Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 20-49)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَقَالُواْ يٰوَيْلَنَا } أي قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا يا ويلنا ، دعوا بالويل على أنفسهم . قال الزجاج الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، وقال الفراء إن أصله يا وي لنا ، ووي بمعنى الحزن كأنه قال يا حزن لنا . قال النحاس ولو كان كما قال لكان منفصلاً ، وهو في المصحف متصل ، ولا نعلم أحداً يكتبه إلا متصلاً ، وجملة { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدّينِ } تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم ، والدين الجزاء ، فكأنهم قالوا هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا من الكفر ، والتكذيب للرسل ، فأجاب عليهم الملائكة بقولهم { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } ، ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض ، والفصل الحكم ، والقضاء لأنه يفصل فيه بين المحسن ، والمسيء . وقوله { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوٰجَهُمْ } هو أمر من الله سبحانه للملائكة بأن يحشروا المشركين ، وأزواجهم ، وهم أشباههم في الشرك ، والمتابعون لهم في الكفر ، والمشايعون لهم في تكذيب الرسل ، كذا قال قتادة ، وأبو العالية . وقال الحسن ، ومجاهد المراد بأزواجهم نساؤهم المشركات الموافقات لهم على الكفر ، والظلم . وقال الضحاك أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كلّ كافر مع شيطانه ، وبه قال مقاتل { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } من الأصنام ، والشياطين ، وهذا العموم المستفاد من " ما " الموصولة ، فإنها عبارة عن المعبودين ، لا عن العابدين ، كما قيل - مخصوص لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح ، ومنهم من عبد الملائكة ، فيخرجون بقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } الأنبياء 101 ، ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها ، وتخجيلهم ، وإظهار أنها لا تنفع ، ولا تضرّ . { فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرٰطِ ٱلْجَحِيمِ } أي عرّفوا هؤلاء المحشورين طريق النار ، وسوقوهم إليها ، يقال هديته الطريق ، وهديته إليها ، أي دللته عليها ، وفي هذا تهكم بهم . { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } أي احبسوهم ، يقال وقفت الدابة أقفها وقفاً ، فوقفت هي وقوفاً يتعدّى ، ولا يتعدّى ، وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم ، أي وقفوهم للحساب ، ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك ، وجملة { إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } تعليل للجملة الأولى . قال الكلبي أي مسئولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم . وقال الضحاك عن خطاياهم ، وقيل عن لا إلٰه إلاّ الله ، وقيل عن ظلم العباد ، وقيل هذا السؤال هو المذكور بعد هذا بقوله { مَا لَكُمْ لاَ تَنَـٰصَرُونَ } أي أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا ، وهذا توبيخ لهم ، وتقريع وتهكم بهم ، وأصله تتناصرون ، فطرحت إحدى التاءين تخفيفاً . قرأ الجمهور { إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } بكسر الهمزة ، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها . قال الكسائي أي لأنهم ، أو بأنهم ، وقيل الإشارة بقوله { مَا لَكُمْ لاَ تَنَـٰصَرُونَ } إلى قول أبي جهل يوم بدر { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } القمر 44 . ثم أضرب سبحانه عما تقدّم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك ، فقال { بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } أي منقادون لعجزهم عن الحيلة . قال قتادة مستسلمون في عذاب الله . وقال الأخفش ملقون بأيديهم ، يقال استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع . { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } أي أقبل بعض الكفار على بعض يتساءلون . قيل هم الأتباع ، والرّؤساء يسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة . وقال مجاهد هو قول الكفار للشياطين . وقال قتادة هو قول الإنس للجنّ ، والأوّل أولى لقوله { قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ } أي كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين ، أي من جهة الحقّ ، والدين ، والطاعة ، وتصدّونا عنها . قال الزجاج كنتم تأتوننا من قبل الدين ، فتروننا أن الدين ، والحق ما تضلوننا به ، واليمين عبارة عن الحق ، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن إبليس { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ } الأعراف 17 قال الواحدي قال أهل المعاني إن الرّؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق ، فوثقوا بأيمانهم فمعنى { تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ } أي من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها ، فوثقنا بها . قال والمفسرون على القول الأوّل . وقيل المعنى تأتوننا عن اليمين التي نحبها ، ونتفاءل بها ، لتغرّونا بذلك عن جهة النصح ، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين ، وتسميه السانح . وقيل اليمين بمعنى القوّة ، أي تمنعوننا بقوّة ، وغلبة ، وقهر كما في قوله { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ } الصافات 93 أي بالقوّة ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، وكذلك جملة { قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدّر والمعنى أنه قال الرؤساء ، أو الشياطين لهؤلاء القائلين كنتم تأتوننا عن اليمين بل لم تكونوا مؤمنين ، ولم نمنعكم من الإيمان . والمعنى أنكم لم تكونوا مؤمنين قطّ حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر ، بل كنتم من الأصل على الكفر ، فأقمتم عليه . { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ } من تسلط بقهر ، وغلبة حتى ندخلكم في الإيمان ، ونخرجكم من الكفر { بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَـٰغِينَ } أي متجاوزين الحدّ في الكفر ، والضلال ، وقوله { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ } من قول المتبوعين ، أي وجب علينا ، وعليكم ، ولزمنا قول ربنا ، يعنون قوله تعالى { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } صۤ 85 إنا لذائقو العذاب ، أي إنا جميعاً لذائقو العذاب الذي ورد به الوعيد . قال الزجاج أي إن المضلّ ، والضّال في النار { فَأَغْوَيْنَـٰكُمْ } أي أضللناكم عن الهدى ، ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغيّ ، وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر { إِنَّا كُنَّا غَـٰوِينَ } فلا عتب علينا في تعرّضنا لإغوائكم لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية ومعنى الآية أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية ، فأقرّوا ها هنا بأنهم تسببوا لإغوائهم ، لكن لا بطريق القهر ، والغلبة ، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم ، وغلبوهم ، فقالوا { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ } . ثم أخبر الله سبحانه عن الأتباع ، والمتبوعين بقوله { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } كما كانوا مشتركين في الغواية { إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ } أي إنا نفعل مثل ذلك الفعل بالمجرمين ، أي أهل الإجرام ، وهم المشركون كما يفيده قوله سبحانه { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } أي إذا قيل لهم قولوا لا إلٰه إلاّ الله يستكبرون عن القبول ، ومحل يستكبرون النصب على أنه خبر كان ، أو الرفع على أنه خبر إن ، وكان ملغاة { وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } يعنون النبي صلى الله عليه وسلم ، أي لقول شاعر مجنون ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله { بَلْ جَاء بِٱلْحَقّ } يعني القرآن المشتمل على التوحيد ، والوعد ، والوعيد { وَصَدَّقَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي صدّقهم فيما جاءوا به من التوحيد ، والوعيد ، وإثبات الدار الآخرة ، ولم يخالفهم ، ولا جاء بشيء لم تأت به الرسل قبله { إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } أي إنكم بسبب شرككم ، وتكذيبكم لذائقوا العذاب الشديد الألم . قرأ الجمهور { لذائقوا } بحذف النون ، وخفض العذاب ، وقرأ أبان بن ثعلب عن عاصم ، وأبو السماك بحذفها ، ونصب العذاب ، وأنشد سيبويه في مثل هذه القراءة بالحذف للنون ، والنصب للعذاب قول الشاعر @ فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلاً @@ وأجاز سيبويه أيضاً " والمقيمي الصلاة " بنصب الصلاة على هذا التوجيه . وقد قرىء بإثبات النون ، ونصب العذاب على الأصل . ثم بيّن سبحانه أن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم ، فقال { وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي إلا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر ، والمعاصي ، أو إلا بما كنتم تعملون . ثم استثنى المؤمنين فقال { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } . قرأ أهل المدينة ، والكوفة { المخلصين } بفتح اللام ، أي الذين أخلصهم الله لطاعته ، وتوحيده . وقرأ الباقون بكسرها ، أي الذين أخلصوا لله العبادة ، والتوحيد ، والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في { تجزون } لجميع المكلفين . أو منقطع ، أي لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب ، والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } إلى المخلصين ، وهو مبتدأ ، وخبره قوله { لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ } أي لهؤلاء المخلصين رزق يرزقهم الله إياه معلوم في حسنه ، وطيبه ، وعدم انقطاعه . قال قتادة يعني الجنة ، وقيل معلوم الوقت ، وهو أن يعطوا منه بكرة ، وعشية كما في قوله { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } مريم 62 وقيل هو المذكور في قوله بعده { فَوٰكِهُ } فإنه بدل من { رزق } ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو فواكه ، وهذا هو الظاهر . والفواكه جمع الفاكهة ، وهي الثمار كلها رطبها ، ويابسها ، وخصص الفواكه بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل . والأولى أن يقال إن تخصيصها بالذكر لأنها أطيب ما يأكلونه ، وألذّ ما تشتهيه أنفسهم . وقيل إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة ، فذكرها يغني عن ذكر غيرها ، وجملة { وَهُم مُّكْرَمُونَ } في محل نصب على الحال ، أي ولهم من الله عزّ وجلّ إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده ، وسماع كلامه ، ولقائه في الجنة . قرأ الجمهور { مكرمون } بتخفيف الراء . وقرأ أبو مقسم بتشديدها ، وقوله { فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ } يجوز أن يتعلق بـ { مكرمون } ، وأن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً ، وقوله { عَلَىٰ سُرُرٍ } يحتمل أن يكون حالاً ، وأن يكون خبراً ثالثاً ، وانتصاب { مُّتَقَـٰبِلِينَ } على الحالية من الضمير في { مكرمون } ، أو من الضمير في متعلق على { سرر } . قال عكرمة ، ومجاهد معنى التقابل أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعض ، وقيل إنها تدور بهم الأسرّة كيف شاءوا ، فلا يرى بعضهم قفا بعض . قرأ الجمهور { سرر } بضم الراء . وقرأ أبو السماك بفتحها ، وهي لغة بعض تميم . ثم ذكر سبحانه صفة أخرى لهم ، فقال { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ } ، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة جواباً عن سؤال مقدّر ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير { متقابلين } ، والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكلّ إناء فيه الشراب ، فإن كان فارغاً ، فليس بكأس . وقال الضحاك ، والسدّي كل كأس في القرآن ، فهي الخمر . قال النحاس وحكى من يوثق به من أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر كأس ، فإذا لم يكن فيه خمر ، فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام مائدة ، فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة ، و { من معين } متعلق بمحذوف هو صفة لكأس . قال الزجاج { بكأس من معين } ، أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض . والمعين الماء الجاري ، وقوله { بَيْضَاء لَذَّةٍ لّلشَّـٰرِبِينَ } صفتان لكأس . قال الزجاج أي ذات لذّة ، فحذف المضاف ، ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذّة ، فلا يحتاج إلى تقدير المضاف . قال الحسن خمر الجنة أشدّ بياضاً من اللبن له لذّة لذيذة ، يقال شراب لذّ ، ولذيذ كما يقال نبات غضّ وغضيض ، ومنه قول الشاعر @ بحديثها اللذّ الذي لو كلمت أسد الفلاة به أتين سراعا @@ واللذيذ كل شيء مستطاب ، وقيل البيضاء هي التي لم يعتصرها الرجال . ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا ، فقال { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } أي لا تغتال عقولهم ، فتذهب بها ، ولا يصيبهم منها مرض ، ولا صداع { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } أي يسكرون ، يقال نزف الشارب ، فهو منزوف ، ونزيف إذا سكر ، ومنه قول امرىء القيس @ وإذا هي تمشي كمشي النزيـ ـف يصرعه بالكثيب البهر @@ وقال أيضاً @ نزيف إذا قامت لوجه تمايلت @@ ومنه قول الآخر @ فلثمت فاها آخذاً بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج @@ قال الفراء العرب تقول ليس فيها غيلة ، وغائلة ، وغول سواء . وقال أبو عبيدة الغول أن تغتال عقولهم ، وأنشد قول مطيع بن إياس @ وما زالت الكأس تغتالهم وتذهب بالأوّل الأوّل @@ وقال الواحدي الغول حقيقته الإهلاك ، يقال غاله غولاً ، واغتاله ، أي أهلكه ، والغول كل ما اغتالك ، أي أهلكك . قرأ الجمهور { ينزفون } بضم الياء ، وفتح الزاي مبنياً للمفعول . وقرأ حمزة ، والكسائي بضم الياء ، وكسر الزاي من أنزف الرجل إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ، ومنزوف ، ومنزف ، يقال أحصد الزرع إذا حان حصاده ، وأقطف الكرم إذا حان قطافه . قال الفراء من كسر الزاي ، فله معنيان ، يقال أنزف الرجل إذا فنيت خمره ، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر ، وتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة . قال النحاس والقراءة الأولى أبين ، وأصحّ في المعنى لأن معنى { لا ينزفون } عند جمهور المفسرين لا تذهب عقولهم ، فنفى الله عزّ وجلّ عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع ، والسكر . وقال الزجاج ، وأبو علي الفارسي معنى لا ينزفون بكسر الزاي لا يسكرون . قال المهدوي لا يكون معنى ينزفون يسكرون ، لأن قبله { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } أي لا تغتال عقولهم ، فيكون تكريراً ، وهذا يقوّي ما قاله قتادة إن الغول وجع البطن ، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد . وقال الحسن إن الغول الصداع . وقال ابن كيسان هو المغص ، فيكون معنى الآية لا فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص ، أو وجع بطن ، أو صداع ، أو عربدة ، أو لغو ، أو تأثيم ، ولا هم يسكرون منها . ويؤيد هذا أن أصل الغول الفساد الذي يلحق في خفاء ، يقال اغتاله اغتيالاً إذا أفسد عليه أمره في خفية ، ومنه الغول ، والغيلة القتل خفية . وقرأ ابن أبي إسحاق " ينزفون " بفتح الياء ، وكسر الزاي . وقرأ طلحة بن مصرّف بفتح الياء وضم الزاي . ولما ذكر سبحانه صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم ، فقال { وَعِندَهُمْ قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ } أي نساء قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ ، فلا يردن غيرهم ، والقصر معناه الحبس ، ومنه قول امرىء القيس @ من القاصرات الطرف لو دب محول من الذرّ فوق الأتب منها لأثرا @@ والمحول الصغير من الذرّ ، والأتب القميص ، وقيل القاصرات المحبوسات على أزواجهنّ ، والأوّل أولى لأنه قال قاصرات الطرف . ولم يقل مقصورات . والعين عظام العيون جمع عيناء ، وهي الواسعة العين . قال الزجاج معنى { عِينٌ } كبار الأعين حسناها . وقال مجاهد العين حسان العيون . وقال الحسن هنّ الشديدات بياض العين الشديدات سوادها . والأوّل أولى { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } قال الحسن ، وأبو زيد شبههنّ ببيض النعام تكنها النعامة بالريش من الريح ، والغبار . فلونه أبيض في صفرة ، وهو أحسن ألوان النساء . وقال سعيد بن جبير ، والسدّي شبههنّ ببطن البيض قبل أن يقشر ، وتمسه الأيدي ، وبه قال ابن جرير ، ومنه قول امرىء القيس @ وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل @@ قال المبرد وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن ، والنظافة كأنه بيض النعام المغطى بالريش . وقيل المكنون المصون عن الكسر ، أي إنهنّ عذارى ، وقيل المراد بالبيض اللؤلؤ كما في قوله { وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَـٰلِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } الواقعة 22 ، 23 ومثله قول الشاعر @ وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوّا ص ميزت من جوهر مكنون @@ والأوّل أولى ، وإنما قال { مكنون } ، ولم يقل مكنونات لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوٰجَهُمْ } قال تقول الملائكة للزبانية هذا القول . وأخرج عبد الرّزّاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن منيع في مسنده ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث من طريق النعمان بن بشير ، عن عمر بن الخطاب في قوله { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوٰجَهُمْ } قال أمثالهم الذين هم مثلهم ، يجيء أصحاب الرّبا مع أصحاب الرّبا ، وأصحاب الزّنا مع أصحاب الزّنا ، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر ، أزواج في الجنة ، وأزواج في النار . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوٰجَهُمْ } قال أشباههم ، وفي لفظ نظراءهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله { فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرٰطِ ٱلْجَحِيمِ } قال وجهوهم ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال دلوهم { إِلَىٰ صِرٰطِ ٱلْجَحِيمِ } قال طريق النار . وأخرج عنه أيضاً في قوله { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } قال احبسوهم إنهم محاسبون . وأخرج البخاري في تاريخه ، والدارمي ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً معه يوم القيامة لازماً به لا يفارقه ، وإن دعا رجل رجلاً " ثم قرأ { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُون } . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } قال ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله { كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } قال كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون ، { وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } لا يعقل ، قال فحكى الله صدقه ، فقال { بَلْ جَاء بِٱلْحَقّ وَصَدَّقَ ٱلْمُرْسَلِينَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلٰه إلاّ الله ، فمن قال لا إلٰه إلاّ الله ، فقد عصم مني ماله ، ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله " وأنزل الله في كتابه ، وذكر قوماً استكبروا ، فقال { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } ، وقال { إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } الفتح 26 وهي لا إلٰه إلاّ الله محمد رسول الله ، استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية الهدنة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ } قال الخمر { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } قال ليس فيها صداع { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } قال لا تذهب عقولهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال في الخمر أربع خصال السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ، فنزّه الله خمر الجنة عنها ، فقال { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } لا تغول عقولهم من السكر { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } قال يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } قال هي الخمر ليس فيها وجع بطن . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عنه أيضاً في قوله { وَعِندَهُمْ قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ } يقول من غير أزواجهنّ { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } قال اللؤلؤ المكنون . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } قال بياض البيضة ينزع عنها فوفها ، وغشاؤها .