Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 34-42)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما قصّ سبحانه حال من تقدّم من الكفار أتبعه بما فيه التسلية لرسوله ، وبيان أن كفر الأمم السابقة بمن أرسل إليهم من الرسل هو كائن مستمرّ في الأعصر الأوّل ، فقال { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ } من القرى { مّن نَّذِيرٍ } ينذرهم ، ويحذرهم عقاب الله { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } أي رؤساؤها ، وأغنياؤها ، وجبابرتها ، وقادة الشرّ لرسلهم { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ } أي بما أرسلتم به من التوحيد ، والإيمان ، وجملة { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } في محل نصب على الحال . ثم ذكر ما افتخروا به من الأموال ، والأولاد ، وقاسوا حالهم في الدار الآخرة على حالهم في هذه الدار على تقدير صحة ما أنذرهم به الرسل ، فقال { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوٰلاً وَأَوْلَـٰداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } والمعنى أن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد في الدنيا ، وذلك يدلّ على أنه قد رضي ما نحن عليه من الدين ، { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا ، ورضاه عنا . فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم ، وقال { قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء } أن يبسطه له { وَيَقْدِرُ } أي يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه ، فهو سبحانه قد يرزق الكافر ، والعاصي استدراجاً له ، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيراً لأجره ، وليس مجرّد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه ، ورضي عمله ، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه ، ولا رضي عمله ، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين ، أو المغالطة الواضحة { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } هذا ، ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى ، ثم زاد هذا الجواب تأييداً ، وتأكيداً { وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } أي ليسوا بالخصلة التي تقرّبكم عندنا قربى . قال مجاهد الزلفى القربى ، والزلفة القربة . قال الأخفش زلفى اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريباً ، فتكون زلفى منصوبة المحلّ . قال الفرّاء إن التي تكون للأموال والأولاد جميعاً . وقال الزجاج إن المعنى وما أموالكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى ، ولا أولادكم بالشيء يقرّبكم عندنا زلفى ، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه ، وأنشد @ نحن بما عندنا وأنت بما عنـ ـدك راض والرأي مختلف @@ ويجوز في غير القرآن باللتين ، واللاتي ، وباللواتي ، وبالذي للأولاد خاصة ، أي لا تزيدكم الأموال عندنا درجة ورفعة ، ولا تقربكم تقريباً { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } هو استثناء منقطع ، فيكون محله النصب ، أي لكن من آمن ، وعمل صالحاً ، أو في محل جرّ بدلاً من الضمير في تقرّبكم ، كذا قال الزجاج . قال النحاس وهذا القول غلط ، لأن الكاف والميم للمخاطب ، فلا يجوز البدل ، ولو جاز هذا لجاز رأيتك زيداً . ويجاب عنه بأن الأخفش والكوفيين يجوّزون ذلك ، وقد قال بمثل قول الزجاج الفراء ، وأجاز الفراء أن يكون في موضع رفع بمعنى ما هو إلاّ من آمن ، والإشارة بقوله { فَأُوْلَـئِكَ } إلى من ، والجمع باعتبار معناها ، وهو مبتدأ ، وخبره { لَهُمْ جَزَاء ٱلضّعْفِ } أي جزاء الزيادة ، وهي المرادة بقوله { مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } الأنعام 160 ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي جزاء التضعيف للحسنات . وقيل لهم جزاء الإضعاف لأن الضعف في معنى الجمع ، والباء في { بِمَا عَمِلُواْ } للسببية { وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءامِنُونَ } من جميع ما يكرهون ، والمراد غرفات الجنة ، قرأ الجمهور { جزاء الضعف } بالإضافة ، وقرأ الزهري ، ويعقوب ، ونصر بن عاصم ، وقتادة برفعهما على أن الضعف بدل من جزاء . وروي عن يعقوب أنه قرأ جزاء بالنصب منوناً ، و الضعف بالرفع على تقدير فأولئك لهم الضعف جزاء ، أي حال كونه جزاء . وقرأ الجمهور { في الغرفات } بالجمع ، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله { لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً } العنكبوت 58 . وقرأ الأعمش ، ويحيـى بن وثاب ، وحمزة ، وخلف في الغرفة بالإفراد لقوله { أُوْلَـئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ } الفرقان 75 ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين ذكر حال الكافرين ، فقال { وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءايَـٰتِنَا } بالردّ لها ، والطعن فيها حال كونهم { مُعَـٰجِزِينَ } مسابقين لنا زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم ، أو معاندين لنا بكفرهم { أُوْلَـئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي في عذاب جهنم تحضرهم الزبانية إليها لا يجدون عنها محيصاً . ثم كرّر سبحانه ما تقدّم لقصد التأكيد للحجة ، والدفع لما قاله الكفرة ، فقال { قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } أي يوسعه لمن يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، وليس في ذلك دلالة على سعادة ، ولا شقاوة { وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي يخلفه عليكم ، يقال أخلف له ، وأخلف عليه إذا أعطاه عوضه ، وبدله ، وذلك البدل إما في الدنيا ، وإما في الآخرة { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرزِقِينَ } فإن رزق العباد لبعضهم البعض إنما هو بتيسير الله ، وتقديره ، وليسوا برازقين على الحقيقة بل على طريق المجاز ، كما يقال في الرجل إنه يرزق عياله ، وفي الأمير إنه يرزق جنده ، والرازق للأمير ، والمأمور ، والكبير ، والصغير هو الخالق لهم ، ومن أخرج من العباد إلى غيره شيئاً مما رزقه الله ، فهو إنما تصرّف في رزق الله له ، فاستحق بما خرج منه الثواب عليه المضاعف لامتثاله لأمر الله ، وإنفاقه فيما أمره الله . { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } الظرف منصوب بفعل مقدّر نحو اذكر ، أو هو متصل بقوله { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ } سبأ 31 أي ولو تراهم أيضاً يوم نحشرهم جميعاً للحساب العابد ، والمعبود ، والمستكبر ، والمستضعف ، { ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَـٰئِكَةِ أَهَـؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } تقريعاً للمشركين ، وتوبيخاً لمن عبد غير الله عزّ وجلّ كما في قوله لعيسى { ءأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } المائدة 116 ، وإنما خصص الملائكة بالذكر مع أن بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين ، والأصنام لأنهم أشرف معبودات المشركين . قال النحاس والمعنى أن الملائكة إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت للمشركين ، وجملة { قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أي تنزيهاً لك أنت الذي نتولاه ، ونطيعه ، ونعبده من دونهم ، ما اتخذناهم عابدين ، ولا توليناهم ، وليس لنا غيرك ولياً ، ثم صرّحوا بما كان المشركون يعبدونه ، فقالوا { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } أي الشياطين ، وهم إبليس ، وجنوده ، ويزعمون أنهم يرونهم ، وأنهم ملائكة ، وأنهم بنات الله . وقيل كانوا يدخلون أجواف الأصنام ، ويخاطبونهم منها { أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } أي أكثر المشركين بالجنّ مؤمنون بهم مصدّقون لهم . قيل والأكثر في معنى الكلّ . { فَٱلْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } يعني العابدين ، والمعبودين لا يملك بعضهم ، وهم المعبودون لبعض ، وهم العابدون { نَفْعاً } أي شفاعة ، ونجاة { وَلاَ ضَرّا } أي عذاباً ، وهلاكاً ، وإنما قيل لهم هذا القول إظهاراً لعجزهم ، وقصورهم ، وتبكيتاً لعابديهم ، وقولهم { وَلاَ ضَرّا } هو على حذف مضاف ، أي لا يملكون لهم دفع ضرّ ، وقوله { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } عطف على قوله { نَّقُولُ لِلْمَلَـٰئِكَةِ } أي للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله { ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } في الدنيا . وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال كان رجلان شريكين ، خرج أحدهما إلى الساحل ، وبقي الآخر ، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم ، فترك تجارته ، ثم أتى صاحبه ، فقال دلني عليه ، وكان يقرأ الكتب ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال إلى ما تدعو ؟ قال إلى كذا ، وكذا ، قال أشهد أنك رسول الله ، قال وما علمك بذلك ؟ قال إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس ، ومساكينهم ، فنزلت هذه الآيات { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } الآيات ، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله قد أنزل تصديق ما قلت " وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله { جَزَاء ٱلضّعْفِ } قال تضعيف الحسنة . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين ، وتلا هذه الآية { وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ } إلى قوله { فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاء ٱلضّعْفِ } قال تضعيف الحسنة . وأخرج سعيد بن منصور ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله { وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ } قال في غير إسراف ، ولا تقتير ، وعن مجاهد مثله . وعن الحسن مثله . وأخرج الدارقطني ، والبيهقي في الشعب عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كلما أنفق العبد من نفقة ، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان ، أو معصية " وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل ، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه . وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عزّ وجلّ أنفق يا ابن آدم أنفق عليك " وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً " وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن لكل يوم نحساً ، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة " ثم قال اقرءوا مواضع الخلف ، فإني سمعت رسول الله يقول " وما أنفقتم من شيء ، فهو يخلفه إذا لم تنفقوا كيف يخلف " وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة " .