Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 82-86)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { لَتَجِدَنَّ } الخ هذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تعداد مساوىء اليهود وهناتهم ، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيداً وتقريراً ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز . والمعنى في الآية أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشدّ جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك . وأن النصارى أقرب الناس مودّة للمؤمنين ، واللام في { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } في الموضعين متعلقة بمحذوف وقع صفة لعداوة ومودّة ، وقيل هو متعلق بعداوة ومودة والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى كونهم أقرب مودّة ، والباء في { بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ } للسببية أي ذلك بسبب أن منهم قسيسين ، وهو جمع قسّ وقسيس قاله قطرب . والقسيس العالم ، وأصله من قسّ إذا تتبع الشيء وطلبه . قال الراجز @ يصبحن عن قسّ الأذى غوافلا @@ وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها والقسّ النميمة . والقسّ أيضاً رئيس النصارى في الدين والعلم ، وجمعه قسوس أيضاً ، وكذلك القسيس مثل الشرّ والشرّير ، ويقال في جمع قسيس تكسيراً قساوسة بإبدال أحد السينين واواً ، والأصل قساسة ، فالمراد بالقسيسين في الآية المتبعون للعلماء والعباد ، وهو إما عجميّ خلطته العرب بكلامها ، أو عربيّ ، والرهبان جمع راهب كركبان وراكب ، والفعل رهب الله يرهبه أي خافه . والرهبانية والترهب التعبد في الصوامع . قال أبو عبيد وقد يكون رهبان للواحد والجمع . قال الفراء ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهبان ورهابين كقربان وقرابين . وقد قال جرير في الجمع @ رهبان مدين لو رأوك ترهبوا @@ وقال الشاعر في استعمال رهبان مفرداً @ لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبـان يسعى ونزل @@ ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم لا يستكبرون عن قول الحق ، بل هم متواضعون ، بخلاف اليهود فإنهم على ضدّ ذلك ، وهذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ } معطوف على جملة { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } . { تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } أي تمتلىء فتفيض ، لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء ، جعل الأعين تفيض ، والفائض إنما هو الدمع قصداً للمبالغة كقولهم دمعت عينه . قال امرؤ القيس @ ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بلّ دمعي محملي @@ قوله { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقّ } من الأولى لابتداء الغاية ، والثانية بيانية ، أي كان ابتداء الفيض ناشئاً من معرفة الحق ، ويجوز أن تكون الثانية تبعيضية ، وقرىء " تَرَى أَعْيُنَهُم " على البناء للمجهول . وقوله { يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا } استئناف مسوق لجواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل فما حالهم عند سماع القرآن ؟ فقال { يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه { فاكتبنا مع الشاهدين } على الناس يوم القيامة ، من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق ، أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس . قوله { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } كلام مستأنف ، والاستفهام للاستبعاد { وَلَنَا } متعلق بمحذوف ، و { لاَ نُؤْمِنُ } في محل نصب في الحال ، والتقدير أيّ شيء حصل لنا حال كوننا لا نؤمن بالله وبما جاءنا من الحق ؟ والمعنى أنهم استبعدوا انتفاء الإيمان منهم مع جود المقتضى له ، وهو الطمع في إنعام الله ، فالاستفهام والنفي متوجهان إلى القيد والمقيد جميعاً كقوله تعالى { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } نوح 13 ، والواو في { وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّـٰلِحِينَ } للحال أيضاً بتقدير مبتدأ أي ، أيّ شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في الدخول مع الصالحين ؟ فالحال الأولى والثانية صاحبهما الضمير في { لَنَا } وعاملها الفعل المقدّر أي حصل ، ويجوز أن تكون الحال الثانية من الضمير في { نُؤْمِنُ } والتقدير وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع في صحبة الصالحين . قوله { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ } الخ أثابهم على هذا القول مخلصين له معتقدين لمضمونه . قوله { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ } التكذيب بالآيات كفر ، فهو من باب عطف الخاص على العام . والجحيم النار الشديدة الإيقاد ، ويقال جحم فلان النار إذا شدّد إيقادها ، ويقال أيضاً لعين الأسد جحمة لشدّة اتقادها . قال الشاعر @ والحرب لا تبقى لجا حمها التحيل والمزاح @@ وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد ، في قوله { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً } الآية قال هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما خلا يهوديّ بمسلم إلا همّ بقتله " وفي لفظ " إلا حدّث نفسه بقتله " قال ابن كثير وهو غريب جدّاً . وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال ما ذكر الله به النصارى من خير فإنما يراد به النجاشي وأصحابه . وأخرج أبو الشيخ عنه قال هم ناس من الحبشة آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم . وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } . وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم ، في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعروة بن الزبير قالوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتاباً إلى النجاشي ، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه ، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ عليهم سورة مريم ، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع ، وهم الذين أنزل الله فيهم { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً } إلى قوله { مّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، عن سعيد بن جبير في الآية قال هم رسل النجاشي بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلاً يختارهم من قومه ، الخير فالخير ، في الفقه والسنّ ، وفي لفظ بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يسۤ ، فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ، فأنزل الله فيهم { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً } . الآية ونزلت هذه الآية فيهم أيضاً { ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } القصص 52 إلى قوله { أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } القصص 54 . وأخرج عبد بن حميد ، والطبراني ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، عن ابن عباس نحوه بدون ذكر العدد . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي قال بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلاً ، سبعة قسيسين وخمسة رهباناً ، ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله فيهم { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ } الآية ، والروايات في هذا الباب كثيرة ، وهذا المقدار يكفي ، فليس المراد إلا بيان سبب نزول الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { قِسّيسِينَ } قال هم علماؤهم . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال القسيسون عبادهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم .