Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 87-88)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الطيبات هي المستلذات لما أحلّه الله لعباده ، نهى الذين آمنوا عن أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً منهم ، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقرّباً إليه ، وأنه من الزهد في الدنيا فرفع النفس عن شهواتها ، أو لقصد أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً مما أحلّه لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم حرام عليّ ، وحرّمته على نفسي ، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني . قال ابن جرير الطبري لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ، ولذلك ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون . فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده ، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَنَّه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون ، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . فإذا كان ذلك كذلك ، تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله ، وآثر أكل الخشن من الطعام ، وترك اللحم ، وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء . قال فإن ظن ظانّ أن الفضل في غير الذي قلنا لِما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة ، فقد ظنّ خطأ ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ، ولا شيء أضرّ للجسم من المطاعم الردية ، لأنها مفسدة لعقله ، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته . قوله { وَلاَ تَعْتَدُواْ } أي لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحلّ الله لكم ، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرّم الله عليكم أي تترخصوا فتحللوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال . وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرّم على نفسه شيئاً مما أحله الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة . وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما إن من حرّم شيئاً صار محرّماً عليه ، وإذا تناوله لزمته الكفارة ، وهو خلاف ما في هذه الآية ، وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } تعليل لما قبله ، وظاهره أن تحريم كل اعتداء أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } حال كونه { حَلَـٰلاً طَيّباً } أي غير محرّم ولا مستقذر ، أو أكلا حلالاً طيباً ، أو كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله ، ثم وصاهم الله سبحانه بالتقوى فقال { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } . وقد أخرج الترمذي وحسّنه وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن عديّ في الكامل ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ، إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء ، وأخذتني شهوة ، وإني حرّمت عليّ اللحم ، فنزلت { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } . وقد روي من وجه آخر مرسلاً ، وروي موقوفاً على ابن عباس . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عنه في الآية قال نزلت في رهط من الصحابة قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك فقالوا نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما ، من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، في المراسيل ، وابن جرير ، عن أبي مالك أن هؤلاء الرهط هم عثمان بن مظعون وأصحابه . وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى ، وكثير منها مصرّح بأن ذلك سبب نزول الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله ، وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله ، فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له ، فقال لامرأته حبست ضيفي من أجلي هو حرام عليّ ، فقالت امرأته هو حرام عليّ فقال الضيف هو حرام عليّ ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال كلوا بسم الله ، ثم ذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد أصبت " فأنزل الله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } وهذا أثر منقطع ، ولكن في صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه ما هو شبيه بهذا . وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال كنا عند عبد الله فجيء بضرع ، فتنحى رجل ، فقال له عبد الله ادن ، فقال إني حرّمت أن آكله ، فقال عبد الله ادن فاطعم وكفر عن يمينك ، وتلا هذه الآية . وأخرجه أيضاً الحاكم في مستدركه ، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .