Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 29-43)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر سبحانه بعض آياته الدالة على كمال قدرته الموجبة لتوحيده ، وصدق ما وعد به من البعث ، فقال { وَمِنْ ءايَـٰتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي خلقهما على هذه الكيفية العجيبة ، والصنعة الغريبة { وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } يجوز عطفه على خلق ، ويجوز عطفه على السمٰوات ، والدابة اسم لكل ما دبّ . قال الفراء أراد ما بثّ في الأرض دون السماء كقوله { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } الرحمٰن 22 ، وإنما يخرج من الملح دون العذب . وقال أبو عليّ الفارسي تقديره وما بثّ في أحدهما ، فحذف المضاف . قال مجاهد يدخل في هذا الملائكة ، والناس ، وقد قال تعالى { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } النمل 8 { وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ } أي حشرهم يوم القيامة { إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ } ، الظرف متعلق بجمعهم لا بقدير قال أبو البقاء لأن ذلك يؤدي ، وهو على جمعهم قدير إذا يشاء ، فتتعلق القدرة بالمشيئة ، وهو محال ، قال شهاب الدين ولاأدري ما وجه كونه محالاً على مذهب أهل السنّة . فإن كان يقول بقول المعتزلة ، وهو أن القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه ، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي ما أصابكم من المصائب كائنة ما كانت ، فبسبب ما كسبت أيديكم من المعاصي . قرأ نافع ، وابن عامر بما كسبت بغير فاء ، وقرأ الباقون بالفاء . « وما » في { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ } هي الشرطية ، ولهذا دخلت الفاء في جوابها على قراءة الجمهور ، ولا يجوز حذفها عند سيبويه ، والجمهور ، وجوّز الأخفش الحذف كما في قوله { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } الأنعام 121 ، وقول الشاعر @ من يفعل الحسنات الله يشكرها والشرّ بالشرّ عند الله مثلان @@ وقيل هي الموصولة ، فيكون الحذف ، والإثبات جائزين ، والأوّل أولى . قال الزجاج إثبات الفاء أجود لأن الفاء مجازاة جواب الشرط ، ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى الذي ، والمعنى الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم . قال الحسن المصيبة هنا الحدود على المعاصي ، والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي ، ودخول من الاستغراقية عليها { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } من المعاصي التي يفعلها العباد ، فلا يعاقب عليها ، فمعنى الآية أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب ، ويعفو عن كثير من الذنوب . وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه ، أو يكفر عنه من ذنوبه . وقيل هذه الآية مختصة بالكافرين على معنى أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفراً عنهم لذنب ، ولا محصلاً لثواب ، ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم ، فلا يعاجلهم في الدنيا بل يمهلهم إلى الدار الآخرة . والأولى حمل الآية على العموم ، والعفو يصدق على تأخير العقوبة كما يصدق على محو الذنب ، ورفع الخطاب به . قال الواحدي وهذه أرجى آية في كتاب الله لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين صنف كفره عنهم بالمصائب ، وصنف عفا عنه في الدنيا ، وهو كريم لا يرجع في عفوه ، فهذه سنّة الله مع المؤمنين . وأما الكافر ، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافى به يوم القيامة { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى ٱلأَرْضِ } أي بفائتين عليه هرباً في الأرض ، ولا في السماء لو كانوا فيها بل ما قضاه عليهم من المصائب واقع عليهم نازل بهم { وَمَا لَكُم مّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّ } يواليكم ، فيمنع عنكم ما قضاه الله { وَلاَ نَصِيرٍ } ينصركم من عذاب الله في الدنيا ، ولا في الآخرة . ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آياته العظيمة الدالة على توحيده ، وصدق ما وعد به ، فقال { وَمِنْ ءايَـٰتِهِ ٱلْجَوَارِ } قرأ نافع ، وأبو عمرو الجواري بإثبات الياء في الوصل ، وأما في الوقف ، فإثباتها على الأصل ، وحذفها للتخفيف ، وهي السفن واحدتها جارية أي سائرة { فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلَـٰمِ } أي الجبال جمع علم ، وهو الجبل ، ومنه قول الخنساء @ وإن صخراً لتأتمّ الهداة به كأنه علم في رأسه نار @@ قال الخليل كلّ شيء مرتفع عند العرب ، فهو علم . وقال مجاهد الأعلام القصور واحدها علم { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرّيحَ } قرأ الجمهور بهمز { يشأ } ، وقرأ ورش عن نافع بلا همز . وقرأ الجمهور { الريح } بالإفراد ، وقرأ نافع الرياح على الجمع ، أي يسكن الريح التي تجري بها السفن { فَيَظْلَلْنَ } أي السفن { رَوَاكِدَ } أي سواكن ثوابت { عَلَىٰ ظَهْرِهِ } البحر ، يقال ركد الماء ركوداً سكن ، وكذلك ركدت الريح ، وركدت السفينة ، وكل ثابت في مكان ، فهو راكد . قرأ الجمهور فيظللن بفتح اللام الأولى ، وقرأ قتادة بكسرها ، وهي لغة قليلة . { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي ذكر من أمر السفن { لأَيَاتٍ } دلالات عظيمة { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي لكل من كان كثير الصبر على البلوى كثير الشكر على النعماء . قال قطرب الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر . قال عون بن عبد الله @ فكم من منعم عليه غير شاكر وكم من مبتلي وهو غير صابر @@ { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } معطوف على يسكن ، أي يهلكهنّ بالغرق ، والمراد أهلكهن بما كسبوا من الذنوب ، وقيل بما أشركوا . والأوّل أولى ، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك ، يقال أوبقه ، أي أهلكه { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم ، فينجيهم من الغرق . قرأ الجمهور { يعف } بالجزم عطفاً على جواب الشرط . قال القشيري وفي هذه القراءة إشكال لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح ، فتبقي تلك السفن رواكد ، أو يهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف { يعف } على هذا ، لأنه يصير المعنى إن يشأ يعف ، وليس المعنى ذلك ، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة ، فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى ، وقد قرأ قوم ويعفو بالرفع ، وهي جيدة في المعنى . قال أبو حيان وما قاله ليس بجيد إذ لم يفهم مدلول التركيب ، والمعنى إلاّ أنه تعالى أهلك ناساً ، وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم ، وقرأ الأعمش ويعفو بالرفع ، وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار أن بعد الواو كما في قول النابغة @ فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش أجبّ الظهر ليس له سنام @@ بنصب ونأخذ { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِى ءايَـٰتِنَا مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } قرأ الجمهور بنصب { يعلم } قال الزجاج على الصرف ، قال ومعنى الصرف صرف العطف على اللفظ إلى العطف على المعنى ، قال وذلك أنه لما لم يحسن عطف { ويعلم } مجزوماً على ما قبله إذ يكون المعنى إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله ، ولا يتأتى ذلك إلاّ بإضمار أن ، لتكون مع الفعل في تأويل اسم ، ومن هذا بيتا النابغة المذكوران قريباً ، وكما قال الزجاج . قال المبرّد ، وأبو عليّ الفارسي واعترض على هذا الوجه بما لا طائل تحته . وقيل النصب على العطف على تعليل محذوف ، والتقدير لينتقم منهم ، ويعلم . واعترضه أبو حيان بأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ، ونجاة قوم ، فلا يحسن تقدير لينتقم منهم . وقرأ نافع ، وابن عامر برفع يعلم على الاستئناف ، وهي قراءة ظاهرة المعنى واضحة اللفظ . وقرىء بالجزم عطفاً على المجزوم قبله على معنى وإن يشأ يجمع بين الإهلاك ، والنجاة ، والتحذير ، ومعنى { مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } ما لهم من فرار ، ولا مهرب ، قاله قطرب . وقال السدي ما لهم من ملجأ ، وهو مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة إذا رمى به ، ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق ، أي يميل عنه . { فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد ، ذكر التنفير عن الدنيا ، أي ما أعطيتم من الغنى ، والسعة في الرزق ، فإنما هو متاع قليل في أيام قليلة ينقضي ، ويذهب . ثم رغبهم في ثواب الآخرة ، وما عند الله من النعيم المقيم ، فقال { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } أي ما عند الله من ثواب الطاعات ، والجزاء عليها بالجنات خير من متاع الدنيا ، وأبقى لأنه دائم لا ينقطع ، ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة . ثم بيّن سبحانه لمن هذا ، فقال { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي صدقوا ، وعملوا على ما يوجبه الإيمان . { وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي يفوّضون إليه أمورهم ، ويعتمدون عليه في كل شؤونهم لا على غيره { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوٰحِشَ } الموصول في محل جرّ معطوف على الذين آمنوا ، أو بدلاً منه ، أو في محلّ نصب بإضمار أعني والأوّل أولى ، والمعنى أن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وللذين يجتنبون . والمراد بكبائر الإثم الكبائر من الذنوب ، وقد قدّمنا تحقيقها في سورة النساء . قرأ الجمهور { كبائر } بالجمع . وقرأ حمزة ، والكسائي كبير بالإفراد ، وهو يفيد مفاد الكبائر ، لأن الإضافة للجنس كاللام . والفواحش هي من الكبائر ، ولكنها مع وصف كونها فاحشة كأنها فوقها ، وذلك كالقتل ، والزنا ، ونحو ذلك . وقال مقاتل الفواحش موجبات الحدود . وقال السدّي هي الزنا { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ، ويكظمون الغيظ ، ويحلمون على من ظلمهم ، وخصّ الغضب بالغفران لأن استيلاءه على طبع الإنسان ، وغلبته عليه شديدة ، فلا يغفر عند سورة الغضب إلاّ من شرح الله صدره ، وخصه بمزية الحلم ، ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله في آل عمران { وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } آل عمران 134 قال ابن زيد جعل الله المؤمنين صنفين صنفاً يعفون عن ظالمهم ، فبدأ بذكرهم ، وصنفا ينتصرون من ظالمهم ، وهم الذين سيأتي ذكرهم . { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلوٰةَ } أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه ، وأقاموا ما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة . قال ابن زيد هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيباً منهم قبل الهجرة ، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها ، وهيئاتها { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أي يتشاورون فيما بينهم ، ولا يعجلون ، ولا ينفردون بالرأي . والشورى مصدر شاورته مثل البشرى ، والذكرى . قال الضحاك هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وورود النقباء إليهم حين اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به ، والنصرة له . وقيل المراد تشاورهم في كلّ أمر يعرض لهم ، فلا يستأثر بعضهم على بعض برأي ، وما أحسن ما قاله بشار بن برد @ إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافي قوّة للقوادم @@ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في أموره ، وأمره الله سبحانه بذلك ، فقال { وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلأَمْرِ } آل عمران 159 ، وقد قدّمنا في آل عمران كلاماً في الشورى { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } أي ينفقونه في سبيل الخير ، ويتصدّقون به على المحاويج . ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها ، فقال { وَٱلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أي أصابهم بغي من بغى عليهم بغير الحق ، ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } المنافقون 8 ، فالانتصار عند البغي فضيلة ، كما أن العفو عند الغضب فضيلة . قال النخعي كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فيجترىء عليهم السفهاء ، ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } ، فبيّن سبحانه أن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة ، وظاهر هذا العموم . وقال مقاتل ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وسفيان إن هذا خاص بالمجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره . وقال مجاهد ، والسدّي هو جواب القبيح إذا قال أخزاك الله يقول أخزاك الله من غير أن يعتدي ، وتسمية الجزاء سيئة إما لكونها تسوء من وقعت عليه ، أو على طريق المشاكلة لتشابههما في الصورة . ثم لما بيّن سبحانه أن جزاء السيئة بمثلها حق جائز بين فضيلة العفو ، فقال { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } أي من عفا عمن ظلمه ، وأصلح بالعفو بينه ، وبين ظالمه أي أن الله سبحانه يأجره على ذلك ، وأبهم الأجر تعظيماً لشأنه ، وتنبيهاً على جلالته . قال مقاتل فكان العفو من الأعمال الصالحة ، وقد بينا هذا في سورة آل عمران . ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز ، والنجاة ، فقال { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي المبتدئين بالظلم قال مقاتل يعني من يبدأ بالظلم ، وبه قال سعيد بن جبير . وقيل لا يحبّ من يتعدّى في الاقتصاص ، ويجاوز الحدّ فيه لأن المجاوزة ظلم . { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } مصدر مضاف إلى المفعول ، أي بعد أن ظلمه الظالم له ، واللام هي لام الابتداء . وقال ابن عطية هي لام القسم ، والأوّل أولى . ومن هي الشرطية ، وجوابه { فَأُوْلَـئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ } بمؤاخذة ، وعقوبة ، ويجوز أن تكون من هي الموصولة ، ودخلت الفاء في جوابها تشبيهاً للموصولة بالشرطية ، والأوّل أولى . ولما نفى سبحانه السبيل على من انتصر بعد ظلمه بيّن من عليه السبيل ، فقال { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ } أي يتعدّون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر . وقال ابن جريج أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم { وَيَبْغُونَ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } أي يعملون في النفوس ، والأموال بغير الحقّ كذا قال الأكثر . وقال مقاتل بغيهم عملهم بالمعاصي . وقيل يتكبرون ، ويتجبرون . وقال أبو مالك هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً ، والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } إلى الذين يظلمون الناس ، وهو مبتدأ ، وخبره { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي لهم بهذا السبب عذاب شديد الألم . ثم رغب سبحانه في الصبر ، والعفو ، فقال { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } أي صبر على الأذى ، وغفر لمن ظلمه ، ولم ينتصر ، والكلام في هذه اللام ، ومن كالكلام في ، ولمن انتصر { إِنَّ ذٰلِكَ } الصبر ، والمغفرة { لَمِنْ عَزْمِ ٱلأَمُورِ } أي أن ذلك منه ، فحذف لظهوره ، كما في قولهم السمن منوان بدرهم . قال مقاتل من الأمور التي أمر الله بها . وقال الزجاج الصابر يؤتى بصبره ثواباً ، فالرغبة في الثواب أتم عزماً . قال ابن زيد إن هذا كله منسوخ بالجهاد ، وأنه خاصّ بالمشركين . وقال قتادة إنه عام ، وهو ظاهر النظم القرآني { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ } أي فماله من أحد يلي هدايته ، وينصره ، وظاهر الآية العموم . وقيل هي خاصة بمن أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يعمل بما دعاه إليه من الإيمان بالله ، والعمل بما شرعه ، والأوّل أولى . وقد أخرج أحمد ، وابن راهويه ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم عن عليّ بن أبي طالب قال ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدّثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ، وسأفسرها لك يا عليّ " ما أصابكم من مرض ، أو عقوبة ، أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم ، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله عنه في الدنيا ، فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه " وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي عن أبي موسى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يصيب عبداً نكبة ، فما فوقها أو دونها إلاّ بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر " وقرأ { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في الكفارات ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين أنه دخل عليه بعض أصحابه ، وكان قد ابتلي في جسده ، فقال إنا لنبتئس لك لما نرى فيك ، قال فلا تبتئس لما ترى ، فإن ما ترى بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، ثم تلا هذه الآية { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ } إلى آخرها . وأخرج أحمد عن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلاّ كفر الله عنه به من سيئاته " وأخرج ابن مردويه عن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلاّ بما قدمت أيديكم ، وما يعفو الله أكثر " وأخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله { فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ } قال يتحرّكن ، ولا يجرين في البحر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله رواكد قال وقوفاً { أَوْ يُوبِقْهُنَّ } قال يهلكهن . وأخرج النسائي ، وابن ماجه ، وابن مردويه عن عائشة ، قالت دخلت عليّ زينب ، وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلت عليّ ، فسبتني ، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تنته ، فقال لي " سبيها ، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها ، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سروراً " وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المستبان ما قالا من شيء ، فعلى البادىء حتى يعتدي المظلوم " ، ثم قرأ { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي ألا ليقم من كان له على الله أجر ، فلا يقوم إلاّ من عفا في الدنيا " وذلك قوله { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } . وأخرج البيهقي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ينادي منادٍ من كان له أجر على الله ، فليدخل الجنة مرتين ، فيقوم من عفا عن أخيه " قال الله { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } .