما هدانا له من دينه ، ولا حمد لغيره ، ثم أضرب عن ذلك فقال { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا ينظرون ولا يتدبرون حتى يعلموا أن خالق هذه الأشياء هو الذي تجب له العبادة دون غيره . { للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ملكاً ، وخلقاً فلا يستحق العبادة غيره { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ } عن غيره { ٱلْحَمِيدِ } أي المستحق للحمد أو المحمود من عباده بلسان المقال أو بلسان الحال . ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السماوات والأرض أتبعه بما يدلّ على أن له وراء ذلك ما لا يحيط به عدد ، ولا يحصر بحدّ فقال { وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلاْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } أي لو أن جميع ما في الأرض من الشجر أقلام . ووحد الشجرة لما تقرّر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل ، فكأنه قال كل شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلاماً ، وجمع الأقلام لقصد التكثير ، أي لو أن يعدّ كل شجرة من الشجر أقلاماً . قال أبو حيان وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة كقوله { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ } البقرة 106 ، ثم قال سبحانه { وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } أي يمدّه من بعد نفاده سبعة أبحر . قرأ الجمهور { والبحر } بالرفع على أنه مبتدأ ، و { يمدّه } خبره ، والجملة في محل الحال ، أي والحال أن البحر المحيط مع سعته يمدّه السبعة الأبحر مدّاً لا ينقطع ، كذا قال سيبويه . وقال المبرد إن البحر مرتفع بفعل مقدّر تقديره ولو ثبت البحر حال كونه تمدّه من بعده سبعة أبحر . وقيل هو مرتفع بالعطف على أن وما في حيزها . وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق " والبحر " بالنصب عطفاً على اسم أن ، أو بفعل مضمر يفسره { يمدّه } . وقرأ ابن هرمز والحسن « يمدّه » بضم حرف المضارعة ، وكسر الميم ، من أمدّ . وقرأ جعفر بن محمد " والبحر مداده " وجواب لو { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِ } أي كلماته التي هي عبارة عن معلوماته . قال أبو عليّ الفارسي المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود ، ووافقه القفال فقال المعنى أن الأشجار لو كانت أقلاماً والبحار مداداً ، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب . قال القشيري ردّ القفال معنى الكلمات إلى المقدورات . وحمل الآية على الكلام القديم أولى . قال النحاس قد تبين أن الكلمات هاهنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء لأنه جلّ وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شيء ، وعلم ما فيه من مثاقيل الذرّ ، وعلم الأجناس كلها ، وما فيها من شعرة وعضو وما في الشجرة من ورقة ، وما فيها من ضروب الخلق . وقيل إن قريشاً قالت ما أكثر كلام محمد ، فنزلت قاله السديّ ، وقيل إنها لما نزلت { وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } الإسراء 85 في اليهود ، قالوا كيف ، وقد أوتينا التوراة فيها كلام الله ، وأحكامه ، فنزلت . قال أبو عبيدة المراد بالبحر هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام ، وأما الماء المالح ، فلا ينبت الأقلام . قلت ما أسقط هذا الكلام ، وأقلّ جدواه { أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي غالب لا يعجزه شيء ، ولا يخرج عن حكمته وعلمه فرد من أفراد مخلوقاته . { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وٰحِدَةٍ } أي إلا كخلق نفس واحدة ، وبعثها . قال النحاس كذا قدّره النحويون كخلق نفس مثل قوله { وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } يوسف 82 . قال الزجاج أي قدرة الله على بعث الخلق كلهم ، وعلى خلقهم كقدرته على خلق نفس واحدة ، وبعث نفس واحدة { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لكل ما يسمع { بَصِيرٌ } بكل ما يبصر . وقد أخرج البيهقي في الشعب عن عطاء قال سألت ابن عباس عن قوله { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ } الآية ، قال هذه من كنوز علمي سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال " أما الظاهرة فما سوّى من خلقك ، وأما الباطنة فما ستر من عورتك ، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم " وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، والديلمي وابن النجار عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً } فقال " أما الظاهرة فالإسلام ، وما سوّى من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه ، وأما الباطنة فما ستر من مساوي عملك " وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال النعمة الظاهرة الإسلام ، والنعمة الباطنة كل ما يستر عليكم من الذنوب والعيوب والحدود . وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً أنه قال في تفسير الآية هي لا إلٰه إلا الله . وأخرج ابن أبي إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلاْرْضِ } الآية ؟ أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يا محمد ، أرأيت قولك { وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } الإسراء 85 إيانا تريد أم قومك ؟ فقال " كُلا " ، فقالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال " إنها في علم الله قليل " ، وأنزل الله { وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ } الآية . وأخرجه ابن مردويه عنه بأطول منه . وأخرج ابن مردويه أيضاً عن ابن مسعود نحوه .