Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 75-113)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين ذكر تفصيل بعض ما أجمله ، فقال { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } واللام هي الموطئة للقسم ، وكذا اللام في قوله { فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ } أي نحن ، والمراد أن نوحاً دعا ربه على قومه لما عصوه ، فأجاب الله دعاءه ، وأهلك قومه بالطوفان . فالنداء هنا هو نداء الدعاء لله ، والاستغاثة به ، كقوله { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّاراً } نوح 26 ، وقوله { أَنّى مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } القمر 10 قال الكسائي أي فلنعم المجيبون له كنا { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } المراد بأهله أهل دينه ، وهم من آمن معه ، وكانوا ثمانين ، والكرب العظيم هو الغرق ، وقيل تكذيب قومه له ، وما يصدر منهم إليه من أنواع الأذايا { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ } وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل ، وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه ، ولم يبق منهم باقية ، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ، ولم يبق إلا أولاده . قال سعيد بن المسيب كان ولد نوح ثلاثة ، والناس كلهم من ولد نوح ، فسام أبو العرب ، وفارس ، والروم ، واليهود ، والنصارى . وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب السند . والهند ، والنوب ، والزنج ، والحبشة ، والقبط ، والبربر وغيرهم . ويافث أبو الصقالب ، والترك ، والخزر ، ويأجوج ، ومأجوج وغيرهم . وقيل إنه كان لمن مع نوح ذرّية كما يدلّ عليه قوله { ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } الإسراء 3 ، وقوله { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَـٰمٍ مّنَّا وَبَركَـٰتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } هود 48 ، فيكون على هذا معنى { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ } ، وذرّيته وذرّية من معه دون ذرّية من كفر ، فإن الله أغرقهم ، فلم يبق لهم ذرّية . { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلآخِرِينَ } يعني في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم ، والمتروك هذا هو قوله { سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ } أي تركنا هذا الكلام بعينه ، وارتفاعه على الحكاية ، والسلام هو الثناء الحسن ، أي يثنون عليه ثناءً حسناً ، ويدعون له ، ويترحمون عليه . قال الزجاج تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة ، وذلك الذكر هو قوله { سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ } . قال الكسائي في ارتفاع { سلام } ، وجهان أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال سلام على نوح . والوجه الثاني أن يكون المعنى وأبقينا عليه ، وتمّ الكلام ، ثم ابتدأ ، فقال سلام على نوح ، أي سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين . قال المبرد أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية ، يعني يسلمون عليه تسليماً ، ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي كقوله { سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا } النور 1 ، وقيل إنه ضمن تركنا معنى قلنا . قال الكوفيون جملة { سلام على نوح في العالمين } في محل نصب مفعول { تركنا } ، لأنه ضمن معنى قلنا . قال الكسائي وفي قراءة ابن مسعود " سلاماً " منصوب بتركنا ، أي تركنا عليه ثناءً حسناً ، وقيل المراد بالآخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم . و { في العالمين } متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبراً ، وهو على نوح ، أي سلام ثابت ، أو مستمرّ ، أو مستقرّ على نوح في العالمين من الملائكة ، والجنّ ، والإنس ، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قيل { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه ، وبقاء الثناء من الله عليه ، وبقاء ذريته ، أي إنا كذلك نجزي من كان محسناً في أقواله ، وأفعاله راسخاً في الإحسان معروفاً به ، والكاف في { كذلك } نعت مصدر محذوف ، أي جزاء كذلك الجزاء { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } هذا بيان لكونه من المحسنين ، وتعليل له بأنه كان عبداً مؤمناً مخلصاً لله { ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } أي الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ، ولا صدّقوا نوحاً . ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم ، وبيّن أنه ممن شايع نوحاً ، فقال { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرٰهِيمَ } أي من أهل دينه ، وممن شايعه ، ووافقه على الدعاء إلى الله ، وإلى توحيده ، والإيمان به . قال مجاهد أي على منهاجه ، وسنّته . قال الأصمعي الشيعة الأعوان ، وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد ، وقال الفراء المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم ، فالهاء في شيعته على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال الكلبي . ولا يخفى ما في هذا من الضعف ، والمخالفة للسياق . والظرف في قوله { إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } منصوب بفعل محذوف ، أي اذكر ، بما في الشيعة من معنى المتابعة . قال أبو حيان لا يجوز لأن فيه الفصل بين العامل ، والمعمول بأجنبيّ ، وهو إبراهيم ، والأولى أن يقال إن لام الابتدء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها ، والقلب السليم المخلص من الشرك ، والشك . وقيل هو الناصح لله في خلقه ، وقيل الذي يعلم أن الله حقّ ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور . ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين أحدهما عند دعائه إلى توحيده ، وطاعته . الثاني عند إلقائه في النار . وقوله { إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } بدل من الجملة الأولى ، أو ظرف لسليم ، أو ظرف لجاء ، والمعنى وقت قال لأبيه آزر ، وقومه من الكفار أيّ شيء تعبدون { أَإِفْكا ءالِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا } انتصاب " إفكاً " على أنه مفعول لأجله ، وانتصاب { آلهة } على أنه مفعول { تريدون } ، والتقدير أتريدون آلهة من دون الله للإفك ، و { دون } ظرف لـ { تريدون } ، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام . وقيل انتصاب " إفكاً " على أنه مفعول به لـ { تريدون } ، و { آلهة } بدل منه ، جعلها نفس الإفك مبالغة ، وهذا أولى من الوجه الأوّل . وقيل انتصابه على الحال من فاعل { تريدون } أي أتريدون آلهة آفكين ، أو ذوي إفك . قال المبرد الإفك أسوأ الكذب ، وهو الذي لا يثبت ويضطرب ، ومنه ائتفكت بهم الأرض { فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي ما ظنكم به إذا لقيتموه ، وقد عبدتم غيره ، وما ترونه يصنع بكم ؟ وهو تحذير مثل قوله { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ } الانفطار 6 وقيل المعنى أيّ شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره ؟ { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى ٱلنُّجُومِ * فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ } قال الواحدي قال المفسرون كانوا يتعاطون علم النجوم ، فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة ، وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه ، وأراد أن يتخلف عنهم ، فاعتلّ بالسقم وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ، فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدلّ بها على حاله ، فلما نظر إليها قال إني سقيم ، أي سأسقم . وقال الحسن إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل ، فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي ، أي فيما طلع له منه ، فعلم أن كلّ شيء يسقم { فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ } . قال الخليل ، والمبرد يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره نظر في النجوم . وقيل كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى . وقال الضحاك معنى { إني سقيم } سأسقم سقم الموت ، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ، ثم يموت ، وهذا تورية ، وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارّة هي أختي يعني أخوّة الدين . وقال سعيد بن جبير أشار لهم إلى مرض يسقم ، ويعدي ، وهو الطاعون ، وكانوا يهربون من ذلك ، ولهذا قال { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي تركوه ، وذهبوا مخافة العدوى { فَرَاغَ إِلَىٰ ءالِهَتِهِمْ } يقال راغ يروغ روغاً ، وروغاناً إذا مال ، ومنه طريق رائغ ، أي مائل . ومنه قول الشاعر @ فيريك من طرف اللسان حلاوة ويروغ عنك كما يروغ الثعلب @@ وقال السدّي ذهب إليهم ، وقال أبو مالك جاء إليهم ، وقال الكلبي أقبل عليهم ، والمعنى متقارب { فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } أي فقال إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاء ، وسخرية ألا تأكلون من الطعام الذي كانوا يصنعونه لها ، وخاطبها كما يخاطب من يعقل لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة . وكذا قوله { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } ، فإنه خاطبهم خطاب من يعقل ، والاستفهام للتهكم بهم لأنه قد علم أنها جمادات لا تنطق . قيل إنهم تركوا عند أصنامهم طعامهم للتبرك بها ، وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم . وقيل تركوه للسدنة ، وقيل إن إبراهيم هو الذي قرب إليها الطعام مستهزئاً بها . { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ } أي فمال عليهم يضربهم ضرباً باليمين ، فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أو هو مصدر لراغ ، لأنه بمعنى ضرب . قال الواحدي قال المفسرون يعني بيده اليمنى يضربهم بها . وقال السدي بالقوة ، والقدرة لأن اليمين أقوى اليدين . قال الفراء ، وثعلب ضرباً بالقوة ، واليمين القوة . وقال الضحاك ، والربيع بن أنس المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَـٰمَكُمْ } الأنبياء 57 وقيل المراد باليمين هنا العدل كما في قوله { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } الحاقة 44 ، 45 أي بالعدل ، واليمين كناية عن العدل كما أن الشمال كناية عن الجور ، وأول هذه الأقوال أولاها . { فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون