Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 15-18)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء ، وإيصال صدقاتهنّ إليهنّ ، وميراثهنّ مع الرجال ، ذكر التغليظ عليهنّ فيما يأتين به من الفاحشة لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهنّ ترك التعفف { وَٱللَّـٰتِى } جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ ، وفيه لغات اللاتي بإثبات التاء ، والياء ، واللات بحذف الياء ، وإبقاء الكسرة لتدل عليها ، واللائي بالهمزة والياء ، واللاء بكسر الهمزة ، وحذف الياء ، ويقال في جمع الجمع اللواتي ، واللوائي ، واللوات ، واللواء . والفاحشة الفعلة القبيحة ، وهي مصدر كالعافية ، والعاقبة ، وقرأ ابن مسعود " بالفاحشة " . والمراد بها هنا الزنا خاصة ، وإتيانها فعلها ، ومباشرتها . والمراد بقوله { مّن نِّسَائِكُمُ } المسلمات ، وكذا { مّنكُمْ } المراد به المسلمون . قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى ٱلْبُيُوتِ } كان هذا في أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله تعالى { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ } النور 2 وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور ، وكذلك الأذى باقيان مع الجلد ، لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن . قوله { أو يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " الحديث . قوله { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ } اللذان تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال اللذيان كرحيان . قال سيبويه حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة ، وبين الأسماء المبهمة . وقال أبو علي حذفت الياء تخفيفاً . وقرأ ابن كثير " اللذان " بتشديد النون ، وهي لغة قريش ، وفيه لغة أخرى ، وهي " اللذا " بحذف النون . وقرأ الباقون بتخفيف النون . قال سيبويه المعنى ، وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها أي الفاحشة منكم ودخلت الفاء في الجواب ، لأن في الكلام معنى الشرط . والمراد باللذان هنا الزاني ، والزانية تغليباً ، وقيل الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات ، والثانية في الرجال خاصة ، وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن ، ومن لم يحصن ، فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى ، واختار هذا النحاس ، ورواه عن ابن عباس ، ورواه القرطبي ، عن مجاهد ، وغيره ، واستحسنه . وقال السدي ، وقتادة ، وغيرهما الآية الأولى في النساء المحصنات ، ويدخل معهنّ الرجال المحصنون ، والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين ، ورجحه الطبري ، وضعفه النحاس وقال تغليب المؤنث على المذكر بعيد . وقال ابن عطية إن معنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه وقيل كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل ، فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ، ثم جمعاً في الإيذاء ، قال قتادة كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعاً . واختلف المفسرون في تفسير الأذى ، فقيل التوبيخ ، والتعيير ، وقيل السبّ ، والجفاء من دون تعيير ، وقيل النيل باللسان ، والضرب بالنعال ، وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس . وقيل ليس بمنسوخ كما تقدّم في الحبس . قوله { فَإِن تَابَا } أي من الفاحشة { وَأَصْلَحَا } العمل فيما بعد { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } أي اتركوهما وكفوا عنهما الأذى وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدّم من الخلاف . قوله { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ } استئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الاطلاق ، كما ينبىء عنه قوله { تَوَّاباً رَّحِيماً } بل إنما تقبل من البعض دون البعض ، كما بينه النظم القرآني ها هنا ، فقوله { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ } مبتدأ خبره قوله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ } . وقوله { عَلَى ٱللَّهِ } متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو متعلق بمحذوف وقع حالاً عند من يجوز تقديم الحال التي هي ظرف على عاملها المعنوي . وقيل المعنى إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده . وقيل المعنى إنما التوبة واجبة على الله ، وهذا على مذهب المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين . وقيل على هنا بمعنى عند ، وقيل بمعنى من . وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى { وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } النور 31 وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافاً للمعتزلة ، وقيل إن قوله { عَلَى ٱللَّهِ } هو الخبر . وقوله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ } متعلق بما تعلق به الخبر ، أو بمحذوف وقع حالاً . والسوء هنا العمل السيىء . وقوله { بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالاً ، أي يعملونها متصفين بالجهالة ، أو جاهلين . وقد حكى القرطبي ، عن قتادة أنه قال أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية ، فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً . وحكى عن الضحاك ، ومجاهد أن الجهالة هنا العمد ، وقال عكرمة أمور الدنيا كلها جهالة ، ومنه قوله تعالى { إِنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } محمد 36 وقال الزجاج معناه بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية . وقيل معناه أنهم لا يعلمون كنه العقوبة ، ذكره ابن فورك ، وضعفه ابن عطية . قوله { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } معناه قبل أن يحضرهم الموت ، كما يدل عليه قوله { حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } وبه قال أبو مجلز ، والضحاك ، وعكرمة ، وغيرهم ، والمراد قيل المعاينة للملائكة ، وغلبة المرء على نفسه ، و « من » في قوله { مِن قَرِيبٍ } للتبعيض ، أي يتوبون بعض زمان قريب ، وهو ما عدا وقت حضور الموت . وقيل معناه قبل المرض ، وهو ضعيف ، بل باطل لما قدمنا ، ولما أخرجه أحمد ، والترمذي ، وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " وقيل معناه يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار . قوله { فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم . وقوله { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ } تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ، ثم تاب من قريب . قوله { حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } " حتى " حرف ابتداء ، والجملة المذكورة بعدها غاية لما قبلها ، وحضور الموت حضور علاماته ، وبلوغ المريض إلى حالة السياق ، ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه ، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق ، وهي بلوغ روحه حلقومه ، قاله الهروي . وقوله { قَالَ إِنّى تُبْتُ ٱلآنَ } أي وقت حضور الموت . قوله { وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } معطوف على الموصول في قوله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ } أي ليست التوبة لأولئك ، ولا للذين يموتون ، وهم كفار مع أنه لا توبة لهم رأساً ، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت ، وأن وجودها كعدمها . وقد أخرج البزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن عباس في قوله { وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ } قال كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت ، فإن ماتت ماتت ، وإن عاشت عاشت ، حتى نزلت الآية في سورة النور { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ } النور 2 فجعل الله لهنّ سبيلاً . فمن عمل شيئاً جلد وأرسل ، وقد روى هذا عنه من وجوه ، وأخرج أبو داود في سننه عنه ، والبيهقي في قوله { وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ } إلى قوله { سَبِيلاً } ثم جمعهما جميعاً ، فقال { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ فَـئَاذُوهُمَا } ثم نسخ ذلك بآية الجلد ، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين ، أخرجه أبو داود ، والبيهقي ، عن مجاهد ، وأخرجه عبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة . وأخرجه البيهقي في سننه ، عن الحسن . وأخرجه ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير . وأخرجه ابن جرير عن السدي . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ } قال كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير ، وضرب بالنعال ، فأنزل الله بعد هذه الآية { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } النور 2 فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ } قال الرجلان الفاعلان . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ } يعني البكرين . وأخرج ابن جرير ، عن عطاء قال الرجل ، والمرأة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ } الآية قال هذه للمؤمنين وفي قوله { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ } قال هذه لأهل النفاق { وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } قال هذه لأهل الشرك . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة قال اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصى به ، فهو جهالة عمداً كان أو غيره . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون كل ذنب أصابه عبد ، فهو جهالة . وأخرج ابن جرير من طريق الكلبي ، عن أبي عن صالح ، عن ابن عباس في قوله { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ } الآية ، قال من عمل السوء ، فهو جاهل من جهالته عمل السوء { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } قال في الحياة ، والصحة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي في الشعب ، عن الضحاك قال كل شيء قبل الموت ، فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت ، فليس له ذلك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال القريب ما لم يغرغر . وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر ، ذكرها ابن كثير في تفسيره ، ومنها الحديث الذي قدّمنا ذكره .