Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 60-65)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ } فيه تعجيب لرسول الله من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن ، وما أنزل على من قبله من الأنبياء ، فجاءوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ، ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً ، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت ، وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله ، وعلى من قبله أن يكفروا به ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وبه يتضح معناها . وقد تقدّم تفسير الطاغوت ، والاختلاف في معناه . قوله { وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } معطوف على قوله { يُرِيدُونَ } والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب ، كأنه قيل ماذا يفعلون ؟ فقيل يريدون كذا ، ويريد الشيطان كذا . وقوله { ضَلاَلاً } مصدر للفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ ٱلأرْضِ نَبَاتاً } نوح 17 أو مصدر لفعل محذوف دلّ عليه الفعل المذكور ، والتقدير ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالاً . والصدود اسم للمصدر ، وهو الصدّ عند الخليل ، وعند الكوفيين أنهما مصدران ، أي يعرضون عنك إعراضاً . قوله { فَكَيْفَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بيان لعاقبة أمرهم ، وما صار إليهم حالهم ، أي كيف يكون حالهم { إِذَا أَصَـٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ } أي وقت إصابتهم ، فإنهم يعجزون عند ذلك ، ولا يقدرون على الدفع . والمراد { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت { ثُمَّ جَاءوكَ } يعتذرون عن فعلهم ، وهو عطف على { أَصَـٰبَتْهُمْ } وقوله { يَحْلِفُونَ } حال ، أي جاءوك حال كونهم حالفين { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة ، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك . وقال ابن كيسان معناه ما أردنا إلا عدلاً ، وحقاً مثل قوله { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } التوبة 107 فكذبهم الله بقوله { أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من النفاق والعداوة للحق . قال الزجاج معناه قد علم الله أنهم منافقون { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي عن عقابهم . وقيل عن قبول اعتذارهم { وَعِظْهُمْ } أي خوّفهم من النفاق { وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ } أي في حق أنفسهم . وقيل معناه قل لهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم { قَوْلاً بَلِيغاً } أي بالغاً في وعظهم إلى المقصود مؤثراً فيهم ، وذلك بأن توعدهم بسفك دمائهم ، وسبي نسائهم ، وسلب أموالهم { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ } « من » زائدة للتوكيد { إلاَّ لِيُطَاعَ } فيما أمر به ونهى عنه { بِإِذُنِ ٱللَّهِ } بعلمه . وقيل بتوفيقه { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بترك طاعتك ، والتحاكم إلى غيرك { جَاءوكَ } متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم ، ومخالفتهم { فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ } لذنوبهم ، وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً لهم ، فاستغفرت لهم ، وإنما قال { وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ } على طريقة الالتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم { لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } أي كثير التوبة عليهم والرحمة لهم . قوله { فَلاَ وَرَبّكَ } . قال ابن جرير قوله { فَلا } ردّ على ما تقدم ذكره ، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، ثم استأنف القسم بقوله { وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقيل إنه قدّم « لا » على القسم اهتماماً بالنفي ، وإظهاراً لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيداً ، وقيل لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي ، والتقدير فوربك لا يؤمنون ، كما في قوله { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوٰقِعِ ٱلنُّجُومِ } الواقعة 75 { حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ } أي يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك وقيل معناه يتحاكمون إليك ، ولا ملجىء لذلك { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي اختلف بينهم واختلط ، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه ، ومنه قول طرفة @ وهم الحكام أرباب الهـدى وسعاة الناس في الأمر الشجر @@ أي المختلف ، ومنه تشاجر الرماح ، أي اختلافها { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ } قيل هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام ، أي فتقضي بينهم ، ثم لا يجدوا . والحرج الضيق ، وقيل الشك ، ومنه قيل للشجر الملتفّ حرج وحرجة ، وجمعها حراج . وقيل الحرج الإثم ، أي لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } أي ينقادوا لأمرك ، وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء . قال الزجاج { تَسْلِيماً } مصدر مؤكد ، أي ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً ، ولا شبهة فيه . والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم ، كما يؤيد ذلك قوله { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } فلا يختص بالمقصودين بقوله { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ } وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم ، وأما بعد موته ، فتحكيم الكتاب والسنة ، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة ، أو في أحدهما . وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة ، بأن يكون عالماً باللغة العربية ، وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول ، بصيراً بالسنة المطهرة ، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به ، والضعيف وما يلحق به ، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب ، ولا لنحلة من النحل ، ورعاً لا يحيف ، ولا يميل في حكمه ، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة ، مترجم عنها ، حاكم بأحكامها . وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود ، وترجف له الأفئدة ، فإنه أوّلاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون ، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله ، حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ } فضم إلى التحكيم أمراً آخر ، وهو عدم وجود حرج ، أي حرج في صدورهم ، فلا يكون مجرد التحكيم ، والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضاً واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس ، ثم لم يكتف بهذا كله ، بل ضمّ إليه قوله { وَيُسَلّمُواْ } أي يذعنوا ، وينقادوا ظاهراً وباطناً ، ثم لم يكتف بذلك ، بل ضم إليه المصدر المؤكد ، فقال { تَسْلِيماً } فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ، ويسلم لحكم الله وشرعه ، تسليماً لا يخالطه ردّ ، ولا تشوبه مخالفة . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني بسند قال السيوطي صحيح عن ابن عباس ، قال كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية . وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه قال كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ، ومعقب بن قشير ، ورافع بن زيد ، كانوا يدّعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية ، فنزلت الآية المذكورة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ } قال الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له كعب بن الأشرف ، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا بل نحاكمكم إلى كعب ، فنزلت الآية . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك مثله . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن عبد الله بن الزبير أن الزبير خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله في شراج من الحرّة ، وكانا يسقيان به كلاهما النخل . فقال الأنصاري سرح الماء يمرّ ، فأبى عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك " ، فغضب الأنصاري ، وقال يا رسول الله آن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك " ، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري . استوعى للزبير حقه في صريح الحكم ، فقال الزبير ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، من طريق ابن لهيعة عن الأسود أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان ، فقضى بينهما ، فقال المقضيّ عليه ردنا إلى عمر ، فردهما ، فقتل عمر الذي قال ردّنا ، ونزلت الآية ، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم المقتول ، وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول ، فذكر نحوه ، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقاً ، وهما مرسلان ، والقصة غريبة ، وابن لهيعة فيه ضعف .