Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 43, Ayat: 21-35)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { أَمْ ءاتَيْنَـٰهُمْ كِتَـٰباً مّن قَبْلِهِ } أم هي المنقطعة ، أي بل ءأعطيناهم كتاباً من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } يأخذون بما فيه ، ويحتجون به ، ويجعلونه لهم دليلاً ، ويحتمل أن تكون أم معادلة لقوله { ٱشْهَدُواْ } ، فتكون متصلة ، والمعنى أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتاباً … إلخ . وقيل إن الضمير في { مِن قَبْلِهِ } يعود إلى ادّعائهم ، أي أم آتيناهم كتاباً من قبل ادّعائهم ينطق بصحة ما يدّعونه ، والأوّل أولى . ثم بيّن سبحانه أنه لا حجة بأيديهم ، ولا شبهة ، ولكنهم اتبعوا آباءهم في الضلالة ، فقال { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم مُّهْتَدُونَ } ، فاعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم ، ومعنى { على أمة } على طريقة ، ومذهب ، قال أبو عبيد هي الطريقة ، والدين ، وبه قال قتادة ، وغيره . قال الجوهري والأمة الطريقة ، والدين ، يقال فلان لا أمة له ، أي لا دين له ، ولا نحلة ، ومنه قول قيس بن الخطيم @ كنا على أمة آبائنا ونقتدي الآخر بالأوّل @@ وقول الآخر @ وهل يستوي ذو أمة وكفور @@ وقال الفراء ، وقطرب على قبلة . وقال الأخفش على استقامة ، وأنشد قول النابغة @ حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع @@ قرأ الجمهور { أمة } بضم الهمزة ، وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز بكسرها . قال الجوهري والإمة بالكسر النعمة ، والإمة أيضاً لغة في الأمة . ومنه قول عديّ بن زيد @ ثم بعد الفلاح والملك والإمـ ـة وارتهم هناك قبور @@ ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة ، وقال بها ، فقال { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُون } { مترفوها } أغنياؤها ، ورؤساؤها ، قال قتادة { مقتدون } متبعون ، ومعنى الاهتداء ، والاقتداء متقارب ، وخصص المترفين تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم ، فقال { قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ } أي أتتبعون آباءكم ، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ، قال الزجاج المعنى قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم ، وإن جئتكم بأهدى منه . قرأ الجمهور { قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُم } ، وقرأ ابن عامر ، وحفص قال أو لو جئتكم ، وهو حكاية لما جرى بين المنذرين ، وقومهم ، أي قال كلّ منذر من أولئك المنذرين لأمته ، وقيل إن كلا القراءتين حكاية لما جرى بين الأنبياء ، وقومهم ، كأنه قال لكل نبيّ قل ، بدليل قوله { قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ } . وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد ، وقبحه ، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنما يعملون بقول أسلافهم ، ويتبعون آثارهم ، ويقتدون بهم ، فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة ، أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها ، وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير ، ولا حجة واضحة ، بل بمجرّد قال . وقيل لشبهة داحضة ، وحجة زائفة ، ومقالة باطلة ، قالوا بما قاله المترفون من هذه الملل إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون ، أو بما يلاقي معناه معنى ذلك ، فإن قال لهم الداعي إلى الحقّ قد جمعتنا الملة الإسلامية ، وشملنا هذا الدين المحمدي ، ولم يتعبدنا الله ، ولا تعبدكم ، وتعبد آباءكم من قبلكم إلاّ بكتابه الذي أنزله على رسوله ، وبما صحّ عن رسوله ، فإنه المبين لكتاب الله الموضح لمعانيه ، الفارق بين محكمه ، ومتشابهه ، فتعالوا نردّ ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله ، وسنّة رسوله كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } النساء 59 ، فإن الردّ إليهما أهدى لنا ولكم من الردّ إلى ما قاله أسلافكم ، ودرج عليه آباؤكم ، نفروا نفور الوحوش ، ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر ، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } النور 51 ، ولا قوله { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } النساء 65 ، فإن قال لهم القائل هذا العالم الذي تقتدون به ، وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه متعبداً بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، مطلوباً منه ما هو مطلوب منكم ، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل ، فذلك رخصة له لا يحلّ أن يتبعه غيره عليها ، ولا يجوز له العمل