Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 27-35)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته الباهرة ، وخلقاً من مخلوقاته البديعة ، فقال { أَلَمْ تَرَ } ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكلّ من يصلح له { أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء } وهذه الرؤية هي القلبية ، أي ألم تعلم ، وأن واسمها وخبرها سدّت مسدّ المفعولين { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } أي بالماء ، والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال العناية بالفعل لما فيه من الصنع البديع ، وانتصاب { مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } على الوصف لثمرات ، والمراد بالألوان الأجناس ، والأصناف ، أي بعضها أبيض ، وبعضها أحمر ، وبعضها أصفر ، وبعضها أخضر ، وبعضها أسود { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ } الجدد جمع جدة ، وهي الطريق . قال الأخفش ولو كان جمع جديد لقال جدد بضم الجيم والدال ، نحو سرير وسرر . قال زهير @ كأنه أسفع الخدين ذو جدد طاوٍ ويرتع بعد الصيف أحياناً @@ وقيل الجدد القطع ، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته ، حكاه ابن بحر . قال الجوهري الجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه ، والجدة الطريقة ، والجمع جدد ، وجدائد ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب @ جون السراة له جدائد أربع @@ قال المبرد جدد طرائق وخطوط . قال الواحدي ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد . وقال الفراء هي الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض ، وسود ، وحمر ، واحدها جدة . والمعنى أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال ، وهي طرائقها ، أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض ، ولون بعضها الحمرة ، وهو معنى قوله { بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوٰنُهَا } قرأ الجمهور { جدد } بضم الجيم ، وفتح الدال . وقرأ الزهري بضمهما جمع جديدة ، وروي عنه أنه قرأ بفتحهما ، وردّها أبو حاتم وصححها غيره ، وقال الجدد الطريق الواضح البين { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب . قال الجوهري تقول هذا أسود غربيب ، أي شديد السواد ، وإذا قلت غرابيب سود جعلت السود بدلاً من غرابيب . قال الفراء في الكلام تقديم وتأخير تقديره وسود غرابيب ، لأنه يقال أسود غربيب ، وقلّ ما يقال غربيب أسود ، وقوله { مُّخْتَلِف أَلْوَانُهَا } صفة لجدد ، وقوله { وَغَرَابِيبُ } معطوف على جدد على معنى ومن الجبال جدد بيض ، وحمر ، ومن الجبال غرابيب على لون واحد ، وهو السواد ، أو على حمر على معنى ، ومن الجبال جدد بيض ، وحمر ، وسود . وقيل معطوف على بيض ، ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف قبل جدد ، أي ومن الجبال ذو جدد ، لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها . { وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَابّ وَٱلأَنْعَـٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰنُهُ } قوله { مختلف } صفة لموصوف محذوف ، أي ومنهم صنف ، أو نوع ، أو بعض مختلف ألوانه بالحمرة ، والسواد ، والبياض ، والخضرة ، والصفرة . قال الفراء ، أي خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات ، والجبال ، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء ، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله ، وبديع صنعه ، ومعنى { كَذٰلِكَ } أي مختلفاً مثل ذلك الاختلاف ، وهو صفة لمصدر محذوف ، والتقدير مختلف ألوانه اختلافاً كائناً كذلك ، أي كاختلاف الجبال ، والثمار . وقرأ الزهري « والدواب » بتخفيف الباء . وقرأ ابن السميفع « ألوانها » . وقيل إن قوله { كَذٰلِكَ } متعلق بما بعده ، أي مثل ذلك المطر ، والاعتبار في مخلوقات الله ، واختلاف ألوانها يخشي الله من عباده العلماء ، وهذا اختاره ابن عطية ، وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها . والراجح الوجه الأوّل ، والوقف على { كذلك } تامّ . ثم استؤنف الكلام ، وأخبر سبحانه بقوله { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء } أو هو من تتمة قوله { إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } فاطر 18 على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به ، وبما يليق به من صفاته الجليلة ، وأفعاله الجميلة ، وعلى كل تقدير ، فهو سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته ، وهم العلماء به ، وتعظيم قدرته . قال مجاهد إنما العالم من خشي الله عزّ وجلّ . وقال مسروق كفى بخشية الله علماً ، وكفى بالاغترار جهلاً ، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له . قال الربيع بن أنس من لم يخش الله ، فليس بعالم . وقال الشعبي العالم من خاف الله ، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية ، ولو أخر انعكس الأمر . وقرأ عمر بن عبد العزيز برفع الاسم الشريف ، ونصب العلماء ، ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة قال في الكشاف الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى أنه يجلهم ، ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس ، وجملة { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب على معصيته غافر لمن تاب من عباده . { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ } أي يستمرّون على تلاوته ، ويداومونها . والكتاب هو القرآن الكريم ، ولا وجه لما قيل إن المراد به جنس كتب الله { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أي فعلوها في أوقاتها مع كمال أركانها ، وأذكارها { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً } فيه حثّ على الإنفاق كيف ما تهيأ ، فإن تهيأ سرّاً ، فهو أفضل ، وإلاّ فعلانية ، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء ، ويمكن أن يراد بالسرّ صدقة النفل ، وبالعلانية صدقة الفرض ، وجملة . { يَرْجُونَ تِجَـٰرَةً لَّن تَبُورَ } في محل رفع على خبرية إنّ كما قال ثعلب ، وغيره ، والمراد بالتجارة ثواب الطاعة ومعنى { لَّن تَبُورَ } لن تكسد ، ولن تهلك ، وهي صفة للتجارة ، والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم . واللام في { لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ } متعلق بلن تبور ، على معنى أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ } النساء 173 . وقيل إن اللام متعلقة بمحذوف دلّ عليه السياق أي فعلوا ذلك ليوفيهم ، ومعنى { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } أنّه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم ، وجملة { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة أي غفور لذنوبهم شكور لطاعتهم ، وقيل إن هذه الجملة هي خبر إنّ ، وتكون جملة يرجون في محل نصب على الحال ، والأوّل أولى . { وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } يعني القرآن . وقيل اللوح المحفوظ على أن من تبعيضية ، أو ابتدائية ، وجملة { هُوَ ٱلْحَقُّ } خبر الموصول و { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } منتصب على الحال ، أي موافقاً لما تقدّمه من الكتب { إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي محيط بجميع أمورهم { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } المفعول الأوّل لأورثنا الموصول ، والمفعول الثاني الكتاب ، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف ، والتعظيم للكتاب ، والمعنى ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب ، وهو القرآن ، أي قضينا ، وقدّرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك ، ومعنى اصطفائهم اختيارهم ، واستخلاصهم ، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة ، فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد ، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء ، وسيد ولد آدم . قال مقاتل يعني قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا . وقيل إن المعنى أورثناه من الأمم السالفة ، أي أخرناه عنهم ، وأعطيناه الذين اصطفينا ، والأوّل أولى . ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه ، واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام ، فقال { فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ } قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية ، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم ، وهو من اصطفاهم من العباد ، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه ؟ فقيل إن التقسيم هو راجع إلى العباد ، أي فمن عبادنا ظالم لنفسه ، وهو الكافر ، ويكون ضمير { يدخلونها } عائداً إلى المقتصد والسابق . وقيل المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به ، وهو المرجأ لأمر الله ، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حقّ رعايته ، لقوله { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } الأعراف 169 ، وهذا فيه نظر ، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء . وقيل الظالم لنفسه هو الذي عمل الصغائر ، وقد روي هذا القول عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وعائشة ، وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي . ووجه كونه ظالماً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظاً عظيماً . وقيل الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر . وقد اختلف السلف في تفسير السابق ، والمقتصد ، فقال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك إن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقيّ على الإطلاق ، وبه قال الفراء ، وقال مجاهد في تفسير الآية { فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ } أصحاب المشأمة { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } أصحاب الميمنة { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرٰتِ } السابقون من الناس كلهم . وقال المبرد إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها ، والآخرة حقها . وقال الحسن الظالم الذي ترجح سيآته على حسناته ، والمقتصد الذي استوت حسناته ، وسيآته ، والسابق من رجحت حسناته على سيآته . وقال مقاتل الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد ، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة ، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة . وحكى النحاس أن الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته ، فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير ، قال وهذا قول جماعة من أهل النظر ، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى . وقال الضحاك . فيهم ظالم لنفسه ، أي من ذرّيتهم ظالم لنفسه . وقال سهل بن عبد الله السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم لنفسه الجاهل . وقال ذو النون المصري الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال ابن عطاء الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحقّ . وقيل الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار ، والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة ، والسابق الذي يعبده لا لسبب . وقيل الظالم الذي يحبّ نفسه ، والمقتصد الذي يحبّ دينه ، والسابق الذي يحبّ ربه . وقيل الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف ، وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف وقد ذكر الثعلبي ، وغيره أقوالاً كثيرة ، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم ، والمقتصد ، والسابق معروفة ، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرّد إحرامها للحظ ، وتفويت ما هو خير لها ، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوّتها من الثواب ، وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه الله عنه ، فهو من هذه الحيثية من اصطفاه الله ، ومن أهل الجنة ، فلا إشكال في الآية ، ومن هذا قول آدم { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } الأعراف 23 ، وقول يونس { إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } الأنبياء 87 ، ومعنى المقتصد هو من يتوسط في أمر الدين ، ولا يميل إلى جانب الإفراط ، ولا إلى جانب التفريط ، وهذا من أهل الجنة ، وأما السابق ، فهو الذي سبق غيره في أمور الدين ، وهو خير الثلاثة . وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد ، وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه ، والسابق أفضل منهما ، فقيل إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله { لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ } الحشر 20 ، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشرّ على أهل الخير ، وتقديم المفضولين على الفاضلين . وقيل وجه التقديم هنا أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل ، والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقلّ قليل ، فقدّم الأكثر على الأقلّ ، والأوّل أولى ، فإن الكثرة بمجرّدها لا تقتضي تقديم الذكر . وقد قيل في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به . والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى توريث الكتاب ، والاصطفاء . وقيل إلى السبق بالخيرات ، والأوّل أولى ، وهو مبتدأ ، وخبره { هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } أي الفضل الذي لا يقادر قدره . وارتفاع { جَنَّـٰتِ عَدْنٍ } على أنها مبتدأ ، وما بعدها خبرها ، أو على البدل من الفضل ، لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب ، وعلى هذا ، فتكون جملة { يَدْخُلُونَهَا } مستأنفة ، وقد قدّمنا أن الضمير في يدخلونها يعود إلى الأصناف الثلاثة ، فلا وجه لقصره على الصنف الأخير ، وقرأ زرّ بن حبيش ، والترمذي جنة بالإفراد ، وقرأ الجحدري جنات بالنصب على الاشتغال ، وجوّز أبو البقاء أن تكون جنات خبراً ثانياً لاسم الإشارة ، وقرأ أبو عمرو يدخلونها على البناء للمفعول ، وقوله { يُحَلَّوْنَ } خبر ثان لجنات عدن ، أو حال مقدّرة ، وهو من حليت المرأة ، فهي حال ، وفيه إشارة إلى سرعة الدخول ، فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول ، فلما قال { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } أشار أن دخولهم على وجه السرعة { مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } " من " الأولى تبعيضية ، والثانية بيانية ، أي يحلون بعض أساور كائنة من ذهب ، والأساور جمع أسورة جمع سوار ، وانتصاب { لُؤْلُؤاً } بالعطف على محل { مِنْ أَسَاوِرَ } وقرىء بالجرّ عطفاً على ذهب { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } قد تقدّم تفسير الآية مستوفى في سورة الحج . { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } قرأ الجمهور { الحزن } بفتحتين . وقرأ جناح بن حبيش بضمّ الحاء ، وسكون الزاي . والمعنى أنهم يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة . قال قتادة حزن الموت . وقال عكرمة حزن السيئات والذنوب ، وخوف ردّ الطاعات . وقال القاسم حزن زوال النعم ، وخوف العاقبة . وقيل حزن أهوال يوم القيامة . وقال الكلبي ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة . وقال سعيد بن جبير همّ الخبز في الدنيا . وقيل همّ المعيشة . وقال الزجاج أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش ، أو معاد . وهذا أرجح الأقوال ، فإن الدنيا ، وإن بلغ نعيمها أيّ بلغ لا تخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان ، وخصوصاً أهل الإيمان ، فإنهم لا يزالون وجلين من عذاب الله خائفين من عقابه ، مضطربي القلوب في كل حين ، هل تقبل أعمالهم أو تردّ ؟ حذرين من عاقبة السوء ، وخاتمة الشرّ ، ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة . وأما أهل العصيان فهم ، وإن نفس عن خناقهم قليلاً في حياة الدنيا التي هي دار الغرور ، وتناسوا دار القرار يوماً من دهرهم ، فلا بدّ أن يشتدّ وجلهم ، وتعظم مصيبتهم ، وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت ، وقربوا من منازل الآخرة ، ثم إذا قبضت أرواحهم ، ولاح لهم ما يسؤوهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غماً ، وحزناً ، فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة ، وأدخلهم الجنة ، فقد أذهب عنهم أحزانهم ، وأزال غمومهم ، وهمومهم { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } أي غفور لمن عصاه ، شكور لمن أطاعه . { ٱلَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ } أي دار الإقامة التي يقام فيها أبداً ، ولا ينتقل عنها تفضلاً منه ورحمة . { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } أي لا يصيبنا في الجنة عناء ، ولا تعب ، ولا مشقة { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } ، وهو الإعياء من التعب ، والكلال من النصب . وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } قال الأبيض ، والأحمر ، والأسود ، وفي قوله { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ } قال طرائق { بَيْضٌ } يعني الألوان . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال الغربيب الأسود الشديد السواد . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ } قال طرائق تكون في الجبل بيض { وَحُمْرٌ } فتلك الجدد { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } قال جبال سود { وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَابّ وَٱلأَنْعَـٰمِ } قال { كَذٰلِكَ } اختلاف الناس ، والدوّابّ ، والأنعام كاختلاف الجبال ، ثم قال { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء } قال فصل لما قبلها . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء } قال العلماء بالله الذين يخافونه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عدّي عن ابن مسعود قال ليس العلم من كثرة الحديث ، ولكن العلم من الخشية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، والطبراني عنه قال كفى بخشية الله علماً ، وكفى باغترار بالله جهلاً . وأخرج أحمد في الزهد عنه أيضاً قال ليس العلم بكثرة الرواية ، ولكن العلم الخشية . وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله . وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف نزلت فيه { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } قال هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزل ، فظالمهم مغفور له ، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب . وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ أنه قال في هذه الآية { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرٰتِ } قال " هٰؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم يدخلون الجنة " وفي إسناده رجلان مجهولان . قال الإمام أحمد في مسنده قال حدّثنا شعبة عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدّث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد . وأخرج الفريابي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرٰتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ } فأما الذين سبقوا ، فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب . وأما الذين اقتصدوا ، فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً . وأما الذين ظلموا أنفسهم ، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته ، فهم الذين يقولون { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } " إلى آخر الآية . قال البيهقي إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً . ا . هـ ، وفي إسناد أحمد محمد بن إسحاق ، وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول ، لأنه رواه من طريق الأعمش ، عن رجل ، عن أبي ثابت ، عن أبي الدرداء ، ورواه ابن جرير ، عن الأعمش قال ذكر أبو ثابت . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن عوف بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أمتي ثلاثة أثلاث فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، ثم يدخلون الجنة ، وثلث يمحصون ، ويكشفون ، ثم تأتي الملائكة ، فيقولون وجدناهم يقولون لا إلٰه إلاّ الله وحده ، فيقول الله أدخلوهم الجنة بقولهم لا إلٰه إلاّ الله وحده ، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب ، وهي التي قال الله { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } العنكبوت 13 ، وتصديقها في التي ذكر في الملائكة . قال الله تعالى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } فجعلهم ثلاثة أفواج . فمنهم ظالم لنفسه ، فهذا الذي يكشف ، ويمحص ، ومنهم مقتصد ، وهو الذي يحاسب حساباً يسيراً . ومنهم سابق بالخيرات ، فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب ، بإذن الله يدخلونها جميعاً " قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث غريب جدًّا ا هـ . وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً ، ويجب المصير إليها ، ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر ، ويؤيدها ما أخرجه الطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد { فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ } الآية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلهم من هذه الأمة ، وكلهم في الجنة " وما أخرجه الطيالسي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم ، وابن مردويه عن عقبة بن صهبان قال قلت لعائشة أرأيت قول الله { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ } الآية ، قالت أما السابق ، فمن مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشهد له بالجنة . وأما المقتصد ، فمن تبع آثارهم ، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم . وأما الظالم لنفسه ، فمثلي ، ومثلك ، ومن اتبعنا ، وكلّ في الجنة . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يشركوا ، فيقول الربّ أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي ، ثم قرأ { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ } الآية . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا نزع بهذه الآية { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ } قال ألا إن سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له . وأخرجه العقيلي ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث من وجه آخر عنه مرفوعاً . وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعاً . وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله ، والظالم لنفسه ، وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عثمان بن عفان أنه نزع بهذه الآية ، ثم قال ألا إن سابقنا أهل جهادنا ، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا ، ألا وإن ظالمنا أهل بدونا . وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله { فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ } الآية قال أشهد على الله أنه يدخلهم جميعاً الجنة . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن مردويه عنه قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } قال كلهم ناج ، وهي هذه الأمة . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، عن ابن عباس في الآية قال هي مثل التي في الواقعة { أصحاب الميمنة } ، و { أصحاب المشأمة } . و { السابقون } صنفان ناجيان ، وصنف هالك . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه في قوله { فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ } قال هو الكافر ، والمقتصد أصحاب اليمين . وهذا المرويّ عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني ، ولا يوافق ما قدّمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن جماعة من الصحابة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعباً عن هذه الآية ، فقال نجوا كلهم ، ثم قال تحاكت مناكبهم ، وربّ الكعبة ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم ، وقد قدّمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين ، فتعارضت الأقوال عنه . وأخرج الترمذي ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله { جَنَّـٰتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } ، فقال إن عليهم التيجان ، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } الآية قال هم قوم في الدنيا يخافون الله ، ويجتهدون له في العبادة سرًّا ، وعلانية ، وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم ، فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت ، فعندها { قَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } غفر لنا العظيم ، وشكر لنا القليل من أعمالنا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه في الآية قال حزن النار .