Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 15-21)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر سبحانه حال بعض الشاكرين لنعمه عقبه بحال بعض الجاحدين لها ، فقال { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } المراد بسبأ القبيلة التي هي من أولاد سبأ ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود . قرأ الجمهور { لسبأ } بالجرّ والتنوين على أنه اسم حيّ ، أي الحيّ الذين هم أولاد سبأ ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو لسبأ ممنوع الصرف بتأويل القبيلة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، ويقوّي القراءة الأولى قوله { فِى مَسَـٰكِنِهِمْ } ، ولو كان على تأويل القبيلة لقال في مساكنها ، فمما ورد على القراءة الأولى قول الشاعر @ الواردون وتيم في ذرى سبأ قد عضّ أعناقها جلد الجواميس @@ ومما ورد على القراءة الثانية قول الشاعر @ من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون مسيله العرما @@ وقرأ قنبل ، وأبو حيوة ، والجحدري لبسأ بإسكان الهمزة ، وقرىء بقلبها ألفاً . وقرأ الجمهور { فِى مَسَـٰكِنِهِمْ } على الجمع ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، ووجه الاختيار أنها كانت لهم منازل كثيرة ، ومساكن متعدّدة . وقرأ حمزة ، وحفص بالإفراد مع فتح الكاف . وقرأ الكسائي بالإفراد مع كسرها ، وبهذه القراءة قرأ يحيـى بن وثاب ، والأعمش ، ووجه الإفراد أنه مصدر يشمل القليل ، والكثير ، أو اسم مكان ، وأريد به معنى الجمع ، وهذه المساكن التي كانت لهم هي التي يقال لها الآن مأرب ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال ، ومعنى قوله { ءايَةً } أي علامة دالة على كمال قدرة الله ، وبديع صنعه ، ثم بين هذه الآية ، فقال { جَنَّتَانِ } ، وارتفاعهما على البدل من آية قاله الفراء ، أو على أنهما خبر مبتدأ محذوف قاله الزجاج ، أو على أنهما مبتدأ ، وخبره { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } ، واختار هذا الوجه ابن عطية ، وفيه أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ ، وقرأ ابن أبي عبلة « جنتين » بالنصب على أنهما خبر ثان ، واسمها آية ، وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله ، قد أحاطتا به من جهتيه ، وكانت مساكنهم في الوادي ، والآية هي الجنتان ، كانت المرأة تمشي فيهما ، وعلى رأسها المكتل ، فيمتلىء من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها . وقال عبد الرحمن بن زيد إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة ، ولا ذباباً ، ولا برغوثاً ، ولا قملة ، ولا عقرباً ، ولا حية ، ولا غير ذلك من الهوام ، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم . قال القشيري ولم يرد جنتين اثنتين ، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في كل جهة بساتين كثيرة { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } أي قيل لهم ذلك ، ولم يكن ثم أمر ، ولكن المراد تمكينهم من تلك النعم . وقيل إنها قالت لهم الملائكة ، والمراد بالرزق هو ثمار الجنتين . وقيل إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم { وَٱشْكُرُواْ لَهُ } على ما رزقكم من هذه النعم ، واعملوا بطاعته ، واجتنبوا معاصيه ، وجملة { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } مستأنفة لبيان موجب الشكر . والمعنى هذه بلدة طيبة لكثرة أشجارها ، وطيب ثمارها . وقيل معنى كونها طيبة أنها غير سبخة ، وقيل ليس فيها هوامّ . وقال مجاهد هي صنعاء . ومعنى { وَرَبٌّ غَفُورٌ } أن المنعم عليهم ربّ غفور لذنوبهم . قال مقاتل المعنى وربكم إن شكرتم فيما رزقكم ربّ غفور للذنوب . وقيل إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام . وقرأ ورش بنصب بلدة ، وربّ على المدح ، أو على تقدير اسكنوا بلدة ، واشكروا رباً . ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم ، فقال { فَأَعْرِضُواْ } عن الشكر ، وكفروا بالله ، وكذبوا أنبياءهم قال السدّي بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبياً ، فكذبوهم ، وكذا قال وهب . ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم ، فقال { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } ، وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن ، فردموا ردماً بين جبلين ، وحبسوا الماء . وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض ، وكانوا يسقون من الباب الأعلى ، ثم من الباب الثاني ، ثم من الثالث ، فأخصبوا ، وكثرت أموالهم ، فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذاً ، ففتقت ذلك الردم حتى انتقض ، فدخل الماء جنتهم ، فغرقها ، ودفن السيل بيوتهم ، فهذا هو سيل العرم ، وهو جمع عرمة وهي السكر التي تحبس الماء ، وكذا قال قتادة ، وغيره . وقال السدّي العرم اسم للسدّ . والمعنى أرسلنا عليهم سيل السدّ العرم . وقال عطاء العرم اسم الوادي . وقال الزجاج العرم اسم الجرذ الذي نقب السدّ عليهم ، وهو الذي يقال له الخلد فنسب السيل إليه لكونه سبب جريانه . قال ابن الأعرابي العرم من أسماء الفأر . وقال مجاهد ، وابن أبي نجيح العرم ماء أحمر أرسله الله في السدّ ، فشقه ، وهدمه . وقيل إن العرم اسم المطر الشديد . وقيل اسم للسيل الشديد ، والعرامة في الأصل الشدّة ، والشراسة ، والصعوبة . يقال عرم فلان إذا تشدّد ، وتصعب ، وروي عن ابن الأعرابي أنه قال العرم السيل الذي لا يطاق . وقال المبرّد العرم كل شيء حاجز بين شيئين . { وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ } أي أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة ، والأنواع الحسنة ، وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما ، ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما ، ولهذا قال { ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } قرأ الجمهور بتنوين { أكل } ، وعدم إضافته إلى { خمط } ، وقرأ أبو عمرو بالإضافة . قال الخليل الخمط الأراك ، وكذا قال كثير من المفسرين . وقال أبو عبيدة الخمط كل شجرة مرّة ذات شوك . وقال الزجاج كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله . وقال المبرّد كل شيء تغير إلى ما لا يشتهى يقال له خمط ، ومنه اللبن إذا تغير ، وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو . والخمط نعت لأكل ، أو بدل منه ، لأن الأكل هو الخمط بعينه . وقال الأخفش الإضافة أحسن في كلام العرب مثل ثوب خزّ ، ودار آجرّ ، والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل ومن معه . قال الجوهري الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل ، وتسمية البدل جنتين للمشاكلة ، أو التهكم بهم ، والأثل هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره قال إلاّ أنه أعظم من الطرفاء طولاً ، الواحدة أثلة ، والجمع أثلاث . وقال الحسن الأثل الخشب . وقال أبو عبيدة هو شجر النطار ، والأوّل أولى ، ولا ثمر للأثل . والسدر شجر معروف . قال الفراء هو السمر . قال الأزهري السدر من الشجر سدران بريّ لا ينتفع به ، ولا يصلح للغسول ، وله ثمر عفص لا يؤكل ، وهو الذي يسمى الضال . والثاني سدر ينبت على الماء ، وثمره النبق ، وورقه غسول يشبه شجر العناب ، قيل ووصف السدر بالقلة لأن منه نوعاً يطيب أكله ، وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري . قال قتادة بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شرّ الشجر بأعمالهم ، فأهلك أشجارهم المثمرة ، وأنبت بدلها الأراك ، والطرفاء والسدر . ويحتمل أن يرجع قوله { قَلِيلٌ } إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر . والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم من التبديل ، أو إلى مصدر { جَزَيْنَـٰهُم } والباء في { بِمَا كَفَرُواْ } للسببية ، أي ذلك التبديل ، أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة بإعراضهم عن شكرها { وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } أي وهل نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة ، ونزول النقمة إلاّ الشديد الكفر المتبالغ فيه . قرأ الجمهور يجازى بضم التحتية ، وفتح الزاي على البناء للمفعول . وقرأ حمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وحفص بالنون ، وكسر الزاي على البناء للفاعل ، وهو الله سبحانه ، والكفور على القراءة الأولى مرفوع ، وعلى القراءة الثانية منصوب ، واختار القراءة الثانية أبو عبيد ، وأبو حاتم قالا لأن قبله { جَزَيْنَـٰهُم } ، وظاهر الآية أنه لا يجازى إلاّ الكفور مع كون أهل المعاصي يجازون ، وقد قال قوم إن معنى الآية أنه لا يجازى هذا الجزاء ، وهو الاصطلام ، والإهلاك إلاّ من كفر . وقال مجاهد إن المؤمن يكفر عنه سيئاته ، والكافر يجازى بكل عمل عمله . وقال طاووس هو المناقشة في الحساب ، وأما المؤمن ، فلا يناقش . وقال الحسن إن المعنى إنه يجازي الكافر مثلاً بمثل ، ورجح هذا الجواب النحاس . { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا } هذا معطوف على قوله { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } أي وكان من قصتهم أنا جعلنا بينهم ، وبين القرى التي باركنا فيها بالماء ، والشجر ، وهي قرى الشام { قُرًى ظَـٰهِرَةً } أي متواصلة ، وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام ، وكانوا يبيتون بقرية ، ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا ، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام ، فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم . قال الحسن إن هذه القرى هي بين اليمن والشام . قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية . وقيل هي بين المدينة والشام . وقال المبرّد القرى الظاهرة هي المعروفة ، وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها ، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى ، فكانت قرى ظاهرة ، أي معروفة ، يقال هذا أمر ظاهر ، أي معروف { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } أي جعلنا السير من القرية إلى القرية مقداراً معيناً واحداً ، وذلك نصف يوم كما قال المفسرون . قال الفرّاء أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية ، والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام ، وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد ، والماء ، ولخوف الطريق ، فإذا وجد الزاد ، والأمن لم يحمل نفسه المشقة ، بل ينزل أينما أراد . والحاصل أن الله سبحانه عدّد عليهم النعم ، ثم ذكر ما نزل بهم من النقم ، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم ، وبين ما يريدون السفر إليه ، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي وقوله { سِيرُواْ فِيهَا } هو على تقدير القول ، أي وقلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة ، فهو أمر تمكين أي ومكناهم من السير فيها متى شاءوا { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } مما يخافونه ، وانتصاب { ليالي } و { أياماً } على الظرفية . وانتصاب { آمنين } على الحال . قال قتادة كانوا يسيرون غير خائفين ، ولا جياع ، ولا ظمأ ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرّك بعضهم بعضاً ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحرّكه . ثم ذكر سبحانه أنهم لم يشكروا النعمة ، بل طلبوا التعب والكد . { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } وكان هذا القول منهم بطراً وطغياناً لما سئموا النعمة ، ولم يصبروا على العافية ، فتمنوا طول الأسفار ، والتباعد بين الديار ، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء ، والشجر ، والأمن ، والمفاوز ، والقفار ، والبراري المتباعدة الأقطار ، فأجابهم الله إلى ذلك ، وخرّب تلك القرى المتواصلة ، وذهب بما فيها من الخير ، والماء ، والشجر ، فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا { فَٱدْع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلارْضُ مِن بَقْلِهَا } البقرة 61 الآية مكان المنّ والسلوى ، وكقول النضر بن الحارث { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ ٱلسَّمَاء } الأنفال 32 الآية . قرأ الجمهور { ربنا } بالنصب على أنه منادى مضاف ، وقرءوا أيضاً { باعد } وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن محيصن ، وهشام عن ابن عامر بعد بتشديد العين ، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلاً ماضياً ، فيكون معنى هذه القراءة الشكوى من بعد الأسفار ، وقرأ أبو صالح ، ومحمد بن الحنفية ، وأبو العالية ، ونصر بن عاصم ، ويعقوب ربنا بالرفع باعد بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء ، والخبر . والمعنى لقد باعد ربنا بين أسفارنا ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس ، واختارها أبو حاتم ، قال لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطراً ، وأشراً ، وكفراً للنعمة . وقرأ يحيـى بن يعمر ، وعيسى بن عمر ربنا بالرفع ، بعد بفتح العين مشدّدة ، فيكون معنى هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى ، والشجر ، والماء ، فيكون هذا من جملة بطرهم ، وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } الأنعام 94 . وروى الفرّاء ، والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف ، والتقدير بعد سيرنا بين أسفارنا . قال النحاس وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا ا ختلفت معانيها ، ولكن أخبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم ، فلما فعل ذلك بهم شكوا ، وتضرّروا ، ولهذا قال سبحانه { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } حيث كفروا بالله ، وبطروا نعمته ، وتعرّضوا لنقمته { فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ } يتحدّث الناس بأخبارهم . والمعنى جعلناهم ذوي أحاديث يتحدّث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم ، واعتباراً بحالهم ، وعاقبتهم { وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي فرّقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق ، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث ، وذلك أن الله سبحانه لما أغرق مكانهم ، وأذهب جنتهم ، تفرّقوا في البلاد ، فصارت العرب تضرب بهم الأمثال . فتقول تفرّقوا أيدي سبا . قال الشعبي فلحقت الأنصار بيثرب ، وغسان بالشام ، والأزد بعمان ، وخزاعة بتهامة { إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ } أي فيما ذكر من قصتهم ، وما فعل الله بهم لآيات بينات ، ودلالات واضحات { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي لكل من هو كثير الصبر ، والشكر ، وخصّ الصبار الشكور ، لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات . { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } قرأ الجمهور " صدق " بالتخفيف ، ورفع { إبليس } ، ونصب { ظنه } . قال الزجاج وهو على المصدر ، أي صدق عليهم ظناً ظنه ، أو صدق في ظنه ، أو على الظرف . والمعنى أنه ظنّ بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه ، فوجدهم كذلك ، ويجوز أن يكون منتصباً على المفعولية ، أو بإسقاط الخافض . وقرأ حمزة ، والكسائي ، ويحيـى بن وثاب ، والأعمش ، وعاصم { صدق } بالتشديد ، و { ظنه } بالنصب على أنه مفعول به . قال أبو عليّ الفارسي ، أي صدّق الظنّ الذي ظنه . قال مجاهد ظنّ ظناً ، فصدّق ظنه ، فكان كما ظنّ ، وقرأ أبو جعفر ، وأبو الجهجاء ، والزّهري ، وزيد بن عليّ صدق بالتخفيف ، و إبليس بالنصب وظنه بالرفع ، قال أبو حاتم لا وجه لهذه القراءة عندي ، وقد أجاز هذه القراءة الفرّاء ، وذكرها الزجاج ، وجعل الظنّ فاعل صدّق ، وإبليس مفعوله . والمعنى أن إبليس سوّل له ظنه شيئاً فيهم ، فصدّق ظنه ، فكأنه قال ولقد صدّق عليهم ظن إبليس . وروي عن أبي عمرو أنه قرأ برفعهما مع تخفيف صدق على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس . قيل وهذه الآية خاصة بأهل سبأ . والمعنى أنهم غيروا ، وبدّلوا بعد أن كانوا قد آمنوا بما جاءت به رسلهم . وقيل هي عامة ، أي صدّق إبليس ظنه على الناس كلهم إلاّ من أطاع الله . قاله مجاهد ، والحسن . قال الكلبي إنه ظنّ أنه إن أغواهم أجابوه ، وإن أضلهم أطاعوه ، فصدّق ظنه { فَٱتَّبَعُوهُ } قال الحسن ما ضربهم بصوت ، ولا بعصي ، وإنما ظنّ ظناً ، فكان كما ظنّ بوسوسته ، وانتصاب . { إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } على الاستثناء ، وفيه وجهان أحدهما أن يراد به بعض المؤمنين ، لأن كثيراً من المؤمنين يذنب ، وينقاد لإبليس في بعض المعاصي ، ولم يسلم منه إلاّ فريق ، وهم الذين قال فيهم { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ } الحجر 42 . وقيل المراد بـ { فريقاً من المؤمنين } المؤمنون كلهم على أن تكون " من " بيانية . { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَـٰنٍ } أي ما كان له تسلط عليهم ، أي لم يقهرهم على الكفر ، وإنما كان منه الدعاء ، والوسوسة ، والتزيين . وقيل السلطان القوّة . وقيل الحجة ، والاستثناء في قوله { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلأَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ } منقطع ، والمعنى لا سلطان له عليهم ، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم . وقيل هو متصل مفرّغ من أعم العام أي ما كان له عليهم تسلط بحال من الأحوال ، ولا لعلة من العلل إلاّ ليتميز من يؤمن ، ومن لا يؤمن ، لأنه سبحانه قد علم ذلك علماً أزلياً . وقال الفرّاء المعنى إلاّ لنعلم ذلك عندكم . وقيل إلاّ لتعلموا أنتم ، وقيل ليعلم أولياؤنا ، والملائكة . وقرأ الزهري . إلاّ ليعلم على البناء للمفعول ، والأولى حمل العلم هنا على التمييز ، والإظهار كما ذكرنا { وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ } أي محافظ عليه . قال مقاتل علم كل شيء من الإيمان و الشك . وقد أخرج أحمد ، والبخاري ، والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه ، وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم ، وأمرني ، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردّني ، فقال " ادع القوم ، فمن أسلم منهم ، فاقبل منه ، ومن لم يسلم ، فلا تعجل حتى أحدث إليك " وأنزل في سبأ ما أنزل ، فقال رجل يا رسول الله ، وما سبأ أرض أم امرأة ؟ قال " ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب ، فتيامن منهم ستة ، وتشاءم منهم أربعة ، فأما الذين تشاءموا فلخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة وأما الذين تيامنوا ، فالأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار " فقال رجل يا رسول الله ، وما أنمار ؟ قال " الذي منهم خثعم ، وبجيلة " وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والطبراني ، وابن عديّ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } قال الشديد . وأخرج ابن جرير عنه قال { سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { أُكُلٍ خَمْطٍ } قال الأراك . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله { وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } قال تلك المناقشة . وأخرج إسحاق بن بشر ، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم } يعني بين مساكنهم { وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا } يعني الأرض المقدّسة { قُرًى ظَـٰهِرَةً } يعني عامرة مخصبة { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } يعني فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام { سِيرُواْ فِيهَا } إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدّسة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } قال إبليس إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً ، وإني خلقت من نار ، والنار تحرق كل شيء لأحتنكنّ ذرّيته إلاّ قليلاً . قال فصدّق ظنه عليهم { فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال هم المؤمنون كلهم .