Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 68-75)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { عَلَىٰ شَىْء } فيه تحقير وتقليل لما هم عليه ، أي لستم على شيء يعتدّ به حتى تقيموا التوراة والإنجيل ، أي تعملوا بما فيهما من أوامر الله ونواهيه التي من جملتها أمركم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، ونهيكم عن مخالفته . قال أبو عليّ الفارسي ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما . قوله { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ } قيل هو القرآن ، فإن إقامة الكتابين لا تصح بغير إقامته ، ويجوز أن يكون المراد ما أنزل إليهم على لسان الأنبياء من غير الكتابين . قوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـٰناً وَكُفْراً } أي كفراً إلى كفرهم وطغياناً إلى طغيانهم ، والمراد بالكثير منهم من لم يسلم ، واستمرّ على المعاندة وقيل المراد به العلماء منهم ، وتصدير هذه الجملة بالقسم لتأكيد مضمونها ، قوله { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي دع عنك التأسف على هؤلاء ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم ونازل بهم ، وفي المتبعين لك من المؤمنين غنى لك عنهم . قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } إلخ ، جملة مستأنفة لترغيب من عداهم من المؤمنين . والمراد بالمؤمنين هنا الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون { وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } أي دخلوا في دين اليهود { والصابئون } مرتفع على الابتداء وخبره محذوف ، والتقدير والصابئون والنصارى كذلك . قال الخليل وسيبويه الرفع محمول على التقديم والتأخير ، والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر ، وعمل صالحاً ، فلا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك ، وأنشد سيبويه ، قول الشاعر @ وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق @@ أي وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، ومثله قول ضابي البرجمي @ فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب @@ أي فإني لغريب وقيار كذلك . وقال الكسائي والأخفش إن { الصابئون } معطوف على المضمر في { هادوا } . قال النحاس سمعت الزجاج يقول وقد ذكر له قول الكسائي والأخفش هذا خطأ من وجهين أحدهما أن المضمر المرفوع لا يعطف عليه حتى يؤكد . وثانيهما أن المعطوف شريك المعطوف عليه ، فيصير المعنى إن الصابئين قد دخلوا في اليهودية ، وهذا محال . وقال الفراء إنما جاز الرفع لأن إن ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر ، فعلى هذا هو عنده معطوف على محل اسم إنّ ، أو على مجموع إنّ واسمها ، وقيل إنّ خبر إن مقدر ، والجملة الآتية خبر الصابئون والنصارى ، كما في قول الشاعر @ نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف @@ وقيل إنّ " إن " هنا بمعنى نعم فالصابون مرتفع بالابتداء ، ومثله قول قيس بن الرقيات @ بكر العـواذل في الصبا ح يلمنني وألومهنـه ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه @@ قال الأخفش إنه بمعنى نعم والهاء للسكت . وقد تقدم الكلام على الصابئين والنصارى في البقرة ، وقرىء " الصابيون " صريحة تخفيفاً للهمزة ، وقرىء " الصابون " بدون ياء ، وهو من صبا يصبو لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى ، وقرىء « والصابئين » عطفاً على اسم إن قوله { مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ } مبتدأ وخبره { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } والمبتدأ خبره خبر لأنّ ، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، والعائد إلى اسم إن محذوف أي من آمن منهم ، ويجوز أن يكون { من آمن } بدلاً من اسم " إن " وما عطف عليه ، ويكون خبر " إنّ " { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } والمعنى على تقدير كون المراد الذين آمنوا المنافقين كما قدّمنا أن من آمن من هذه الطوائف إيماناً خالصاً على الوجه المطلوب ، وعمل عملاً صالحاً ، فهو الذي لا خوف عليه ولا حزن ، وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا جميع أهل الإسلام المخلص والمنافق ، فالمراد بمن آمن من اتصف بالإيمان الخالص واستمرّ عليه ، ومن أحدث إيماناً خالصاً بعد نفاقه . قوله { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ } كلام مبتدأ لبيان بعض أفعالهم الخبيثة . وقد تقدّم في البقرة بيان معنى الميثاق { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً } ليعرّفوهم بالشرائع وينذروهم { كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ } جملة شرطية وقعت جواباً لسؤال ناس من الأحبار بإرسال الرسل كأنه قيل ماذا فعلوا بالرسل ؟ وجواب الشرط محذوف أي عصوه . وقوله { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } جملة مستأنفة أيضاً جواب عن سؤال ناس عن الجواب الأوّل كأنه قيل كيف فعلوا بهم ؟ فقيل فريقاً منهم كذبوهم ولم يتعرضوا لهم بضرر ، وفريقاً آخر منهم قتلوهم ، وإنما قال { وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } لمراعاة رؤوس الآي ، فمن كذبوه عيسى وأمثاله من الأنبياء ، وممن قتلوه زكريا ويحيـى . قوله { وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي حسب هؤلاء الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد اعتزازاً بقولهم { نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } المائدة 18 قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " تَكُون " بالرفع على أنّ " إن " هي المخففة من الثقيلة ، و { حسب } بمعنى علم ، لأن " أن " معناها التحقيق . وقرأ الباقون بالنصب على أن " أنّ " ناصبة للفعل ، " وحسب " بمعنى الظن ، قال النحاس والرفع عند النحويين في حسبت وأخواتها أجود ، ومثله @ ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي @@ قوله { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } أي عموا عن إبصار الهدى ، وصموا عن استماع الحق ، وهذه إشارة إلى ما وقع من بني إسرائيل في الابتداء من مخالفة أحكام التوراة ، وقتل شعيا ، ثم تاب الله عليهم حين تابوا ، فكشف عنهم القحط { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ } وهذا إشارة إلى ما وقع منهم بعد التوبة من قتل يحيـى بن زكريا وقصدهم لقتل عيسى ، وارتفاع { كَثِيرٍ } على البدل من الضمير في الفعلين . قال الأخفش كما تقول رأيت قومك ثلاثتهم ، وإن شئت كان على إضمار مبتدأ أي العمى والصمّ كثير منهم ، ويجوز أن يكون كثير مرتفعاً على الفاعلية على لغة من قال أكلوني البراغيث ، ومنه قول الشاعر @ ولكن ديافيّ أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه @@ وقرىء " عموا وصموا " بالبناء للمفعول أي أعماهم الله وأصمهم . قوله { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض فضائح أهل الكتاب ، والقائلون بهذه المقالة هم فرقة منهم يقال لهم اليعقوبية وقيل هم الملكانية ، قالوا إن الله عز وجل حلّ في ذات عيسى ، فردّ الله عليهم بقوله { وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْرٰءيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ } أي والحال أنه قد قال المسيح هذه المقالة ، فكيف يدّعون الإلٰهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم ؟ قوله { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ } الضمير للشأن ، وهذا كلام مبتدأ يتضمن بيان أن الشرك يوجب تحريم دخول الجنة ، وقيل هو من قول عيسى { وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ينصرونهم فيدخلونهم الجنة أو يخلصونهم من النار . قوله { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ } وهذا كلام أيضاً مبتدأ لبيان بعض مخازيهم . والمراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة ، ولهذا يضاف إلى ما بعده ، ولا يجوز فيه التنوين كما قال الزجاج وغيره ، وإنما ينوّن وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة ، والقائل بأنه سبحانه وتعالى ثالث ثلاثة هم النصارى ، والمراد بالثلاثة الله سبحانه ، وعيسى ، ومريم كما يدل عليه قوله { أَأَنت قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن } المائدة 116 وهذا هو المراد بقولهم ثلاثة أقانيم إقنيم الأب وإقنيم الابن ، وإقنيم روح القدس ، وقد تقدّم في سورة النساء كلام في هذا ، ثم رد الله سبحانه عليهم هذه الدعوى الباطلة فقال { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } أي ليس في الوجود إلا الله سبحانه ، وهذه الجملة حالية ، والمعنى قالوا تلك المقالة ، والحال أنه لا موجود إلا الله ، و " من " في قوله { مِنْ إِلَـهٍ } لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } من الكفر ، { لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } جواب قسم محذوف سادّ مسدّ جواب الشرط ، و " من " في { مِنْهُمْ } بيانية أو تبعيضية { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } الفاء للعطف على مقدّر ، والهمزة للإنكار . قوله { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } أي هو مقصور على الرسالة ، لا يجاوزها كما زعمتم ، وجملة { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } صفة لرسول أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله ، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلٰهاً ، فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها ، فإن الله أحيا العصا في يد موسى ، وخلق آدم من غير أب ، فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ، ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلٰهاً ؟ فإن كان كما تزعمون إلٰهاً لذلك ، فمن قبله من الرسل الذين جاؤوا بمثل ما جاء به آلهة ، وأنتم لا تقولون بذلك . قوله { وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ } عطف على المسيح ، أي وما أمه إلا صدّيقة أي صادقة فيما تقوله أو مصدّقة لما جاء به ولدها من الرسالة ، وذلك لا يستلزم الإلٰهية لها ، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء . قوله { كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر ، أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس بربّ ، بل هو عبد مربوب ولدته النساء ، فمتى يصلح لأن يكون رباً ؟ وأما قولكم إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته ، فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإلٰه بغير الإلٰه واجتماع الناسوت واللاهوت ، ولو جاز اختلاط القديم بالحادث لجاز أن يكون القديم حادثاً ، ولو صحّ هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد { ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ ٱلآيَـٰتِ } أي الدلالات ، وفيه تعجيب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلٰهية ، ويغفلون عن كونها موجودة في من لا يقولون بأنه إلٰه { ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان ؟ يقال أفكه يأفكه إذا صرفه ، وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ، وجاء بـ { ثم } لإظهار ما بين العجبين من التفاوت . وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس قال جاء نافع بن حارثة وسلام بن مشكم ، ومالك بن الصيف ، ورافع بن حرملة فقالوا يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ، وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق ، وكفرتم منها بما أمرتم أن تبينوه للناس ، فبرئت من إحداثكم " ، قالوا فإنا نأخذ بما في أيدينا وإنا على الهدى والحق ، ولا نؤمن بك ولا نتبعك ، فأنزل الله فيهم { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَىْء حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ } إلى قوله { ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن في قوله { وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } قال بلاء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ } قال النصارى يقولون إن الله ثالث ثلاثة وكذبوا . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال تفرّقت بنو إسرائيل ثلاث فرق في عيسى ، فقالت فرقة هو الله ، وقالت فرقة هو ابن الله ، وقالت فرقة هو عبد الله وروحه ، وهي المقتصدة وهي مسلمة أهل الكتاب .