Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 21-29)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما خوّفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا ، فقال { أَوَ لَمْ يَسِيروُاْ فِى ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ } أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم ، فإن الذين مضوا من الكفار { كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } من هؤلاء الحاضرين من الكفار ، وأقوى { وَآثَاراً فِي ٱلأَرْض } بما عمروا فيها من الحصون والقصور ، وبما لهم من العدد والعدّة ، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله . وقوله { فَيَنظُرُواْ } إما مجزوم بالعطف على يسيروا ، أو منصوب بجواب الاستفهام ، وقوله { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك . وقوله { وَءاثَاراً } عطف على قوّة . قرأ الجمهور { أشد منهم } ، وقرأ ابن عامر أشد منكم على الالتفات { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } أي بسبب ذنوبهم { وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ } أي من دافع يدفع عنهم العذاب ، وقد مرّ تفسير هذه الآية في مواضع ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم من الأخذ { بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ } أي بالحجج الواضحة { فَكَفَرُواْ } بما جاءوهم به { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ إِنَّهُ قَوِىٌّ } يفعل كلّ ما يريده لا يعجزه شيء { شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لمن عصاه ، ولم يرجع إليه . ثم ذكر سبحانه قصة موسى ، وفرعون ليعتبروا ، فقال { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا } هي التسع الآيات التي قد تقدّم ذكرها في غير موضع { وَسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ } أي حجة بينة واضحة ، وهي التوراة { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَقَـشرُونَ فَقَالُواْ } إنه { سَـٰحِرٌ كَذَّابٌ } أي فيما جاء به ، وخصهم بالذكر لأنهم رؤساء المكذبين بموسى ، ففرعون الملك ، وهامان الوزير ، وقارون صاحب الأموال ، والكنوز { فَلَمَّا جَاءهُمْ بِٱلْحَقّ مِنْ عِندِنَا } ، وهي معجزاته الظاهرة الواضحة { قَالُواْ ٱقْتُلُواْ أَبْنَاء ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ وَٱسْتَحْيُواْ نِسَاءهُمْ } قال قتادة هذا قتل غير القتل الأوّل ، لأن فرعون قد كان أمسك عن قتل الولدان وقت ولادة موسى ، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل ، فكان يأمر بقتل الذكور ، وترك النساء ، ومثل هذا قول فرعون { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـى نِسَاءهُمْ } الأعراف 127 { وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ } أي في خسران ووبال ، لأنه يذهب باطلاً ، ويحيق بهم ما يريده الله عزّ وجلّ . { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَىٰ } إنما قال هذا لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى مخافة أن ينزل بهم العذاب ، والمعنى اتركوني أقتله { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } الذي يزعم أنه أرسله إلينا ، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك ، أي لا يهولنكم ذلك ، فإنه لا ربّ له حقيقة بل أنا ربكم الأعلى ، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله ، فقال { إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُـمْ } الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ، ويدخلهم في دينه الذي هو عبادة الله وحده { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ } أي يوقع بين الناس الخلاف ، والفتنة ، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى ، وانتشاره في الأرض ، واهتداء الناس به فساداً ، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ، ومن تابعه . قرأ الكوفيون ، ويعقوب { أو أن يظهر } بأو التي للإبهام ، والمعنى أنه لا بدّ من وقوع أحد الأمرين . وقرأ الباقون { وأن يظهر } بدون ألف على معنى وقوع الأمرين جميعاً ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو بفتح الياء من إني أخاف ، وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص { يظهر } بضم الياء ، وكسر الهاء من أظهر ، وفاعله ضمير موسى ، والفساد نصباً على أنه مفعول به ، وقرأ الباقون بفتح الياء ، والهاء ، ورفع الفساد على الفاعلية { وَقَالَ مُوسَىٰ إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُـمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي { عذت } بإدغام الذال ، وقرأ الباقون بالإظهار ، لما هدّده فرعون بالقتل استعاذ بالله عزّ وجلّ من كلّ متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث ، والنشور ، ويدخل فرعون في هذا العموم دخولاً أوّلياً . { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـٰنَهُ } قال الحسن ، ومقاتل ، والسدّي كان قبطياً ، وهو ابن عم فرعون ، وهو الذي نجا مع موسى ، وهو المراد بقوله { وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ } القصص 20 الآية ، وقيل كان من بني إسرائيل ، ولم يكن من آل فرعون ، وهو خلاف ما في الآية ، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً ، وتأخيراً ، والتقدير وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون . قال القشيري ومن جعله إسرائيلياً ، ففيه بعد ، لأنه يقال كتمه أمر كذا ، ولا يقال كتم منه كما قال سبحانه { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } النساء 42 ، وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول . وقد اختلف في اسم هذا الرجل ، فقيل حبيب . وقيل حزقيل . وقيل غير ذلك ، قرأ الجمهور { رجل } بضم الجيم ، وقرأ الأعمش ، وعبد الوارث بسكونها ، وهي لغة تميم ، ونجد ، والأولى هي الفصيحة ، وقرىء بكسر الجيم و { مؤمن } صفة لرجل ، و { من آل فرعون } صفة أخرى ، و { يكتم إيمانه } صفة ثالثة ، والاستفهام في { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً } للإنكار ، و { أَن يَقُولَ رَبّىَ ٱللَّهُ } في موضع نصب بنزع الخافض ، أي لأن يقول ، أو كراهة أن يقول ، وجملة { وَقَدْ جَاءكُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ مِن رَّبّكُمْ } في محل نصب على الحال ، أي والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات ، والدلالات الظاهرات على نبوّته ، وصحة رسالته ، ثم تلطف لهم في الدفع عنه ، فقال { وَإِن يَكُ كَـٰذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَـٰدِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِى يَعِدُكُمْ } ، ولم يكن قوله هذا لشك منه ، فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله . ولا يشك المؤمن ، ومعنى { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِى يَعِدُكُمْ } أنه إذا لم يصبكم كله ، فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه ، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، كما قال سيبويه ، وقال أبو عبيدة ، وأبو الهيثم بعض هنا بمعنى كل ، أي يصبكم كلّ الذي يعدكم ، وأنشد أبو عبيدة على هذا قول لبيد @ تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها @@ أي كلّ النفوس ، وقد اعترض عليه ، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكلّ كما في قول الشاعر @ قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل @@ وقول الآخر @ إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا @@ وليس في البيتين ما يدلّ على ما زعموه ، وأما بيت لبيد ، فقيل إنه أراد ببعض النفوس نفسه ، ولا ضرورة تلجىء إلى حمل ما في الآية على ذلك ، لأنه أراد التنزّل معهم ، وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوّته كما يفيده قوله { يَكْتُمُ إِيمَـٰنَهُ } قال أهل المعاني وهذا على المظاهرة في الحجاج ، كأنه قال لهم أقلّ ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وفي بعض ذلك هلاككم ، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل . وقال الليث بعض ها هنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم . وقيل يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا ، وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب . وقيل إنه وعدهم بالثواب ، والعقاب ، فإذا كفروا أصابهم العقاب ، وهو بعض ما وعدهم به { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } هذا من تمام كلام الرجل المؤمن ، وهو احتجاج آخر ذو وجهين أحدهما أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ، ولا أيده بالمعجزات ، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله ، وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله ، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها ، والكذاب المفتري . { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَـٰهِرِينَ فِى ٱلأَرْضِ } ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ، ليشكروا الله ، ولا يتمادوا في كفرهم ، ومعنى { ظاهرين } الظهور على الناس ، والغلبة لهم ، والاستعلاء عليهم ، والأرض أرض مصر ، وانتصاب { ظاهرين } على الحال { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَاءنَا } أي من يمنعنا من عذابه ، ويحول بيننا ، وبينه عند مجيئه ، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم ، وإنزال عذابه عليهم ، فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة ، والرعاية بمكان مكين ، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكاً يكون فيه جلب النفع لهم ، ودفع الضرّ عنهم ، ولهذا قال { مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَىٰ } قال ابن زيد أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي . وقال الضحاك ما أعلمكم إلا ما أعلم ، والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية ، والمفعول الثاني هو إلا ما أرى { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ } أي ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحقّ . قرأ الجمهور { الرشاد } بتخفيف الشين ، وقرأ معاذ بن جبل بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضرّاب . وقال النحاس هي لحن ، ولا وجه لذلك . وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } قال لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره ، وغير امرأة فرعون ، وغير المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال { إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } القصص 20 قال ابن المنذر أخبرت أن اسمه حزقيل . وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق قال اسمه حبيب . وأخرج البخاري ، وغيره من طريق عروة قال قيل لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرنا بأشدّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر ، فأخذ بمنكبيه ، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ مِن رَّبّكُمْ } » . وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة ، والبزار عن عليّ بن أبي طالب ، أنه قال أيها الناس أخبروني من أشجع الناس ؟ قالوا أنت . قال أما أني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه ، ولكن أخبروني بأشجع الناس ؟ قالوا لا نعلم ، فمن ؟ قال أبو بكر ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذته قريش ، فهذا يجنبه ، وهذا يتلتله ، وهم يقولون أنت الذي جعلت الآلهة إلاهاً واحداً ، قال فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ، ويجيء هذا ، ويتلتل هذا ، وهو يقول ويلكم { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله } ، ثم رفع بردة كانت عليه ، فبكى حتى اخضلت لحيته ، ثم قال أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر ؟ فسكت القوم ، فقال ألا تجيبون ؟ ، فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون ، وذاك رجل يكتم إيمانه ، وهذا رجل أعلن إيمانه .