Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 49-61)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ } المراد بالإنسان هنا الجنس باعتبار بعض أفراده ، أو غالبها . وقيل المراد به الكفار فقط ، والأوّل أولى ، ولا يمنع من حمله على الجنس خصوص سببه ، لأن الاعتبار بعموم اللفظ ، وفاء بحقّ النظم القرآني ، ووفاء بمدلوله ، والمعنى أن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه ضرّ من مرض ، أو فقر ، أو غيرهما دعا الله ، وتضرع إليه في رفعه ، ودفعه { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَـٰهُ نِعْمَةً مّنَّا } أي أعطيناه نعمة كائنة من عندنا { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } مني بوجوه المكاسب ، أو على خير عندي ، أو على علم من الله بفضلي . وقال الحسن على علم علمني الله إياه . وقيل قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة ، وجاء بالضمير في أوتيته مذكراً مع كونه راجعاً إلى النعمة لأنها بمعنى الإنعام . وقيل إن الضمير عائد إلى ما ، وهي موصولة ، والأوّل أولى { بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } هذا ردّ لما قاله ، أي ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت ، بل هو محنة لك ، واختبار لحالك أتشكر أم تكفر ؟ قال الفراء أنث الضمير في قوله « هي » لتأنيث الفتنة ، ولو قال بل هو فتنة لجاز . وقال النحاس بل عطيته فتنة . وقيل تأنيث الضمير باعتبار لفظ الفتنة ، وتذكير الأوّل في قوله { أُوتِيتُهُ } باعتبار معناها { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن ذلك استدراج لهم من الله ، وامتحان لما عندهم من الشكر ، أو الكفر . { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي قال هذه الكلمة التي قالوها ، وهي قولهم إنما أوتيته على علم الذين من قبلهم كقارون ، وغيره ، فإن قارون قال { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِى } القصص 78 { فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يجوز أن تكون " ما " هذه نافية ، أي لم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئاً ، وأن تكون استفهامية ، أي أيّ شيء أغنى عنهم ذلك { فَأَصَـٰبَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي جزاء سيئات كسبهم ، أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم ، وسمي الجزاء سيئات لوقوعها في مقابلة سيئاتهم ، فيكون ذلك من باب المشاكلة كقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } الشورى 40 . ثم أوعد سبحانه الكفار في عصره ، فقال { وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـؤُلاَء } الموجودين من الكفار { سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } كما أصاب من قبلهم ، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط ، والقتل ، والأسر ، والقهر { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي بفائتين على الله بل مرجعهم إليه يصنع بهم ما شاء من العقوبة . { أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء } أي يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه له { وَيَقْدِرُ } أي يقبضه لمن يشاء أن يقبضه ، ويضيقه عليه . قال مقاتل وعظهم الله ، ليعتبروا في توحيده ، وذلك حين مطروا بعد سبع سنين ، فقال أو لم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء ، ويقتر على من يشاء { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي في ذلك المذكور لدلالات عظيمة ، وعلامات جليلة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وخصّ المؤمنين لأنهم المنتفعون بالآيات المتفكرون فيها . ثم لما ذكر سبحانه ما ذكره من الوعيد عقبه بذكر سعة رحمته ، وعظيم مغفرته ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشرهم بذلك ، فقال { قُلْ ياعِبَادِي ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } المراد بالإسراف الإفراط في المعاصي ، والاستكثار منها ، ومعنى لا تقنطوا لا تيأسوا من رحمة الله من مغفرته . ثم لما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ، ويرفعه ، ويجعل الرجاء مكان القنوط ، فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } . واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أوّلاً أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي ، والاستكثار من الذنوب ، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب ، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى ، وبفحوى الخطاب ، ثم جاء بما لا يبقي بعده شك ، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظنّ ، فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ } ، فالألف ، واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده ، فهو في قوّة إن الله يغفر كلّ ذنب كائناً ما كان ، إلا ما أخرجه النصّ القرآني ، وهو الشرك { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } النساء 48 ، 116 ، ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله { جَمِيعاً } فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه ، الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظنّ بمن لا يتعاظمه ذنب ، ولا يبخل بمغفرته ، ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم ، وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلاً إنه هو الغفور الرحيم ، أي كثير المغفرة ، والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما ، فمن أبى هذا التفضل العظيم ، والعطاء الجسيم ، وظنّ أن تقنيط عباد الله ، وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به ، فقد ركب أعظم الشطط ، وغلط أقبح الغلط ، فإن التبشير ، وعدم التقنيط الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز ، والمسلك الذي سلكه رسوله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه من قوله " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا " وإذا تقرّر لك هذا ، فاعلم أن الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } النساء 48 ، 116 هو أن كلّ ذنب كائناً ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له ، على أنه يمكن أن يقال إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعاً يدل على أنه يشاء غفرانها جميعاً ، وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكلّ المذنبين من المسلمين ، فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية . وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة ، وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين ، وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات . فهو جمع بين الضب ، والنون ، وبين الملاح ، والحادي ، وعلى نفسها براقش تجني ، ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع ، فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين ، وقد قال { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } النساء 48 ، 116 ، فلو كانت التوبة قيداً في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة ، وقد قال سبحانه { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } الرعد 6 قال الواحدي المفسرون كلهم قالوا إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام ، كالشرك ، وقتل النفس ، ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم . قلت هب أنها في هؤلاء القوم ، فكان ماذا ؟ ، فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب كما هو متفق عليه بين أهل العلم ، ولو كانت الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة إن لم ترتفع كلها ، واللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله . وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين ، وغيرهما في هذا الباب ما إن عرفه المطلع عليه حقّ معرفته ، وقدره حقّ قدره علم صحة ما ذكرناه ، وعرف حقية ما حررناه . قرأ الجمهور { يا عبادي } بإثبات الياء ، وصلا ، ووقفا ، وروى أبو بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء . وقرأ الجمهور { تقنطوا } بفتح النون . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي بكسرها . { وَأَنِـيبُواْ إِلَىٰ رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي ارجعوا إليه بالطاعة لما بشرهم سبحانه بأنه يغفر الذنوب جميعاً ، أمرهم بالرجوع إليه بفعل الطاعات ، واجتناب المعاصي ، وليس في هذا ما يدلّ على تقييد الآية الأولى بالتوبة لا بمطابقة ، ولا تضمن ، ولا التزام ، بل غاية ما فيها أنه بشّرهم بتلك البشارة العظمى ، ثم دعاهم إلى الخير ، وخوّفهم من الشرّ على أنه يمكن أن يقال إن هذه الجملة مستأنفة خطاباً للكفار الذين لم يسلموا بدليل قوله { وَأَسْلِمُواْ لَهُ } جاء بها لتحذير الكفار ، وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى ، وتبشيرهم ، وهذا ، وإن كان بعيداً ، ولكنه يمكن أن يقال به ، والمعنى على ما هو الظاهر أن الله جمع لعباده بين التبشير العظيم ، والأمر بالإنابة إليه ، والإخلاص له ، والاستسلام لأمره ، والخضوع لحكمه . وقوله { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ } أي عذاب الدنيا كما يفيده قوله { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ } ، فليس في ذلك ما يدلّ على ما زعمه الزاعمون ، وتمسك به القانطون المقنطون ، والحمد لله رب العالمين . { وَٱتَّبِعُـواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُـمْ } يعني القرآن ، يقول أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، والقرآن كله حسن . قال الحسن التزموا طاعته ، واجتنبوا معاصيه . وقال السدّي الأحسن ما أمر الله به في كتابه . وقال ابن زيد يعني المحكمات ، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه . وقيل الناسخ دون المنسوخ . وقيل العفو دون الانتقام بما يحق فيه الانتقام . وقيل أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي من قبل أن يفاجئكم العذاب ، وأنتم غافلون عنه لا تشعرون به . وقيل أراد أنهم يموتون بغتة ، فيقعون في العذاب . والأوّل أولى ، لأن الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل ، والأسر ، والقهر ، والخوف ، والجدب ، لا عذاب الآخرة ، ولا الموت ، لأنه لم يسند الإتيان إليه . { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَىٰ يٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ٱللَّهِ } قال البصريون أي حذراً أن تقول . وقال الكوفيون لئلا تقول . قال المبرد بادروا خوف أن تقول ، أو حذراً من أن تقول نفس . وقال الزجاج خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله . قيل والمراد بالنفس هنا النفس الكافرة . وقيل المراد به التكثير كما في قوله { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } التكوير 14 قرأ الجمهور { يا حسرتا } بالألف بدلاً من الياء المضاف إليها ، والأصل يا حسرتي ، وقرأ ابن كثير يا حسرتاه بهاء السكت وقفا ، وقرأ أبو جعفر يا حسرتي بالياء على الأصل . والحسرة الندامة ، ومعنى { عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ٱللَّهِ } على ما فرّطت في طاعة الله ، قاله الحسن . وقال الضحاك على ما فرّطت في ذكر الله ، ويعني به القرآن ، والعمل به . وقال أبو عبيدة { فِى جَنبِ ٱللَّهِ } أي في ثواب الله . وقال الفراء الجنب القرب ، والجوار ، أي في قرب الله ، وجواره ، ومنه قوله { وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ } النساء 36 ، والمعنى على هذا القول ، على ما فرّطت في طلب جنب الله ، أي في طلب جواره ، وقربه ، وهو الجنة ، وبه قال ابن الأعرابي ، وقال الزجاج أي فرّطت في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده ، والإقرار بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا ، فالجنب بمعنى الجانب ، أي قصرت في الجانب الذي يؤدّي إلى رضا الله ، ومنه قول الشاعر @ للناس جنب والأمير جنب @@ أي الناس من جانب ، والأمير من جانب { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ } أي وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا ، ومحل الجملة النصب على الحال . قال قتادة لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِى لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك ، والمعاصي ، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة ، ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله { سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } الأنعام 148 ، فهي كلمة حقّ يريدون بها باطلاً . ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوا ، فقال { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَـرَّةً } أي رجعة إلى الدنيا { فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } المؤمنين بالله الموحدين له ، المحسنين في أعمالهم ، وانتصاب أكون إما لكونه معطوفاً على كرّة ، فإنها مصدر ، وأكون في تأويل المصدر كما في قول الشاعر @ للبس عباءة وتقرّ عيني أحبّ إليّ من لبس الشفوف @@ وأنشد الفرّاء على هذا @ فما لك منها غير ذكرى وخشية وتسأل عن ركبانها أين يمموا @@ وإما لكونه جواب التمني المفهوم من قوله { لَوْ أَنَّ لِى كَـرَّةً } . ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفس المتمنية المتعللة بغير علة ، فقال { بَلَىٰ قَدْ جَاءتْكَ ءايَـٰتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } . المراد بالآيات هي الآيات التنزيلية ، وهو القرآن ، ومعنى التكذيب بها قوله إنها ليس من عند الله ، وتكبر عن الإيمان بها ، وكان مع ذلك التكذيب ، والاستكبار من الكافرين بالله . وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله جاءتك ، وكذّبت ، واستكبرت ، وكنت ، لأن النفس تطلق على المذكر ، والمؤنث . قال المبرد تقول العرب نفس واحد ، أي إنسان واحد ، وبفتح التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور . وقرأ الجحدري ، وأبو حيوة ، ويحيـى بن يعمر بكسرها في جميعها ، وهي قراءة أبي بكر ، وابنته عائشة ، وأمّ سلمة ، ورويت عن ابن كثير { وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } ، أي ترى الذين كذبوا على الله بأن له شركاء ، وصاحبة ، وولدا وجوههم مسودّة لما أحاط بهم من العذاب ، وشاهدوه من غضب الله ، ونقمته ، وجملة { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } في محل نصب على الحال . قال الأخفش ترى غير عامل في وجوههم مسودّة ، إنما هو مبتدأ وخبر ، والأولى أن ترى إن كانت من الرؤية البصرية ، فجملة { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } حالية ، وإن كانت قلبية ، فهي في محل نصب على أنها المفعول الثاني لترى ، والاستفهام في قوله { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ } للتقرير ، أي أليس فيها مقام للمتكبرين عن طاعة الله ، والكبر هو بطر الحقّ ، وغمط الناس كما ثبت في الحديث الصحيح . { وَيُنَجّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } أي اتقوا الشرك ، ومعاصي الله ، والباء في { بِمَفَازَتِهِمْ } متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول ، أي ملتبسين بمفازتهم . قرأ الجمهور { بمفازتهم } بالإفراد على أنها مصدر ميميّ . والفوز الظفر بالخير ، والنجاة من الشرّ . قال المبرد المفازة مفعلة من الفوز ، وهو السعادة ، وإن جمع ، فحسن كقولك السعادة ، والسعادات . والمعنى ينجيهم الله بفوزهم ، أي بنجاتهم من النار ، وفوزهم بالجنة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر " بمفازاتهم " جمع مفازة ، وجمعها مع كونها مصدراً لاختلاف الأنواع ، وجملة { لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوء } في محل نصب على الحال من الموصول ، وكذلك جملة { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } في محل نصب على الحال ، أي ينفي السوء ، والحزن عنهم ، ويجوز أن تكون الباء في بمفازتهم للسببية ، أي بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم ، وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم لأنهم رضوا بثواب الله ، وأمنوا من عقابه . وقد أخرج ابن أبي حاتم - قال السيوطي بسند صحيح ، وابن مردويه عن ابن عباس قال أنزلت { قُلْ ياعِبَادِى ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ } الآية في مشركي أهل مكة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال كنا نقول ليس لمفتتن توبة ، وما الله بقابل منه شيئاً ، عرفوا الله ، وآمنوا به ، وصدقوا رسوله ، ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم ، وكانوا يقولونه لأنفسهم ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم { قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ } الآيات قال ابن عمر فكتبتها بيدي ، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي سعد قال لما أسلم وحشي أنزل الله { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } الفرقان 68 قال وحشيّ ، وأصحابه فنحن قد ارتكبنا هذا كله ، فأنزل الله { قُلْ ياعِبَادِى ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ } الآية . وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال « خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه ، وهم يضحكون ، ويتحدّثون ، فقال " والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً " ثم انصرف ، وأبكى القوم ، وأوحى الله إليه يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال " أبشروا ، وسدّدوا ، وقاربوا " وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب أنها نزلت ، فيمن أفتن . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوا إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك ، وقتل الأنفس ، وغير ذلك . وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ثوبان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما أحبّ أن لي الدنيا ، وما فيها بهذه الآية { قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } " إلى آخر الآية ، فقال رجل ومن أشرك ؟ ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، قال " ألا ، ومن أشرك ثلاث مرات " . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم ، وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم " وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه مرّ على قاض يذكر الناس ، فقال يا مذكر الناس لا تقنط الناس ، ثم قرأ { يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ } الآية . وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال قال عليّ أيّ آية أوسع ؟ ، فجعلوا يذكرون آيات من القرآن { وَمَن يَعْمَلْ سُوءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } النساء 11 الآية ، ونحوها ، فقال علي ما في القرآن أوسع آية من { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية قال قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله ، ومن زعم أن عزيراً ابن الله ، ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله مغلولة ، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } المائدة 74 ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولاً من هؤلاء من قال { أَنَا رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } النازعات 24 ، وقال { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى } القصص 38 قال ابن عباس ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا ، فقد جحد كتاب الله ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أَن تَقُولَ نَفْسٌ } قال أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا ، وعلمهم قبل أن يعلموا .