لما علموا بما صنعه بها ، ويزفون في محل نصب على الحال من فاعل أقبلوا . قرأ الجمهور { يزفون } بفتح الياء من زف الظليم يزف إذا عدا بسرعة ، وقرأ حمزة بضم الياء من أزف يزف ، أي دخل في الزفيف ، أو يحملون غيرهم على الزفيف . قال الأصمعي أزففت الإبل ، أي حملتها على أن تزف . وقيل هما لغتان ، يقال زف القوم ، وأزفوا ، وزفت العروس ، وأزففتها ، حكي ذلك عن الخليل . قال النحاس زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة ، يعني يزفون بضم الياء ، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء ، وشبهها بقولهم أطردت الرحل ، أي صيرته إلى ذلك ، وقال المبرد الزفيف الإسراع . وقال الزجاج الزفيف أوّل عدو النعام . وقال قتادة ، والسدّي معنى يزفون يمشون . وقال الضحاك يسعون . وقال يحيـى بن سلام يرعدون غضباً . وقال مجاهد يختالون ، أي يمشون مشيء الخيلاء ، وقيل يتسللون تسللاً بين المشي ، والعدو ، والأولى تفسير يزفون بيسرعون ، وقرىء " يزفون " على البناء للمفعول ، وقرىء " يزفون " كيرمون . وحكى الثعلبي عن الحسن ، ومجاهد ، وابن السميفع أنهم قرءوا " يرفون " بالراء المهملة ، وهي ركض بين المشي والعدو . { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } لما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام ، ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها ، فقال مبكتاً لهم ، ومنكراً عليهم { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي أتعبدون أصناماً أنتم تنحتونها ، والنحت النجر ، والبري ، نحته ينحته بالكسر نحتاً ، أي براه ، والنحاتة البراية ، وجملة { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } في محل نصب على الحال من فاعل تعبدون ، و « ما » في { وَمَا تَعْمَلُونَ } موصولة ، أي وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولاً أولياً ، ويكون معنى العمل هنا التصوير ، والنحت ، ونحوهما ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي خلقكم ، وخلق عملكم ، ويجوز أن تكون استفهامية ، ومعنى الاستفهام التوبيخ ، والتقريع ، أي وأي شيء تعملون ، ويجوز أن تكون نافية ، أي إن العمل في الحقيقة ليس لكم ، فأنتم لا تعملون شيئاً ، وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال إنها مصدرية ، ولكن بما لا طائل تحته ، وجعلها موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام . وجملة { قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَـٰناً فَأَلْقُوهُ فِى ٱلْجَحِيمِ } مستأنفة جواب سؤال مقدر كالجملة التي قبلها ، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة ، فتشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له حائطاً من حجارة ، ويملؤوه حطباً ويضرموه ، ثم يلقوه فيه ، والجحيم النار الشديدة الاتقاد قال الزجاج ، وكل نار بعضها فوق بعض ، فهي جحيم ، واللام في الجحيم عوض عن المضاف إليه ، أي في جحيم ذلك البنيان ، ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها ، وجعلها عليه برداً وسلاماً ، وهو معنى قوله { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـٰهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ } الكيد المكر ، والحيلة ، أي احتالوا لإهلاكه ، فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ، ولا يمكنهم جحدها ، فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها برداً وسلاماً ، ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل ، وصار المنكر له سافلاً ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف ، وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحاً ، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير . ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي عينين ، وظهرت حجة الله لإبراهيم ، وقامت براهين نبوته ، وسطعت أنوار معجزته { وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى } أي مهاجر من بلد قومي ، الذين فعلوا ما فعلوا تعصباً للأصنام ، وكفراً بالله ، وتكذيباً لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه ، أو إلى حيث أتمكن من عبادته { سَيَهْدِينِ } أي سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه ، أو إلى مقصدي . قيل إن الله سبحانه أمره بالمصير إلى الشام ، وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى ، قال مقاتل فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد ، فقال { رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ } أي ولداً صالحاً من الصالحين يعينني على طاعتك ، ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون ، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد ، فتحمل عند الإطلاق عليه ، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَـٰرُونَ نَبِيّاً } مريم 53 ، وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد ، فقوله { فَبَشَّرْنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِيمٍ } يدل على أنه ما أراد بقوله { رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ } إلا الولد ، ومعنى حليم أن يكون حليماً عند كبره ، فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر ، ويصير حليماً ، لأن الصغير لا يوصف بالحلم . قال الزجاج هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر ، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ، ويوصف بالحلم { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ } في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة ، والتقدير فوهبنا له الغلام ، فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه . قال مجاهد { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ } أي شبّ ، وأدرك سعيه سعي إبراهيم . وقال مقاتل لما مشى معه . قال الفراء كان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة . وقال الحسن هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة . وقال ابن زيد هو السعي في العبادة ، وقيل هو الاحتلام { قَالَ يَـابَنِى إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ } قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ إني رأيت في المنام هذه الرؤيا . قال مقاتل رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات . قال قتادة رؤيا الأنبياء حقّ ، إذا رأوا شيئاً فعلوه . وقد اختلف أهل العلم في الذبيح هل هو إسحاق ، أو إسماعيل ؟ قال القرطبي فقال أكثرهم الذبيح إسحاق ، وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب ، وابنه عبد الله ، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود ، ورواه أيضاً عن جابر ، وعليّ بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وعمر بن الخطاب ، قال فهؤلاء سبعة من الصحابة . قال ومن التابعين ، وغيرهم علقمة ، والشعبي ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وكعب الأحبار ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، والقاسم بن أبي برزة ، وعطاء ، ومقاتل ، وعبد الرحمٰن بن سابط ، والزهري ، والسدّي ، وعبد الله بن أبي الهذيل ، ومالك بن أنس كلهم قالوا الذبيح إسحاق ، وعليه أهل الكتابين اليهود ، والنصارى ، واختاره غير واحد ، منهم النحاس ، وابن جرير الطبري ، وغيرهما . قال وقال آخرون هو إسماعيل ، وممن قال بذلك أبو هريرة ، وأبو الطفيل عامر ابن واثلة ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس أيضاً ، ومن التابعين سعيد بن المسيب ، والشعبي ، ويوسف بن مهران ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وعلقمة ، وعن الأصمعي قال سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ، ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة . قال ابن كثير في تفسيره وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق ، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة ، وليس في ذلك كتاب ، ولا سنّة ، وما أظنّ ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب ، وأخذ مسلماً من غير حجة ، وكتاب الله شاهد ، ومرشد إلى أنه إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم ، وذكر أنه الذبيح ، وقال بعد ذلك { وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } ا هـ . واحتجّ القائلون بأنه إسحاق بأن الله عزّ وجلّ قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه ، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارّة ، وابن أخيه لوط ، فقال { إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى سَيَهْدِينِ } أنه دعا ، فقال { رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ } ، فقال تعالى { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } مريم 49 . ولأن الله قال { وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ، فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم ، وإنما بشر بإسحاق ، لأنه قال { وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ } ، وقال هنا { بِغُلَـٰمٍ حَلِيمٍ } وذلك قبل أن يعرف هاجر ، وقبل أن يصير له إسماعيل ، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق . قال الزجاج الله أعلم أيهما الذبيح ا هـ . وما استدلّ به الفريقان يمكن الجواب عنه ، والمناقشة له . ومن جملة ما احتجّ به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله { وَإِسْمَـٰعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَذَا ٱلْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } الأنبياء 85 ، وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله { إِنَّهُ كَانَ صَـٰدِقَ ٱلْوَعْدِ } مريم 54 لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح ، فوفى به ، ولأن الله سبحانه قال { وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً } فكيف يأمره بذبحه ، وقد وعده أن يكون نبياً ، وأيضاً فإن الله قال { فَبَشَّرْنَـٰهَا بِإِسْحَـٰقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَـٰقَ يَعْقُوبَ } هود 71 ، فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب ، وأيضاً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أن الذبيح إسماعيل ، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس ، وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة { فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } قرأ حمزة ، والكسائي " ترى " بضم الفوقية ، وكسر الراء ، والمفعولان محذوفان ، أي انظر ماذا تريني إياه من صبرك ، واحتمالك . وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء ، والراء من الرأي ، وهو مضارع رأيت ، وقرأ الضحاك ، والأعمش ، " ترى " بضم التاء ، وفتح الراء مبنياً للمفعول ، أي ماذا يخيل إليك ، ويسنح لخاطرك . قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى انظر ماذا ترى من صبرك ، وجزعك . قال الزجاج لم يقل هذا أحد غيره . وإنما قال العلماء ماذا تشير ، أي ما تريك نفسك من الرأي ، وقال أبو عبيد إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة ، وكذا قال أبو حاتم ، وغلطهما النحاس وقال هذا يكون من رؤية العين ، وغيرها ، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح ، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله ، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي ، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم . { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } أي ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي ، و " ما " موصولة ، وقيل مصدرية على معنى افعل أمرك ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، وتسمية المأمور به أمراً ، والأوّل أولى { سَتَجِدُنِى إِن شَاء ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } على ما ابتلاني به من الذبح ، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركاً بها منه { فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي استسلما لأمر الله ، وأطاعاه ، وانقادا له . قرأ الجمهور " أسلمنا " ، وقرأ عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباس " فلما سلما " أي فوضا أمرهما إلى الله ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ " استسلما " قال قتادة أسلم أحدهما نفسه لله ، وأسلم الآخر ابنه ، يقال سلم لأمر الله ، وأسلم ، واستسلم بمعنى واحد . وقد اختلف في جواب " لما " ماذا هو ؟ فقيل هو محذوف ، وتقديره ظهر صبرهما ، أو أجزلنا لهما أجرهما ، أو فديناه بكبش ، هكذا قال البصريون . وقال الكوفيون الجواب هو { ناديناه } ، والواو زائدة مقحمة ، واعترض عليهم النحاس بأن الواو من حروف المعاني ، ولا يجوز أن تزاد ، وقال الأخفش الجواب { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } ، والواو زائدة ، وروي هذا أيضاً عن الكوفيين ، واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأوّل { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } التلّ الصرع والدفع ، يقال تللت الرجل إذا ألقيته ، والمراد أنه أضجعه على جبينه على الأرض ، والجبين أحد جانبي الجبهة ، فللوجه جبينان ، والجبهة بينهما ، وقيل كبه على وجهه كيلا يرى منه ما يؤثر الرّقة لقلبه . واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه ، فقيل هو مكة في المقام . وقيل في المنحر بمنى عند الجمار . وقيل على الصخرة التي بأصل جبل ثبير ، وقيل بالشام . { وَنَـٰدَيْنَـٰهُ أَن يٰإِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا } أي عزمت على الإتيان بما رأيته . قال المفسرون لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا ، وجعله مصدّقاً بمجرد العزم ، وإن لم يذبحه لأنه قد أتى بما أمكنه ، والمطلوب استسلامهما لأمر الله ، وقد فعلا . قال القرطبي قال أهل السنّة إن نفس الذبح لم يقع ، ولو وقع لم يتصور رفعه ، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء . قال ومعنى { صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا } فعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك ، هذا أصح ما قيل في هذا الباب . وقالت طائفة ليس هذا مما ينسخ بوجه لأن معنى ذبحت الشيء قطعته ، وقد كان إبراهيم يأخذ السكين ، فيمرّ بها على حلقه ، فتنقلب كما قال مجاهد . وقال بعضهم كان كلما قطع جزءًا التأم ، وقالت طائفة منهم السدّي ضرب الله على عنقه صفيحة نحاس ، فجعل إبراهيم يحزّ ، ولا يقطع شيئاً . وقال بعضهم إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج ، وإنهار الدم ، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح ، فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي ، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له { قد صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد ، والسلامة من المحن ، فالجملة كالتعليل لما قبلها . قال مقاتل جزاه الله سبحانه بإحسانه في طاعته ، العفو عن ذبح ابنه . { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ } البلاء ، والابتلاء الاختبار ، والمعنى إن هذا هو الاختبار الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ولده . وقيل المعنى إن هذا لهو النعمة الظاهرة حيث سلم الله ولده من الذبح ، وفداه بالكبش ، يقال أبلاه الله إبلاءً وبلاء إذا أنعم عليه والأوّلى أولى ، وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير ، والشرّ ، ومنه { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } الأنبياء 35 ، ولكن المناسب للمقام المعنى الأول . قال أبو زيد هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ولده . قال وهذا من البلاء المكروه { وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } الذبح اسم المذبوح ، وجمعه ذبوح كالطحن اسم للمطحون ، وبالفتح المصدر ، ومعنى عظيم عظيم القدر ، ولم يرد عظم الجثة ، وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح ، أو لأنه متقبل . قال النحاس العظيم في اللغة يكون للكبير ، وللشريف ، وأهل التفسير على أنه ها هنا للشريف ، أي المتقبل . قال الواحدي قال أكثر المفسرين أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً . وقال الحسن ما فدي إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير ، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه . قال الزجاج قد قيل إنه فدي بوعل ، والوعل التيس الجبلي ، ومعنى الآية جعلنا الذبح فداء له ، وخلصناه به من الذبح { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلآخِرِينَ * سَلَـٰمٌ عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } أي في الأمم الآخرة التي تأتي بعده ، والسلام الثناء الجميل . وقال عكرمة سلام منا ، وقيل سلامة من الآفات ، والكلام في هذا كالكلام في قوله { سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِى ٱلْعَـٰلَمِينَ } وقد تقدم في هذه السورة بيان معناه ، ووجه إعرابه . { كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من انقاد لأمر الله . { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي الذين أعطوا العبودية حقها ، ورسخوا في الإيمان بالله ، وتوحيده { وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } أي بشرنا إبراهيم بولد يولد له ، ويصير نبياً بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك ، وانتصاب { نبياً } على الحال ، وهي حال مقدرة . قال الزجاج إن كان الذبيح إسحاق ، فيظهر كونها مقدرة ، والأولى أن يقال إن من فسر الذبيح بإسحاق جعل البشارة . هنا خاصة بنبوته . وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه ، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة ، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط ، وإنما الشرط المقارنة للفعل ، و { مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } كما يجوز أن يكون صفة لنبياً ، يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه ، فتكون أحوالاً متداخلة { وَبَـٰرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَـٰقَ } أي على إبراهيم ، وعلى إسحاق بمرادفة نعم الله عليهما . وقيل كثرنا ولدهما ، وقيل إن الضمير في { عليه } يعود إلى إسماعيل ، وهو بعيد ، وقيل المراد بالمباركة هنا هي الثناء الحسن عليهما إلى يوم القيامة { وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ } أي محسن في عمله بالإيمان ، والتوحيد ، وظالم لها بالكفر ، والمعاصي لما ذكر سبحانه البركة في الذرية بيّن أن كون الذرية من هذا العنصر الشريف ، والمحتد المبارك ليس بنافع لهم ، بل إنما ينتفعون بأعمالهم لآبائهم ، فإن اليهود ، والنصارى ، وإن كانوا من ولد إسحاق ، فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال البين ، والعرب ، وإن كانوا من ولد إسماعيل ، فقد ماتوا على الشرك إلا من أنقذه الله بالإسلام . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ } يقول لم يبق إلا ذرية نوح { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلآخِرِينَ } يقول يذكر بخير . وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن سمرة بن جندب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ } قال حام ، وسام ، ويافث . وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، والترمذي وحسنه ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن سمرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم " والحديثان هما من سماع الحسن عن سمرة ، وفي سماعه منه مقال معروف ، وقد قيل إنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة فقط ، وما عداه فبواسطة . قال ابن عبد البرّ وقد روي عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، والخطيب في تالي التلخيص عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولد نوح ثلاثة سام ، وحام ، ويافث ، فولد سام العرب ، وفارس ، والروم ، والخير فيهم ، وولد يافث يأجوج ، ومأجوج ، والترك ، والصقالبة ، ولا خير فيهم ، وولد حام القبط ، والبربر ، والسودان " وهو من حديث إسماعيل بن عياش ، عن يحيـى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب عنه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرٰهِيمَ } قال من أهل دينه . وأخرج عبد بن حميد عنه في قوله { إِنّى سَقِيمٌ } قال مريض . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال مطعون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } قال يخرجون . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله { وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبّى } قال حين هاجر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ } قال العمل . وأخرج الطبراني عنه أيضاً قال لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق قال لأبيه إذا ذبحتني ، فاعتزل لا أضطرب ، فينتضح عليك دمي ، فشده ، فلما أخذ الشفرة ، وأراد أن يذبحه نودي من خلفه { أَن يٰإِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا } وأخرج أحمد عنه أيضاً مرفوعاً مثله مع زيادة . وأخرجه عنه موقوفاً . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضاً في قوله { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرٰهِيمَ } قال من شيعة نوح على منهاجه ، وسننه { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَ } قال شب حتى بلغ سعيه سعي أبيه في العمل { فَلَمَّا أَسْلَمَا } سلما ما أمر به { وَتَلَّهُ } وضع وجهه إلى الأرض . فقال لا تذبحني ، وأنت تنظر عسى أن ترحمني ، فلا تجهز علي . وأن أجزع ، فأنكص ، فأمتنع منك . ولكن اربط يدي إلى رقبتي ، ثم ضع وجهي إلى الأرض ، فلما أدخل يده ليذبحه ، فلم تصل المدية حتى نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، فأمسك يده ، قوله { وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } بكبش عظيم متقبل . وزعم ابن عباس أن الذبيح إسماعيل . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رؤيا الأنبياء وحي " وأخرجه البخاري ، وغيره من قول عبيد بن عمير ، واستدل بهذه الآية . وأخرج ابن جرير ، والحاكم من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال المفدى إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق الشعبي ، عن ابن عباس قال الذبيح إسماعيل . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد ، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال الذبيح إسماعيل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير من طريق يوسف بن ماهك ، وأبي الطفيل ، عن ابن عباس قال الذبيح إسماعيل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن ابن عمر في قوله { وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال إسماعيل ذبح عنه إبراهيم الكبش . وأخرج عبد بن حميد من طريق الفرزدق الشاعر قال رأيت أبا هريرة يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول إن الذي أمر بذبحه إسماعيل . وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال نبي الله داود يا رب أسمع الناس يقولون رب إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، فاجعلني رابعاً ، قال إن إبراهيم ألقي في النار ، فصبر من أجلي ، وإن إسحاق جاد لي بنفسه ، وإن يعقوب غاب عنه يوسف ، وتلك بلية لم تنلك " وفي إسناده الحسن بن دينار البصري ، وهو متروك عن علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف . وأخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه . وأخرج الدارقطني في الأفراد ، والديلمي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذبيح إسحاق " وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الذبيح إسحاق " وأخرج ابن مردويه ، عن أبي هريرة مرفوعاً مثله . وأخرج ابن مردويه عن بهار ، وكانت له صحبة ، قال إسحاق ذبيح الله . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس ؟ قال " يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله " وأخرج عبد الرزاق ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال الذبيح إسحاق . وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال الذبيح إسحاق . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الذبيح إسحاق . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } قال أكبه على وجهه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال صرعه للذبح . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب في قوله { وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال كبش أعين أبيض أقرن قد ربط بسمرة في أصل ثبير . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً . وأخرج عبد بن حميد عنه قال فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس أن رجلاً قال نذرت لأنحر نفسي ، فقال ابن عباس لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، ثم تلا { وَفَدَيْنَـٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ، فأمره بكبش ، فذبحه . وأخرج الطبراني من طريق أخرى عنه نحوه . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله { وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } قال إنما بشر به نبياً حين فداه الله من الذبح ، ولم تكن البشارة بالنبوّة عند مولده . وبما سقناه من الاختلاف في الذبيح هل هو إسحاق ، أو إسماعيل ؟ وما استدل به المختلفون في ذلك تعلم أنه لم يكن في المقام ما يوجب القطع ، أو يتعين رجحانه تعيناً ظاهراً ، وقد رجح كل قول طائفة من المحققين المنصفين كابن جرير ، فإنه رجح أنه إسحاق ، ولكنه لم يستدل على ذلك إلا ببعض مما سقناه ها هنا ، وكابن كثير فإنه رجح أنه إسماعيل ، وجعل الأدلة على ذلك أقوى ، وأصح ، وليس الأمر كما ذكره ، فإنها إن لم تكن دون أدلة القائلين بأن الذبيح إسحاق لم تكن فوقها ، ولا أرجح منها ، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء . وما روي عنه ، فهو إما موضوع ، أو ضعيف جدًّا . ولم يبق إلا مجرّد استنباطات من القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ، وهي محتملة ، ولا تقوم حجة بمحتمل ، فالوقف هو الذي لا ينبغي مجاوزته ، وفيه السلامة من الترجيح ، بلا مرجح ، ومن الاستدلال بما هو محتمل .