Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 57-74)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { نَحْنُ خَلَقْنَـٰكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ } التفت سبحانه إلى خطاب الكفرة تبكيتاً لهم ، وإلزاماً للحجة ، أي فهلا تصدّقون بالبعث ، أو بالخلق . قال مقاتل خلقناكم ولم تكونوا شيئًا ، وأنتم تعلمون ذلك ، فهلا تصدّقون بالبعث ؟ { أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } أي ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف ، ومعنى { أَفَرَءيْتُم } أخبروني ، ومفعولها الأوّل { ما تمنون } ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي { ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَـٰلِقُونَ } أي تقدّرونه وتصوّرونه بشراً سوياً أم نحن المقدرون المصوّرون له ، و " أم " هي المتصلة ، وقيل هي المنقطعة ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور تمنون بضم الفوقية من أمنى يمني . وقرأ ابن عباس ، وأبو السماك ، ومحمد بن السميفع ، والأشهب العقيلي بفتحها من منى يمني ، وهما لغتان ، وقيل معناهما مختلف ، يقال أمنى إذا أنزل عن جماع ، ومنى إذا أنزل عن احتلام ، وسمي المنيّ منياً لأنه يمني ، أي يراق . { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } قرأ الجمهور { قدّرنا } بالتشديد ، وقرأ مجاهد ، وحميد ، وابن محيصن ، وابن كثير بالتخفيف ، وهما لغتان ، يقال قدرت الشيء وقدّرته ، أي قسمناه عليكم ، ووقتناه لكل فرد من أفرادكم ، وقيل قضينا ، وقيل كتبنا ، والمعنى متقارب . قال مقاتل فمنكم من يموت كبيراً ، ومنكم من يموت صغيراً . وقال الضحاك معناه أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } بمغلوبين ، بل قادرين . { عَلَىٰ أَن نُّبَدّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ } أي نأتي بخلق مثلكم . قال الزجاج إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا . قال ابن جرير المعنى نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدّل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم ، وما نحن بمسبوقين في آجالكم ، أي لا يتقدّم متأخر ، ولا يتأخر متقدّم { وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ } من الصور والهيئات . قال الحسن أي نجعلكم قردة وخنازير ، كما فعلنا بأقوام قبلكم ، وقيل المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا . وقال سعيد بن المسيب { فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعني في حواصل طيور سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف ، وبرهوت واد باليمن . وقال مجاهد { فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعني في أيّ خلق شئنا ، ومن كان قادراً على هذا فهو قادر على البعث { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأولَىٰ } وهي ابتداء الخلق من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ولم تكونوا قبل ذلك شيئًا . وقال قتادة ، والضحاك يعني خلق آدم من تراب { فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } أي فهلا تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة ، وتقيسونها على النشأة الأولى . قرأ الجمهور { النشأة } بالقصر ، وقرأ مجاهد ، والحسن ، وابن كثير ، وأبو عمرو بالمد ، وقد مضى تفسير هذا في سورة العنكبوت . { أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } أي أخبروني ما تحرثون من أرضكم ، فتطرحون فيه البذر { ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } أي تنبتونه وتجعلونه زرعاً ، فيكون فيه السنبل والحبّ { أَمْ نَحْنُ ٱلزرِعُونَ } أي المنبتون له الجاعلون له زرعاً لا أنتم . قال المبرد يقال زرعه الله أي أنماه ، فإذا أقررتم بهذا ، فكيف تنكرون البعث { لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَـٰماً } أي لو نشاء لجعلنا ما تحرثون حطاماً ، أي متحطماً متكسراً ، والحطام الهشم الذي لا ينتفع به ، ولا يحصل منه حبّ ، ولا شيء مما يطلب من الحرث { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } أي صرتم تعجبون . قال الفرّاء تفكهون تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم . قال في الصحاح وتفكه تعجب ، ويقال تندّم . قال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما معنى الآية تعجبون من ذهابها ، وتندمون مما حلّ بكم . وقال عكرمة تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله . وقال أبو عمرو ، والكسائي هو التلهف على ما فات . قرأ الجمهور { فظلتم } بفتح الظاء مع لام واحدة . وقرأ أبو حيوة ، وأبو بكر في رواية عنه بكسر الظاء . وقرأ ابن عباس ، والجحدري { فظللتم } بلامين أولاهما مكسورة على الأصل ، وروي عن الجحدري فتحها ، وهي لغة . وقرأ الجمهور تفكهون وقرأ أبو حزام العكلي تفكنون بالنون مكان الهاء أي تندمون . قال ابن خالويه تفكه تعجب ، وتفكن تندم . وفي الصحاح التفكن التندم { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } قرأ الجمهور بهمزة واحدة على الخبر ، وقرأ أبو بكر ، والمفضل ، وزرّ بن حبيش بهمزتين على الاستفهام ، والجملة بتقدير القول أي تقولون إنا لمغرمون ، أي ملزمون غرماً بما هلك من زرعنا ، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض ، قاله الضحاك ، وابن كيسان . وقيل المعنى إنا لمعذبون ، قاله قتادة ، وغيره . وقال مجاهد ، وعكرمة لمولع بنا ، ومنه قول النمر بن تولب @ سَلاَ عن تَذكَّره تكتما وكان رَهيناً بها مُغْرَمَاً @@ يقال أغرم فلان بفلان ، أي أولع . وقال مقاتل مهلكون . قال النحاس مأخوذ من الغرام ، وهو الهلاك ، ومنه قول الشاعر @ ويوم النسِّارِ ويومُ الجبار كان عليكم عذاباً مقيماً @@ والظاهر من السياق المعنى الأول ، أي إنا لمغرمون بذهاب ما حرثناه ، ومصيره حطاماً ، ثم أضربوا عن قولهم هذا ، وانتقلوا فقالوا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا ، والمحروم الممنوع من الرزق الذي لا حظ له فيه ، وهو المحارف . { أَفَرَءيْتُمُ ٱلْمَاء ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ } ، فتسكنون به ما يلحقكم من العطش ، وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ . واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثرة فوائد الماء ومنافعه لأنه أعظم فوائده ، وأجلّ منافعه { ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ } أي السحاب . قال في الصحاح قال أبو زيد المزنةالسحابة البيضاء ، والجمع مزن ، والمزنة المطر . قال الشاعر @ ألَمْ تَر أنَّ الله أنْزَلَ مُزْنَة وعُفُرُ الظِّبَاءِ في الكِنَاس تَقَمَّعُ @@ ومما يدل على أنه السحاب قول الشاعر @ فنحنُ كماءِ المزْنِ مافي نصابنا كَهَام ولا فينا يُعدّ بَخيلُ @@ وقول الآخر @ فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها @@ { أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } له بقدرتنا دون غيرنا ، فإذا عرفتم ذلك ، فكيف لا تقرّون بالتوحيد ، وتصدّقون بالبعث . ثم بيّن لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة فقال { لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجاً } الأجاج الماء الشديد الملوحة الذي لا يمكن شربه ، وقال الحسن هو الماء المرّ الذي لا ينتفعون به في شرب ، ولا زرع ، ولا غيرهما { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } أي فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماءً عذباً تشربون منه وتنتفعون به { أَفَرَءيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى تُورُونَ } أي أخبروني عنها ، ومعنى { تورون } تستخرجونها بالقدح من الشجر الرطب ، يقال أوريت النار إذا قدحتها { ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا } التي يكون منها الزنود ، وهي المرخ والعفار ، تقول العرب في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار { أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } لها بقدرتنا دونكم ، ومعنى الإنشاء الخلق ، وعبر عنه بالإنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة ، وعجيب القدرة . { نَحْنُ جَعَلْنَـٰهَا تَذْكِرَةً } أي جعلنا هذه النار التي في الدنيا تذكرة لنار جهنم الكبرى . قال مجاهد ، وقتادة تبصرة للناس في الظلام ، وقال عطاء موعظة ليتعظ بها المؤمن { وَمَتَـٰعاً لّلْمُقْوِينَ } أي منفعة للذين ينزلون بالقواء ، وهي الأرض القفر كالمسافرين ، وأهل البوادي النازلين في الأراضي المقفرة ، يقال أرض قواء بالمد والقصر ، أي مقفرة ، ومنه قول النابغة @ يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد @@ وقال عنترة @ حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم @@ وقول الآخر @ ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق @@ ويقال أقوى إذا سافر ، أي نزل القوى . وقال مجاهد المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ ، والخبز ، والاصطلاء ، والاستضاءة ، وتذكر نار جهنم . وقال ابن زيد للجائعين في إصلاح طعامهم ، يقال أقويت منذ كذا وكذا ، أي ما أكلت شيئًا ، وبات فلان القوى ، أي بات جائعاً ، ومنه قول الشاعر @ وإني لأختار القوى طاوي الحشا محافظة من أن يقال لئيم @@ وقال قطرب القوى من الأضداد يكون بمعنى الفقر ، ويكون بمعنى الغنى يقال أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد ، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله . وحكى الثعلبي عن أكثر المفسرين القول الأوّل ، وهو الظاهر { فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلْعَظِيمِ } الفاء لترتيب ما بعدها من ذكر الله سبحانه ، وتنزيهه على ما قبلها مما عدّده من النعم التي أنعم بها على عباده ، وجحود المشركين لها ، وتكذيبهم بها . وقد أخرج البزار ، وابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي في الشعب ، وضعفه عن أبي هريرة . قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يقولنّ أحدكم زرعت ، ولكن يقول حرثت " قال أبو هريرة ألم تسمعوا الله يقول { أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ . ءأَنتُمْ * تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزرِعُونَ } . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { تَفَكَّهُونَ } قال تعجبون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس . قال { ٱلْمُزْنِ } . السحاب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس { نَحْنُ جَعَلْنَـٰهَا تَذْكِرَةً } قال تذكرة للنار الكبرى { وَمَتَـٰعاً لّلْمُقْوِينَ } قال للمسافرين .