بها ، وقد وجدوا الدليل الذي لم يجده ، وها أنا أوجدكموه في كتاب الله ، أو فيما صحّ من سنّة رسوله ، وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم ، قالوا لا نعمل بهذا ، ولا سمع لك ، ولا طاعة ، ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب ، والسنّة ، ولم يسلموا ذلك ، ولا أذعنوا له ، وقد وهب لهم الشيطان عصي يتوكئون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب ، والسنّة ، وهي أنهم يقولون إن إمامنا الذي قلدناه ، واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، وذلك لأن أذهانهم قد تصوّرت من يقتدون به تصوراً عظيماً بسبب تقدّم العصر ، وكثرة الأتباع ، وما علموا أن هذا منقوض عليهم ، مدفوع به في وجوههم ، فإنه لو قيل لهم إن في التابعين من هو أعظم قدراً ، وأقدم عصراً من صاحبكم ، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية حتى توجب الاقتداء ، فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصراً ، وأجلّ قدراً ، فإن أبيتم ذلك ، ففي الصحابة رضي الله عنهم من هو أعظم قدراً من صاحبكم علماً ، وفضلاً ، وجلالة قدر ، فإن أبيتم ذلك ، فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدراً ، وأجلّ خطراً ، وأكثر أتباعاً ، وأقدم عصراً ، وهو محمد بن عبد الله نبينا ، ونبيكم ، ورسول الله إلينا ، وإليكم ، فتعالوا ، فهذه سنّته موجودة في دفاتر الإسلام ، ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرناً بعد قرن ، وعصراً بعد عصر ، وهذا كتاب ربنا خالق الكل ، ورازق الكل ، وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت ، وبيد كل مسلم لم يلحقه تغيير ، ولا تبديل ، ولا زيادة ، ولا نقص ، ولا تحريف ، ولا تصحيف ، ونحن ، وأنتم ممن يفهم ألفاظه ، ويتعقل معانيه ، فتعالوا لنأخذ الحقّ من معدنه ، ونشرب صفو الماء من منبعه ، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، قالوا لا سمع ، ولا طاعة ، إما بلسان المقال ، أو بلسان الحال ، فتدبر هذا ، وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف ، وشعبة من خير ، ومزعة من حياء ، وحصة من دين ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم . وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته « أدب الطلب ومنتهى الأرب » ، فارجع إليه إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب ، وتتقشع لك سحائب التقليد { فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } . وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم نوح ، وعاد ، وثمود { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ } من تلك الأمم ، فإن آثارهم موجودة . { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ } أي واذكر لهم وقت قوله لأبيه ، وقومه الذين قلدوا آباءهم ، وعبدوا الأصنام { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ } البراء مصدر نعت به للمبالغة ، وهو يستعمل للواحد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث . قال الجوهري وتبرأت من كذا ، وأنا منه براء وخلاء ، لا يثنى ، ولا يجمع ، لأنه مصدر في الأصل ، ثم استثنى خالقه من البراءة ، فقال { إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى } أي خلقني { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } سيرشدني لدينه ، ويثبتني على الحق ، والاستثناء إما منقطع ، أي لكن الذي فطرني ، أو متصل من عموم ما ، لأنهم كانوا يعبدون الله ، والأصنام ، وإخباره بأنه سيهديه جزماً لثقته بالله سبحانه ، وقوّة يقينه { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَـٰقِيَةً فِى عَقِبِهِ } الضمير في { جعلها } عائد إلى قوله { إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى } ، وهي بمعنى التوحيد ، كأنه قال وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم ، وهم ذرّيته ، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه ، وفاعل جعلها إبراهيم ، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد ، وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله { وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرٰهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } البقرة 132 الآية ، وقيل الفاعل هو الله عزّ وجلّ ، أي وجعل الله عزّ وجلّ كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم ، والعقب من بعد . قال مجاهد ، وقتادة الكلمة لا إلٰه إلاّ الله لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة . وقال عكرمة هي الإسلام . قال ابن زيد الكلمة هي قوله { أَسْلَمْتُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } البقرة 131 ، وجملة { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } تعليل للجعل ، أي جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد . وقيل الضمير في { لعلهم } راجع إلى أهل مكة ، أي لعلّ أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم . وقيل في الكلام تقديم ، وتأخير ، والتقدير فإنه سيهدين لعلهم يرجعون ، وجعلها … إلخ . قال السدّي لعلهم يتوبون ، فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله . ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش ، ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم ، فقال { بَلْ مَتَّعْتُ هَـؤُلاَء وَءابَاءهُمْ } أضرب عن الكلام الأوّل إلى ذكر ما متعهم به من الأنفس ، والأهل ، والأموال ، وأنواع النعم ، وما متع به آباءهم ، ولم يعاجلهم بالعقوبة ، فاغترّوا بالمهلة ، وأكبوا على الشهوات { حَتَّىٰ جَاءهُمُ ٱلْحَقُّ } يعني القرآن { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، ومعنى { مبين } ظاهر الرسالة واضحها ، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين ، فلم يجيبوه ، ولم يعملوا بما أنزل عليه . ثم بيّن سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحقّ ، فقال { وَلَمَّا جَاءهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَـٰفِرُونَ } أي جاحدون ، فسموا القرآن سحراً ، وجحدوه . واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } المراد بالقريتين مكة ، والطائف ، وبالرجلين الوليد بن المغيرة من مكة ، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف كذا قال قتادة ، وغيره . وقال مجاهد ، وغيره عتبة بن ربيعة من مكة ، وعمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف ، وقيل غير ذلك . وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه واسع المال مسوّد في قومه ، والمعنى أنه لو كان قرآناً لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين ، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } يعني النبوّة ، أو ما هو أعمّ منها ، والاستفهام للإنكار . ثم بيّن أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا ، فقال { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } ، ولم نفوّض ذلك إليهم ، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده ، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ، ورفع درجات بعضهم على بعض ، فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوّة ، وتفويضها إلى من يشاء من خلقه . قال مقاتل يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة ، فيضعونها حيث شاءوا ؟ قرأ الجمهور { معيشتهم } بالإفراد ، وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن معايشهم بالجمع ومعنى { رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ } أنه فاضل بينهم ، فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق ، والرياسة ، والقوّة ، والحرية ، والعقل ، والعلم ، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض ، فقال { لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أي ليستخدم بعضهم بعضاً ، فيستخدم الغنيّ الفقير ، والرئيس المرءوس ، والقويّ الضعيف ، والحرّ العبد ، والعاقل من هو دونه في العقل ، والعالم الجاهل ، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا ، وبه تتمّ مصالحهم ، وينتظم معاشهم ، ويصل كلّ واحد منهم إلى مطلوبه ، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين ، فجعل البعض محتاجاً إلى البعض ، لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا ، ويحتاج هذا إلى هذا ، ويصنع هذا لهذا ، ويعطي هذا هذا . قال السدّي ، وابن زيد { سخرنا } خولا وخدما ، يسخر الأغنياء الفقراء ، فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض . وقال قتادة ، والضحاك ليملك بعضهم بعضاً ، وقيل هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء ، وهذا وإن كان مطابقاً للمعنى اللغوي ، ولكنه بعيد من معنى القرآن ، ومنافٍ لما هو مقصود السياق { وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } يعني بالرحمة ما أعدّه الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة ، وقيل هي النبوّة لأنها المراد بالرحمة المتقدّمة في قوله { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } ولا مانع من أن يراد كلّ ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولاً أو بدلاً ، ومعنى { مّمَّا يَجْمَعُونَ } ما يجمعونه من الأموال ، وسائر متاع الدنيا . ثم بيّن سبحانه حقارة الدنيا عنده ، فقال { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً } أي لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلاً إلى الدنيا ، وزخرفها { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ } جمع الضمير في بيوتهم ، وأفرده في يكفر باعتبار معنى من ولفظها ، ولبيوتهم بدل اشتمال من الموصول ، والسقف جمع سقف . قرأ الجمهور بضمّ السين ، والقاف كَرَهْن ، ورُهُن . قال أبو عبيدة ولا ثالث لهما . وقال الفراء هو جمع سقيف نحو كثيب ، وكثب ، ورغيف ، ورغف ، وقيل هو جمع سقوف ، فيكون جمعاً للجمع . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتح السين ، وإسكان القاف على الإفراد ، ومعناه الجمع لكونه للجنس . قال الحسن معنى الآية لولا أن يكفر الناس جميعاً بسبب ميلهم إلى الدنيا ، وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه ، لهوان الدنيا عند الله ، وقال بهذا أكثر المفسرين . وقال ابن زيد لولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا ، واختيارهم لها على الآخرة . وقال الكسائي المعنى لولا أن يكون في الكفار غنيّ ، وفقير ، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها { وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } المعارج الدرج جمع معراج ، والمعراج السلم . قال الأخفش إن شئت جعلت الواحدة مَعْرَج ، ومِعْرَج مثل مَرْقاة ، ومِرْقاة ، والمعنى فجعلنا لهم معارج من فضة عليها يظهرون ، أي على المعارج يرتقون ، ويصعدون ، يقال ظهرت على البيت أي علوت سطحه ، ومنه قول النابغة @ بلغنا السماء مجداً وفخراً وسؤددا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا @@ أي مصعداً { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰباً وَسُرُراً } أي وجعلنا لبيوتهم أبواباً من فضة ، وسرراً من فضة { عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } أي على السرر ، وهو جمع سرير ، وقيل جمع أسرة ، فيكون جمعاً للجمع ، والاتكاء ، والتوكؤ التحامل على الشيء ، ومنه { أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } طه 18 واتكأ على الشيء ، فهو متكأ ، والموضع متكىء ، والزخرف الذهب . وقيل الزينة أعمّ من أن تكون ذهباً ، أو غيره . قال ابن زيد هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة ، والأثاث . وقال الحسن النقوش ، وأصله الزينة ، يقال زخرفت الدار أي زينتها ، وانتصاب { زخرفاً } بفعل مقدّر ، أي وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً ، أو بنزع الخافض ، أي أبواباً ، وسرراً من فضة ، ومن ذهب ، فلما حذف الخافض انتصب . ثم أخبر سبحانه أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا ، فقال { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } قرأ الجمهور لما بالتخفيف ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، وهاشم عن ابن عامر بالتشديد . فعلى القراءة الأولى تكون إن هي المخففة من الثقيلة ، وعلى القراءة الثانية هي النافية ، و " لما " بمعنى إلاّ ، أي ما كل ذلك إلاّ شيء يتمتع به في الدنيا . وقرأ أبو رجاء بكسر اللام من لما على أن اللام للعلة ، وما موصولة ، والعائد محذوف ، أي للذي هو متاع { وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي لمن اتقى الشرك ، والمعاصي ، وآمن بالله وحده ، وعمل بطاعته ، فإنها الباقية التي لا تفنى ، ونعيمها الدائم الذي لا يزول . وقد أخرج ابن جرير ، عن ابن عباس { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا } قال على دين . وأخرج عبد بن حميد عنه { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَـٰقِيَةً } قال لا إلٰه إلاّ الله { فِى عَقِبِهِ } قال عقب إبراهيم ولده . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضاً أنه سئل عن قول الله { لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } ما القريتان ؟ قال الطائف ، ومكة ، قيل فمن الرجلان ؟ قال عمير بن مسعود ، وخيار قريش . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً قال يعني بالقريتين مكة والطائف ، والعظيم الوليد بن المغيرة القرشي ، وحبيب بن عمير الثقفي . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال يعنون أشرف من محمد الوليد بن المغيرة من أهل مكة ، ومسعود بن عمرو الثقفي من أهل الطائف . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { لَّوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً } الآية يقول لولا أن أجعل الناس كلهم كفاراً لجعلت لبيوت الكفار سقفاً من فضة ، ومعارج من فضة ، وهي درج عليها يصعدون إلى الغرف ، وسرر فضة ، وزخرفاً وهو الذهب . وأخرج الترمذي وصححه ، وابن ماجه ، عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء " .