Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 43-50)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أنواع كفرهم ، فقال { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا } أي الآيات القرآنية حال كونها { بَيّنَـٰتٍ } واضحات الدلالات ظاهرات المعاني { قَالُواْ مَا هَـٰذَا } يعنون التالي لها ، وهو النبي { إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُم } أي أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها { وَقَالُواْ } ثانياً { مَا هَـٰذَا } يعنون القرآن الكريم { إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } أي كذب مختلق { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ثالثاً { لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ } أي لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } وهذا الإنكار منهم خاص بالتوحيد ، وأما إنكار القرآن ، والمعجزة ، فكان متفقاً عليه بين أهل الكتاب ، والمشركين . وقيل أريد بالأوّل ، وهو قولهم { إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } معناه ، وبالثاني ، وهو قولهم { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } نظمه المعجز . وقيل إن طائفة منهم قالوا إنه إفك ، وطائفة قالوا إنه سحر . وقيل إنهم جميعاً قالوا تارة إنه إفك ، وتارة إنه سحر ، والأوّل أولى . { وَمَا ءاتَيْنَـٰهُمْ مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } أي ما أنزلنا على العرب كتباً سماوية يدرسون فيها { وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ } يدعوهم إلى الحقّ ، وينذرهم بالعذاب ، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه ، ولا شبهة يتشبثون بها . قال قتادة ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم . قال الفرّاء ، أي من أين كذبوك ، ولم يأتهم كتاب ، ولا نذير بهذا الذي فعلوه . ثم خوّفهم سبحانه ، وأخبر عن عاقبتهم ، وعاقبة من كان قبلهم ، فقال { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } من القرون الخالية { وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتَيْنَـٰهُمْ } أي ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش ، وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوّة ، وكثرة المال ، وطول العمر ، فأهلكهم الله ، كعاد ، وثمود ، وأمثالهم . والمعشار هو العشر . قال الجوهري معشار الشيء عشره . وقيل المعشار عشر العشر ، والأوّل أولى . وقيل إن المعنى ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى . وقيل ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم . وقيل ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم ، والبيان ، والحجة ، والبرهان ، والأوّل أولى . وقيل المعشار عشر العشير ، والعشير عشر العشر ، فيكون جزءاً من ألف جزء . قال الماوردي وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل ، قلت مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي ، وقوله { فَكَذَّبُواْ رُسُلِى } عطف على { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } على طريقة التفسير ، كقوله { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } القمر 9 الآية ، والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام ، لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم ، فمعناه كذبوا الكتب المنزلة ، والرسل المرسلة ، والمعجزات الواضحة ، وتكذيب الرسل أخص منه ، وإن كان مستلزماً له ، فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية { فَكَيْفَ كَانَ } أي فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب ، والعقوبة ، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك . قيل وفي الكلام حذف . والتقدير فأهلكناهم ، فكيف كان نكير ، والنكير اسم بمعنى الإنكار . ثم أمر سبحانه رسوله أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها ، فقال { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوٰحِدَةٍ } أي أحذركم ، وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه ، وأوصيكم بخصلة واحدة ، وهي { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ } هذا تفسير للخصلة الواحدة ، أو بدل منها ، أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحقّ بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ، لأن الاجتماع يشوّش الفكر . وليس المراد القيام على الرجلين ، بل المراد القيام بطلب الحقّ ، وإصداق الفكر فيه ، كما يقال قام فلان بأمر كذا { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } في أمر النبيّ ، وما جاء به من الكتاب ، فإنكم عند ذلك تعلمون أن { مَا بِصَـٰحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ } ، وذلك لأنهم كانوا يقولون إن محمداً مجنون ، فقال الله سبحانه قل لهم اعتبروا أمري بواحدة ، وهي أن تقوموا لله ، وفي ذاته مجتمعين ، فيقول الرجل لصاحبه هلمّ ، فلنتصادق ، هل رأينا بهذا الرجل من جنة ، أي جنون ، أو جرّبنا عليه كذباً ، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه ، فيتفكر ، وينظر ، فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق ، وأنه رسول من عند الله ، وأنه ليس بكاذب ، ولا ساحر ، ولا مجنون ، وهو معنى قوله { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي ما هو إلاّ نذير لكم بين يدي الساعة . وقيل إن جملة { مَا بِصَـٰحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ } مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم ، والدعوى الكبيرة لا يعّرض نفسه له إلاّ مجنون لا يبالي بما يقال فيه ، وما ينسب إليه من الكذب ، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلاً ، فوجب أن يصدّقوه في دعواه ، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة ، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب ، ولا قد جرّبوا عليه كذباً مدّة عمره ، وعمرهم . وقيل يجوز أن تكون « ما » في { مَا بِصَـٰحِبِكُمْ } استفهامية ، أي ثم تتفكروا أيّ شيء به من آثار الجنون . وقيل المراد بقوله { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوٰحِدَةٍ } هي « لا إلٰه إلاّ الله » كذا قال مجاهد ، والسدّي . وقيل القرآن لأنه يجمع المواعظ كلها ، والأولى ما ذكرناه أوّلاً . وقال الزجاج إن « أن » في قوله { أَن تَقُومُواْ } في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا . و قال السدّي معنى مثنى وفرادى منفرداً برأيه ، ومشاوراً لغيره . وقال القتيبي مناظراً مع عشيرته ، ومفكراً في نفسه . وقيل المثنى عمل النهار ، والفرادى عمل الليل ، قاله الماوردي . وما أبرد هذا القول ، وأقلّ جدواه . واختار أبو حاتم ، وابن الأنباري الوقف على قوله { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } ، وعلى هذا تكون جملة { مَا بِصَـٰحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ } مستأنفة كما قدّمنا . وقيل ليس بوقف ، لأن المعنى ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذباً ، أو رأيتم منه جنة ، أو في أحواله من فساد . ثم أمر سبحانه أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا ، ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك ، ويرتفع الريب ، فقال { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } أي ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة ، فهو لكم إن سألتكموه ، والمراد نفي السؤال بالكلية ، كما يقول القائل ما أملكه في هذا ، فقد وهبته لك ، يريد أنه لا ملك له فيه أصلاً ، ومثل هذه الآية قوله { قُل لاَّ أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِى ٱلْقُرْبَىٰ } الشورى 23 ، وقوله { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً } الفرقان 57 . ثم بين لهم أن أجره عند الله سبحانه ، فقال { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } أي ما أجري إلاّ على الله لا على غيره { وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيدٍ } أي مطلع لا يغيب عنه منه شيء . { قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِٱلْحَقّ } القذف الرمي بالسهم ، والحصى ، والكلام . قال الكلبي يرمي على معنى يأتي به ، وقال مقاتل يتكلم بالحق ، وهو القرآن ، والوحي ، أي يلقيه إلى أنبيائه . وقال قتادة { بِٱلْحَقّ } أي بالوحي ، والمعنى أنه يبين الحجة ، ويظهرها للناس على ألسن رسله ، وقيل يرمي الباطل بالحق ، فيدمغه { عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } قرأ الجمهور برفع { علام } على أنه خبر ثانٍ لإنّ ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من الضمير في يقذف ، أو معطوف على محل اسم إن . قال الزجاج الرفع من وجهين على الموضع ، لأن الموضع موضع رفع ، أو على البدل . وقرأ زيد بن علي ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم إنّ ، أو بدلاً منه ، أو على المدح . قال الفراء والرفع في مثل هذا أكثر كقوله { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } صۤ 64 ، وقرىء الغيوب بالحركات الثلاث في الغين ، وهو جمع غيب ، والغيب هو الأمر الذي غاب وخفي جدًّا . { قُلْ جَاء ٱلْحَقُّ } أي الإسلام ، والتوحيد . وقال قتادة القرآن . وقال النحاس التقدير صاحب الحقّ ، أي الكتاب الذي فيه البراهين ، والحجج . وأقول لا وجه لتقدير المضاف ، فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه . { وَمَا يُبْدِىء ٱلْبَـٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ } أي ذهب الباطل ذهاباً لم يبق منه إقبال ، ولا إدبار ، ولا إبداء ، ولا إعادة . قال قتادة الباطل هو الشيطان ، أي ما يخلق لشيطان ابتداء ، ولا يبعث ، وبه قال مقاتل ، والكلبي . وقيل يجوز أن تكون ما استفهامية ، أي أيّ شيء يبديه ، وأيّ شيء يعيده ؟ والأوّل أولى . { قُلْ إِن ضَلَلْتُ } عن الطريق الحقة الواضحة { فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِى } أي إثم ضلالتي يكون على نفسي ، وذلك أن الكفار قالوا له تركت دين آبائك ، فضللت ، فأمره الله أن يقول لهم هذا القول { وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فِيمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى } من الحكمة ، والموعظة ، والبيان بالقرآن { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة . قرأ الجمهور { ضللت } بفتح اللام ، وقرأ الحسن ، ويحيـى بن وثاب بكسر اللام ، وهي لغة أهل العالية . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتَيْنَـٰهُمْ } يقول من القوّة في الدنيا . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال يقوم الرجل مع الرجل ، أو وحده ، فيفكر ما بصاحبه من جنة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة { مَا بِصَـٰحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ } يقول إنه ليس بمجنون . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله { مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ } أي من جعل ، فهو لكم ، يقول لم أسألكم على الإسلام جعلاً ، وفي قوله { قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِٱلْحَقّ } قال بالوحي ، وفي قوله { وَمَا يُبْدِىء ٱلْبَـٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ } قال الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك . وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله { وَمَا يُبْدِىء ٱلْبَـٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ } قال ما يخلق إبليس شيئاً ، ولا يبعثه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله { إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِى } قال إنما أوخذ بجنايتي .