Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 13-18)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الخطاب في قوله { شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أي بين ، وأوضح لكم من الدين { مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } من التوحيد ، ودين الإسلام ، وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرسل ، وتوافقت عليها الكتب { وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من القرآن ، وشرائع الإسلام ، والبراءة من الشرك ، والتعبير عنه بالموصول لتفخيم شأنه ، وخص ما شرعه لنبينا صلى الله عليه وسلم بالإيحاء مع كون ما بعده ، وما قبله مذكوراً بالتوصية للتصريح برسالته { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ } مما تطابقت عليه الشرائع . ثم بيّن ما وصى به هؤلاء ، فقال { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ } أي توحيد الله ، والإيمان به ، وطاعة رسله ، وقبول شرائعه ، وأن هي المصدرية ، وهي وما بعدها في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف ، كأنه قيل ما ذلك الذي شرعه الله ؟ فقيل هو إقامة الدين ، أو هي في محل نصب بدلاً من الموصول ، أو في محل جرّ بدلاً من الدين ، أو هي المفسرة ، لأنه قد تقدمها ما فيه معنى القول . قال مقاتل يعني أنه شرع لكم ، ولمن قبلكم من الأنبياء ديناً واحداً . قال مقاتل يعني التوحيد . قال مجاهد لم يبعث الله نبياً قط إلاّ وصاه بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإقرار لله بالطاعة ، فذلك دينه الذي شرع لهم . وقال قتادة يعني تحليل الحلال ، وتحريم الحرام ، وخصّ إبراهيم ، وموسى ، وعيسى بالذكر مع نبينا صلى الله عليه وسلم لأنهم أرباب الشرائع . ثم لما أمرهم سبحانه بإقامة الدين ، نهاهم عن الاختلاف فيه ، فقال { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } أي لا تختلفوا في التوحيد ، والإيمان بالله ، وطاعة رسله ، وقبول شرائعه ، فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع ، وتوافقت فيها الأديان ، فلا ينبغي الخلاف في مثلها ، وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة ، وتتعارض فيها الأمارات ، وتتباين فيها الأفهام ، فإنها من مطارح الاجتهاد ، ومواطن الخلاف . ثم ذكر سبحانه أن ما شرعه من الدين شقّ على المشركين ، فقال { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي عظم ، وشق عليهم ما تدعوهم إليه من التوحيد ، ورفض الأوثان . قال قتادة كبر على المشركين ، واشتدّ عليهم شهادة أن لا إلٰه إلاّ الله وحده ، وضاق بها إبليس ، وجنوده ، فأبى الله إلاّ أن ينصرها ، ويعليها ، ويظهرها ، ويظفرها على من ناوأها . ثم خصّ أولياءه ، فقال { ٱللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء } أي يختار ، والاجتباء الاختيار ، والمعنى يختار لتوحيده ، والدخول في دينه من يشاء من عباده . { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } أي يوفق لدينه ، ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته ، ويقبل إلى عبادته . ثم لما ذكر سبحانه ما شرعه لهم من إقامة الدين ، وعدم التفرق فيه ذكر ما وقع من التفرّق ، والاختلاف ، فقال { وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ } أي ما تفرّقوا إلاّ عن علم بأن الفرقة ضلالة ، ففعلوا ذلك التفرّق للبغي بينهم بطلب الرياسة ، وشدّة الحمية . قيل المراد قريش هم الذين تفرّقوا بعد ما جاءهم العلم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم { بَغِيّاً } ، منهم عليه ، وقد كانوا يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ } فاطر 42 الآية ، وبقوله { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } البقرة 89 . وقيل المراد أمم الأنبياء المتقدمين ، وأنهم فيما { بَيْنَهُمْ } اختلفوا لما طال بهم المدى ، فآمن قوم ، وكفر قوم . وقيل اليهود ، والنصارى خاصة كما في قوله { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيّنَةُ } البينة 4 { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } ، وهي تأخير العقوبة { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } ، وهو يوم القيامة كما في قوله { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } القمر 46 . وقيل إلى الأجل الذي قضاه الله لعذابهم في الدنيا بالقتل ، والأسر ، والذلّ ، والقهر { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لوقع القضاء بينهم بإنزال العقوبة بهم معجلة . وقيل لقضي بين من آمن منهم ، ومن كفر بنزول العذاب بالكافرين ، ونجاة المؤمنين { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } من اليهود ، والنصارى { مّن بَعْدِهِمْ } من بعد من قبلهم من اليهود ، والنصارى { لَفِى شَكّ مّنْهُ } أي من القرآن ، أو من محمد { مُرِيبٍ } موقع في الريب ، ولذلك لم يؤمنوا . وقال مجاهد معنى { من بعدهم } من قبلهم يعني من قبل مشركي مكة ، وهم اليهود ، والنصارى . وقيل المراد كفار المشركين من العرب الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ، وصفهم بأنه في شك من القرآن مريب . قرأ الجمهور { أورثوا } وقرأ زيد بن عليّ ورثوا بالتشديد . { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ } أي فلأجل ما ذكر من التفرّق ، والشكّ ، أو فلأجل أنه شرع من الدين ما شرع ، فادع ، واستقم أي فادع إلى الله ، وإلى توحيده ، واستقم على ما دعوت إليه . قال الفراء ، والزجاج المعنى فإلى ذلك ، فادع كما تقول دعوت إلى فلان ، ولفلان ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد . وقيل في الكلام تقديم ، وتأخير . والمعنى كبر على المشركين ما ندعوهم إليه ، فلذلك فادع . قال قتادة استقم على أمر الله . وقال سفيان استقم على القرآن . وقال الضحاك استقم على تبليغ الرسالة { كَمَا أُمِرْتَ } بذلك من جهة الله { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } الباطلة ، وتعصباتهم الزائغة ، ولا تنظر إلى خلاف من خالفك في ذكر الله { وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَـٰبٍ } أي بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله ، لا كالذين آمنوا ببعض منها ، وكفروا ببعض { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } في أحكام الله إذا ترافعتم إليّ ، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه الله ، أو بنقصان منه . وأبلغ إليكم ما أمرني الله بتبليغه كما هو ، واللام لام كي ، أي أمرت بذلك الذي أمرت به ، لكي أعدل بينكم . وقيل هي زائدة ، والمعنى أمرت أن أعدل والأوّل أولى . قال أبو العالية أمرت ، لأسويّ بينكم في الدين ، فأومن بكل كتاب ، وبكل رسول . والظاهر أن الآية عامة في كل شيء ، والمعنى أمرت لأعدل بينكم في كل شيء { ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي إلٰهنا ، وإلٰهكم ، وخالقنا ، وخالقكم { لَنَا أَعْمَـٰلُنَا } أي ثوابها ، وعقابها خاصّ بنا { وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ } أي ثوابها ، وعقابها خاصّ بكم { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا خصومة بيننا ، وبينكم . لأن الحق قد ظهر ، ووضح { ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } في المحشر { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أي المرجع يوم القيامة ، فيجازي كلا بعمله وهذا منسوخ بآية السيف . قيل الخطاب لليهود ، وقيل للكفار على العموم . { وَٱلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ } أي يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ، ودخلوا فيه . قال مجاهد من بعد ما أسلم الناس . قال وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود . وقال قتادة هم اليهود ، والنصارى ، ومحاجتهم قولهم نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب ، وأنهم أولاد الأنبياء ، وكان المشركون يقولون { أَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } مريم 73 ، فنزلت هذه الآية ، والموصول مبتدأ ، وخبره الجملة بعده ، وهي { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ } أي لا ثبات لها كالشيء الذي يزول عن موضعه ، يقال دحضت حجته دحوضاً بطلت ، والإدحاض الإزلاق ، ومكان دحض ، أي زلق ، ودحضت رجله زلقت . وقيل الضمير في له راجع إلى الله . وقيل راجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم . والأوّل أولى { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } أي غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة { ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ } المراد بالكتاب الجنس ، فيشمل جميع الكتب المنزّلة على الرسل . وقيل المراد به القرآن خاصة ، وبالحق متعلق بمحذوف ، أي ملتبساً بالحق ، وهو الصدق والمراد بـ { الميزان } العدل ، كذا قال أكثر المفسرين ، قالوا وسمي العدل ميزاناً لأن الميزان آلة الإنصاف ، والتسوية بين الخلق . وقيل الميزان ما بين في الكتب المنزّلة مما يجب على كل إنسان أن يعمل به . وقيل هو الجزاء على الطاعة بالثواب ، وعلى المعصية بالعقاب . وقيل إنه الميزان نفسه أنزله الله من السماء ، وعلم العباد الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم ، وتباخس كما في قوله { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } الحديد 25 وقيل هو محمد صلى الله عليه وسلم { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } أي أيّ شيء يجعلك دارياً بها ، عالماً بوقتها لعلها شيء قريب ، أو قريب مجيئها ، أو ذات قرب . وقال قريب ، ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي . قال الزجاج المعنى لعلّ البعث ، أو لعلّ مجيء الساعة قريب . وقال الكسائي قريب نعت ينعت به المؤنث ، والمذكر كما في قوله { إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } الأعراف 56 ومنه قول الشاعر @ وكنا قريباً والديار بعيدة فلما وصلنا نصب أعينهم غبنا @@ قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الساعة ، وعنده قوم من المشركين ، فقالوا متى تكون الساعة ؟ تكذيباً لها ، فأنزل الله الآية ، ويدلّ على هذا قوله { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } استعجال استهزاء منهم بها ، وتكذيباً بمجيئها { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي خائفون وجلون من مجيئها . قال مقاتل لأنهم لا يدرون على ما يهجمون عليه . وقال الزجاج لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ، ومجزيون { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ } أي أنها آتية لا ريب فيها ، ومثل هذا قوله { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبّهِمْ رٰجِعُونَ } المؤمنون 60 . ثم بيّن ضلال الممارين فيها ، فقال { أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَى ٱلسَّاعَةِ } أي يخاصمون فيها مخاصمة شك ، وريبة ، من المماراة ، وهي المخاصمة ، والمجادلة ، أو من المرية ، وهي الشك ، والريبة { لَفِى ضَلَـٰلَ بَعِيدٍ } عن الحق لأنهم لم يتفكروا في الموجبات للإيمان بها من الدلائل التي هي مشاهدة لهم منصوبة لأعينهم مفهومة لعقولهم ، ولو تفكروا لعلموا أن الذين خلقهم ابتداء قادر على الإعادة . وقد أخرج ابن جرير عن السدّي { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ } قال اعملوا به . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } قال ألا تعلموا أن الفرقة هلكة ، وأن الجماعة ثقة { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } ، قال استكبر المشركون أن قيل لهم لا إلٰه إلاّ الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد { ٱللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء } قال يخلص لنفسه من يشاء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { وَٱلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ } قال هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين ، ويصدّونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله . وقال هم قوم من أهل الضلالة ، وكانوا يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله { وَٱلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى ٱللَّهِ } الآية ، قال هم اليهود ، والنصارى . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحوه . وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال لما نزلت { إِذَا جَاء نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } النصر 1 قال المشركون لمن بين أظهرهم من المؤمنين قد دخل الناس في دين الله أفواجاً ، فاخرجوا من بين أظهرنا ، فنزلت { وَٱلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى ٱللَّهِ } الآية .