Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 13-27)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَـٰبَ ٱلقَرْيَةِ } قد تقدّم الكلام على نظير هذا في سورة البقرة ، وسورة النمل ، والمعنى اضرب لأجلهم مثلاً ، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً ، أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية ، فعلى الأوّل لما قال تعالى { إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } يسۤ 3 وقال { لِتُنذِرَ قَوْماً } يسۤ 6 قال قل لهم ما أنا بدعا من الرسل ، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون ، وأنذروهم بما أنذرتكم ، وذكروا التوحيد ، وخوّفوا بالقيامة ، وبشروا بنعيم دار الإقامة . وعلى الثاني لما قال إن الإنذار لا ينفع من أضله الله ، وكتب عليه أنه لا يؤمن ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم اضرب لنفسك ، ولقومك مثلاً أي مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل ، ولم يؤمنوا ، وصبر الرسل على الإيذاء ، وأنت جئت إليهم واحداً ، وقومك أكثر من قوم الثلاثة ، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية ، وأنت بعثتك إلى الناس كافة . والمعنى واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، فترك المثل ، وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب . وقيل لا حاجة إلى الإضمار ، بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً على أن يكون { مثلاً } و { أصحاب القرية } مفعولين لاضرب ، أو يكون أصحاب القرية بدلاً من مثلاً ، وقد قدّمنا الكلام على المفعول الأوّل من هذين المفعولين هل هو مثلاً ، أو أصحاب القرية . وقد قيل إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَةَ نُوحٍ وَٱمْرَأَة لُوطٍ } التحريم 10 ، ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة ، وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيره لها كما في قوله { وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } إبراهيم 45 أي بينا لكم أحوالاً بديعة غريبة هي في الغرابة كالأمثال فقوله سبحانه هنا { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً } يصح اعتبار الأمرين فيه . قال القرطبي هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين . وقوله { إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } بدل اشتمال من أصحاب القرية ، والمرسلون هم أصحاب عيسى ، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدّعاء إلى الله ، فأضاف الله سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ } ، لأن عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه ، ويجوز أن يكون الله أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء ، فكذبوهما في الرسالة ، وقيل ضربوهما ، وسجنوهما . قيل واسم الاثنين يوحنا ، وشمعون . وقيل أسماء الثلاثة صادق ، ومصدوق ، وشلوم قاله ابن جرير ، وغيره . وقيل سمعان ، ويحيـى ، وبولس { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } قرأ الجمهور بالتشديد ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الزاي . قال الجوهري « فعزّزنا » يخفف ، ويشدّد أي قوّينا ، وشدّدنا ، فالقراءتان على هذا بمعنى . وقيل التخفيف بمعنى غلبنا ، وقهرنا ، ومنه { وَعَزَّنِى فِى ٱلْخِطَابِ } صۤ 23 والتشديد بمعنى قوّينا وكثرنا . قيل وهذا الثالث هو شمعون ، وقيل غيره { فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } أي قال الثلاثة جميعاً ، وجاؤوا بكلامهم هذا مؤكداً لسبق التكذيب للاثنين ، والتكذيب لهما تكذيب للثالث ، لأنهم أرسلوا جميعاً بشيء واحد ، وهو الدعاء إلى الله عزّ وجلّ ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل ما قال هؤلاء الرّسل بعد التعزيز لهم بثالث ؟ وكذلك جملة { قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل فما قال لهم أهل أنطاكية ، فقيل قالوا ما أنتم إلاّ بشر مثلنا أي مشاركون لنا في البشرية ، فليس لكم مزية علينا تختصون بها . ثم صرّحوا بجحود إنزال الكتب السماوية ، فقالوا { وَمَا أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَىْء } مما تدّعونه أنتم ، ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل ، وأتباعهم { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } أي ما أنتم إلاّ تكذبون في دعوى ما تدّعون من ذلك ، فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكد تأكيداً بليغاً لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية ، وهو قولهم { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } ، فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم ربنا يعلم ، وبإنّ ، وباللام . { وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ } أي ما يجب علينا من جهة ربنا إلاّ تبليغ رسالته على وجه الظهور ، والوضوح ، وليس علينا غير ذلك ، وهذه الجملة مستأنفة كالتي قبلها ، وكذلك جملة { قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } ، فإنها مستأنفة جواباً عن سؤال مقدّر أي إنا تشاءمنا بكم ، لم تجدوا جواباً تجيبون به على الرسل إلاّ هذا الجواب المبنيّ على الجهل المنبىء عن الغباوة العظيمة ، وعدم وجود حجة تدفعون الرسل بها . قال مقاتل حبس عنهم المطر ثلاث سنين . قيل إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين ، ثم رجعوا إلى التجبر ، والتكبر لما ضاقت صدورهم ، وأعيتهم العلل ، فقالوا { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ } أي لئن لم تتركوا هذه الدعوى ، وتعرضوا عن هذه المقالة لنرجمنّكم بالحجارة { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي شديد فظيع . قال الفرّاء عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل . وقال قتادة هو على بابه من الرجم بالحجارة . قيل ومعنى العذاب الأليم القتل ، وقيل الشتم ، وقيل هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص ، وهذا هو الظاهر . ثم أجاب عليهم الرسل دفعاً لما زعموه من التطير بهم فقالوا { طَـٰئِرُكُم مَّعَكُمْ } أي شؤمكم معكم من جهة أنفسكم ، لازم في أعناقكم ، وليس هو من شؤمنا . قال الفراء { طائركم معكم } أي رزقكم وعملكم ، وبه قال قتادة . قرأ الجمهور { طائركم } اسم فاعل أي ما طار لكم من الخير ، والشرّ ، وقرأ الحسن " أطيركم " أي تطيركم { أَءن ذُكّرْتُم } . قرأ الجمهور من السبعة ، وغيرهم بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتحقيق ، وإدخال ألف بين الهمزتين ، وعدمه . وقرأ أبو جعفر ، وزرّ بن حبيش ، وابن السميفع ، وطلحة بهمزتين مفتوحتين . وقرأ الأعمش ، وعيسى بن عمر ، والحسن « أين » بفتح الهمزة ، وسكون الياء على صيغة الظرف . واختلف سيبويه ، ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب ؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام ، وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط ، وعلى القولين ، فالجواب هنا محذوف أي أئن ذكرتم ، فطائركم معكم لدلالة ما تقدّم عليه . وقرأ الماجشون " أن ذكرتم " بهمزة مفتوحة أي لأن ذكرتم . ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام ، والشرط من كون التذكير سبباً للشؤم ، فقالوا { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أي ليس الأمر كذلك ، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية . قال قتادة مسرفون في تطيركم . وقال يحيـى بن سلام مسرفون في كفركم ، وقال ابن بحر السرف هنا الفساد ، والإسراف في الأصل مجاوزة الحاء في مخالفة الحقّ . { وَجَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ } هو حبيب بن موسى النجار ، وكان نجاراً ، وقيل إسكافاً . وقيل قصاراً . وقال مجاهد ، ومقاتل هو حبيب بن إسرائيل النجار ، وكان ينحت الأصنام . وقال قتادة كان يعبد الله في غار ، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى ، وجملة { قَالَ يَـاقَوْم ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل فماذا قال لهم عند مجيئه ؟ فقيل قال يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم ، فإنهم جاءوا بحق . ثم أكد ذلك ، وكرّره ، فقال { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْـئَلُكُمْ أَجْراً } أي لا يسألونكم أجراً على ما جاؤوكم به من الهدى { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } يعني الرسل . ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه ، وهو يريد مناصحة قومه ، فقال { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِى فَطَرَنِى } أي أيّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني ؟ ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه ، بل أرادهم بكلامه ، فقال { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ولم يقل إليه أرجع ، وفيه مبالغة في التهديد . ثم عاد إلى المساق الأوّل لقصد التأكيد ، ومزيد الإيضاح ، فقال { أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةً } ، فجعل الإنكار متوجهاً إلى نفسه . وهم المرادون به أي أتخذ من دون الله آلهة ، وأعبدها ، وأترك عبادة من يستحق العبادة ، وهو الذي فطرني . ثم بيّن حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكاراً عليهم ، وبياناً لضلال عقولهم ، وقصور إدراكهم ، فقال { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شَفَـٰعَتُهُمْ شَيْئاً } أي شيئاً من النفع كائناً ما كان { وَلاَ يُنقِذُونَ } من ذلك الضرّ الذي أرادني الرحمٰن به . وهذه الجملة صفة لآلهة ، أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع ، والدفع ، وقوله { لاَّ تُغْنِ } جواب الشرط ، وقرأ طلحة بن مصرّف " إن يردني " بفتح الياء ، قال { إِنّى إِذاً لَّفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } أي إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح ، وهذا تعريض بهم كما سبق ، والضلال الخسران . ثم صرّح بإيمانه تصريحاً لا يبقى بعده شكّ ، فقال { إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } خاطب بهذا الكلام المرسلين . قال المفسرون أرادوا القوم قتله ، فأقبل هو على المرسلين ، فقال إني آمنت بربكم أيها الرسل ، فاسمعون أي اسمعوا إيماني ، واشهدوا لي به . وقيل إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلباً في الدين ، وتشدّداً في الحقّ ، فلما قال هذا القول ، وصرّح بالإيمان ، وثبوا عليه ، فقتلوه ، وقيل وطئوه بأرجلهم ، وقيل حرقوه ، وقيل حفروا له حفيرة ، وألقوه فيها ، وقيل إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء ، فهو في الجنة ، وبه قال الحسن ، وقيل نشروه بالمنشار . { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } أي قيل له ذلك تكريماً له بدخولها بعد قتله كما هي سنّة الله في شهداء عباده . وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ، ولم يقتل يكون المعنى أنهم لما أرادوا قتله نجاه الله من القتل ، وقيل له ادخل الجنة ، فلما دخلها ، وشاهدها { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، أي فماذا قال بعد أن قيل له ادخل الجنة ، فدخلها . فقيل قال { يا ليت قومي } إلخ ، " وما " في { بِمَا غَفَرَ لِى } هي المصدرية أي بغفران ربي ، وقيل هي الموصولة أي بالذي غفر لي ربي ، والعائد محذوف أي غفره لي ربي ، واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة ، وليس المراد إلاّ التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له . وقال الفراء إنها استفهامية بمعنى التعجب ، كأنه قال بأيّ شيء غفر لي ربي . قال الكسائي لو صح هذا لقال " بم " من غير ألف . ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها ، وإن كان مكسوراً بالنسبة إلى حذفها ، ومنه قول الشاعر @ على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في دمان @@ وفي معنى تمنيه قولان أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله ، وحميد عاقبته إرغاماً لهم . وقيل إنه تمنى أن يعلموا بذلك ليؤمنوا مثل إيمانه ، فيصيروا إلى مثل حاله . وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَـٰبَ ٱلقَرْيَةِ } قال هي أنطاكية . وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله . وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال كان بين موسى بن عمران ، وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة ، ولم يكن بينهما فترة ، وأنه أرسل بينهما ألف نبيّ من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم ، وكان بين ميلاد عيسى ، والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة ، بعث في أوّلها ثلاثة أنبياء ، وهو قوله { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } ، والذي عزّز به شمعون ، وكان من الحواريين ، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله { طَـٰئِرُكُم مَّعَكُمْ } قال شؤمكم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَجَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ } قال هو حبيب النجار . وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر ، قال اسم صاحب يسۤ حبيب ، وكان الجذام قد أسرع فيه . وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال لما قال صاحب يسۤ { يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } خنقوه ليموت ، فالتفت إلى الأنبياء ، فقال { إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } أي فاشهدوا لي .