Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 90-93)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } خطاب لجميع المؤمنين . وقد تقدم تفسير الميسر في سورة البقرة { وَٱلأنصَابُ } هي الأصنام المنصوبة للعبادة ، { وَٱلأزْلاَمُ } . قد تقدّم تفسيرها في أوّل هذه السورة ، والرجس يطلق على العذرة والأقذار ، وهو خبر للخمر ، وخبر المعطوف عليه محذوف . وقوله { مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } صفة لرجس أي كائن من عمل الشيطان ، بسبب تحسينه لذلك وتزيينه له . وقيل هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه فاقتدى به بنو آدم والضمير في { فَٱجْتَنِبُوهُ } راجع إلى الرجس أو إلى المذكور . وقوله { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } علة لما قبله . قال في الكشاف أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد ، منها تصدير الجملة بإنما ، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " شارب الخمر كعابد الوثن " ، ومنها أنه جعلهما رجساً ، كما قال { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَـٰنِ } الحج 30 ، ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان ، والشيطان لا يأتي منه إلا الشرّ البحت ، ومنها أنه أمر بالاجتناب ، ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة ومحقة ، ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال ، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر ، وما يؤديان إليه من الصدّ عن ذكر الله ، وعن مراعاة أوقات الصلوات انتهى . وفي هذه الآية دليل على تحريم الخمر لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصدّ ، ولما تقرّر في الشريعة من تحريم قربان الرجس ، فضلاً عن جعله شراباً يشرب . قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة ، لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان إلى قلوبهم ، فأوّل ما نزل في أمرها { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ } البقرة 219 فترك عند ذلك بعص من المسلمين شربها ، ولم يتركه آخرون ، ثم نزل قوله تعالى { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } النساء 43 فتركها البعض أيضاً ، وقالوا لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة ، حتى نزلت هذه الآية { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } فصارت حراماً عليهم ، حتى كان يقول بعضهم ما حرّم الله شيئاً أشدّ من الخمر ، وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر ، وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها ، وأنها من كبائر الذنوب . وقد أجمع على ذلك المسلمون إجماعاً لا شك فيه ولا شبهة ، وأجمعوا أيضاً على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمراً ، وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر ، دلت أيضاً على تحريم الميسر ، والأنصاب ، والأزلام . وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء } ومن المفاسد الدينية بقوله { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ } . قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فيه زجر بليغ يفيده الاستفهام الدال على التقريع والتوبيخ . ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع هذا انتهينا ، ثم أكد الله سبحانه هذا التحريم بقوله { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ } أي مخالفتهما أي مخالفة الله ورسوله ، فإن هذا وإن كان أمراً مطلقاً فالمجيء به في هذا الموضع يفيد ما ذكرناه من التأكيد ، وهكذا ما أفاده بقوله { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ } أي إن أعرضتم عن الامتثال ، فقد فعل الرسول ما هو الواجب عليه من البلاغ الذي فيه رشادكم وصلاحكم ، ولم تضرّوا بالمخالفة إلا أنفسكم ، وفي هذا من الزجر ما لا يقدر قدره ولا يبلغ مداه . قوله { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } أي من المطاعم التي يشتهونها ، والطعم وإن كان استعماله في الأكل أكثر لكنه يجوز استعماله في الشرب ، ومنه قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى } البقرة 249 أباح الله سبحانه لهم في هذه الآية جميع ما طعموا كائناً ما كان مقيداً بقوله { إِذَا مَا ٱتَّقَواْ } أي اتقوا ما هو محرّم عليهم كالخمر وغيره من الكبائر ، وجميع المعاصي { وَءامَنُواْ } بالله { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } من الأعمال التي شرعها الله لهم أي استمروا على عملها . قوله { ثُمَّ اتَّقَواْ } عطف على اتقوا الأوّل ، أي اتقوا ما حرّم عليهم بعد ذلك مع كونه كان مباحاً فيما سبق { وَءامَنُواْ } بتحريمه { ثُمَّ اتَّقَواْ } ما حرّم عليهم بعد التحريم المذكور قبله مما كان مباحاً من قبل { وَأَحْسِنُواْ } أي عملوا الأعمال الحسنة ، هذا معنى الآية وقيل التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة وقيل إن التكرير باعتبار المراتب الثلاث ، المبدأ ، والوسط ، والمنتهى وقيل إن التكرار باعتبار ما يتقيه الإنسان ، فإنه ينبغي له أن يترك المحرّمات توقياً من العذاب ، والشبهات توقياً من الوقوع في الحرام ، وبعض المباحات حفظاً للنفس عن الخسة وقيل إنه لمجرّد التأكيد ، كما في قوله تعالى { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } التكاثر 3 ، 4 ، هذه الوجوه كلها مع قطع النظر عن سبب نزول الآية إما مع النظر إلى سبب نزولها ، وهو أنه لما نزل تحريم الخمر ، قال قوم من الصحابة كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ؟ فنزلت ، فقد قيل إن المعنى { ٱتَّقَوْاْ } الشرك { وَءامَنُواْ } بالله ورسوله { ثُمَّ اتَّقَواْ } الكبائر { وَءامَنُواْ } أي ازدادوا إيماناً { ثُمَّ اتَّقَواْ } الصغائر { وَأَحْسِنُواْ } أي تنفلوا . قال ابن جرير الطبري الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل ، والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق ، والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرّب بالنوافل . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عمر قال نزل في الخمر ثلاث آيات ، فأول شيء { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } البقرة 219 الآية ، فقيل حرّمت الخمر ، فقيل يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله ، فسكت عنهم ، ثم نزلت هذه الآية { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } النساء 43 ، فقيل حرّمت الخمر ، فقالوا يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة ، فسكت عنهم ، ثم نزلت { يَـاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حرّمت الخمر " وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال حرّمت الخمر ثلاث مرات ، وذكر نحو حديث ابن عمر ، فقال الناس يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فراشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان ، فأنزل الله { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } الآية ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم " لو حرّم عليهم لتركوه كما تركتم " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن سعد بن أبي وقاص قال فيّ نزل تحريم الخمر ، صنع رجل من الأنصار طعاماً ، فدعا ناساً ، فأتوه ، فأكلوا وشربوا ، حتى انتشوا من الخمر ، وذلك قبل تحريم الخمر فتفاخروا ، فقالت الأنصار الأنصار خير من المهاجرين ، وقالت قريش قريش خير ، فأهوى رجل بلحى جمل فضرب على أنفي ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فنزلت هذه الآية { يَـاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِر } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس قال أنزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا ، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته ، فيقول صنع بي هذا أخي فلان وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله هذه الآية { يَـاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } إلى قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فقال ناس من المتكلفين هي رجس ، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر ، وفلان قتل يوم أحد ؟ فأنزل الله هذه الآية { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } الآية . وقد رويت في سبب النزول روايات كثيرة موافقة لما قد ذكرناه . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال الميسر هو القمار كله . وأخرج ابن مردويه ، عن وهب بن كيسان قال قلت لجابر متى حرّمت الخمر ؟ قال بعد أحد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة قال نزل تحريم الخمر في سورة المائدة ، بعد غزوة الأحزاب . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والطبراني ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس قال كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن عليّ بن أبي طالب قال النرد والشطرنج من الميسر . وأخرج عبد بن حميد عن عليّ قال الشطرنج ميسر الأعاجم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن القاسم بن محمد ، أنه سئل عن النرد أهي من الميسر ؟ قال كل من ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي ، والبيهقي في الشعب ، عنه أيضاً أنه قيل له هذه النرد تكرهونها فما بال الشطرنج ؟ قال كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر . وأخرجوا أيضاً عن ابن الزبير قال يا أهل مكة بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها النردشير ، والله يقول في كتابه { يَـاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } إلى قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } وإني أحلف بالله لا أوتى بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره ، وأعطيت سلبه من أتاني به . وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن أنس قال الشطرنج من النرد ، بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فأحرقها . وأخرج ابن أبي الدنيا ، عن عبد الله بن عمير قال سئل ابن عمر عن الشطرنج ؟ فقال هي شرّ من النرد . وأخرج ابن أبي الدنيا ، عن عبد الملك بن عبيد قال رأى رجل من أهل الشام أنه يغفر لكل مؤمن في كل يوم اثنتي عشرة مرّة إلا أصحاب الشاه ، يعني أصحاب الشطرنج . وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي جعفر أنه سئل عن الشطرنج ، فقال تلك المجوسية فلا تلعبوا بها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله " وأخرج أحمد عن عبد الرحيم الخطمي ، سمعت رسول الله يقول " مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي " وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر قال اللاعب بالنرد قماراً كآكل لحم الخنزير ، واللاعب بها من غير قمار كالمدّهن بودك الخنزير . وأخرج ابن أبي الدنيا ، عن يحيى بن كثير قال مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يلعبون بالنرد فقال " قلوب لاهية وأيدي عليلة وألسنة لاغية " وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وأبو الشيخ ، عن قتادة قال الميسر القمار . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، من طريق ليث عن عطاء وطاوس ، ومجاهد قالوا كل شيء فيه قمار ، فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، وأبو الشيخ عن ابن سيرين قال القمار من الميسر . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وأبو الشيخ ، عنه قال ما كان من لعب فيه قمار ، أو قيام أو صياح ، أو شرّ ، فهو من الميسر . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن يزيد بن شريح ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث من الميسر الصفير بالحمام ، والقمار ، والضرب بالكعاب " وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال الأنصاب حجارة كانوا يذبحون لها ، والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها الأمور . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال كانت لهم حصيات إذا أراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الأزلام قال هي كعاب فارس التي يقتمرون بها ، وسهام العرب . وقد وردت أحاديث كثيرة في ذمّ الخمر وشاربها ، والوعيد الشديد عليها ، وأن كل مسكر حرام ، وهي مدوّنة في كتب الحديث ، فلا نطوّل المقام بذكرها ، فلسنا بصدد ذلك ، بل نحن بصدد ما هو متعلق بالتفسير .