Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 20-24)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } لما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني ، وما وقع منهم من الكفر والتكذيب ، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وتأثيرها ، بيّن لهم حقارتها وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة ، واللعب هو الباطل ، واللهو كل شيء يتلهى به ثم يذهب . قال قتادة لعب ولهو أكل وشرب . قال مجاهد كلّ لعب لهو ، وقيل اللعب ما رغب في الدنيا ، واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها ، وقيل اللعب الاقتناء ، واللهو النساء ، وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة الأنعام ، والزينة التزين بمتاع الدنيا من دون عمل للآخرة { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } قرأ الجمهور بتنوين { تفاخر } والظرف صفة له ، أو معمول له ، وقرأ السلمي بالإضافة ، أي يفتخر به بعضكم على بعض ، وقيل يتفاخرون بالخلقة والقوّة ، وقيل بالأنساب والأحساب ، كما كانت عليه العرب { وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلأمْوٰلِ وَٱلأوْلْـٰدِ } أي يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ، ويتطاولون بذلك على الفقراء . ثم بيّن سبحانه لهذه الحياة شبهاً ، وضرب لها مثلاً فقال { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } أي كمثل مطر أعجب الزراع نباته ، والمراد بالكفار هنا الزراع لأنهم يكفرون البذر ، أي يغطونه بالتراب ، ومعنى نَبَاتُهُ النبات الحاصل به { ثُمَّ يَهِـيجُ } أي يجفّ بعد خضرته وييبس { فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً } أي متغيراً عما كان عليه من الخضرة والرّونق إلى لون الصفرة والذبول { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } أي فتاتاً هشيماً متكسراً متحطماً بعد يبسه ، وقد تقدّم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف ، والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه ، لخضرته وكثرة نضارته . ثم لا يلبث أن يصير هشيماً تبناً كأن لم يكن . وقرىء مصفارّاً والكاف في محل نصب على الحال ، أو في محل رفع على أنها خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف . ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا ، وسرعة زوالها ، ذكر ما أعدّه للعصاة في الدار الآخرة فقال { وَفِى ٱلأخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } وأتبعه بما أعدّه لأهل الطاعة ، فقال { وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوٰنٌ } ، والتنكير فيهما للتعظيم . قال قتادة عذاب شديد لأعداء الله ، ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته . قال الفراء التقدير في الآية إما عذاب شديد وإما مغفرة ، قلا يوقف على شديد . ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا ، فقال { وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ } لمن اغترّ بها ولم يعمل لآخرته . قال سعيد بن جبير متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ، ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه . وهذه الجملة مقرّرة للمثل المتقدّم ومؤكدة له . ثم ندب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح ، فإن ذلك سبب إلى الجنة ، فقال { سَابِقُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } أي سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم ، وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي ، وقيل المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام ، قاله مكحول ، وقيل المراد الصفّ الأوّل ، ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا ، بل هو من جملة ما تصدّق عليه صدقاً شمولياً أو بدلياً { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ } أي كعرضهما ، وإذا كان هذا قدر عرضها ، فما ظنك بطولها . قال الحسن يعني جميع السمٰوات والأرضين مبسوطات كل واحدة إلى صاحبتها ، وقيل المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة . وقال ابن كيسان عنى به جنة واحدة من الجنات ، والعرض أقل من الطول ، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله ، ومن ذلك قول الشاعر @ كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل @@ وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران . ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى ، فقال { سَابِقُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة . وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرّد الإيمان بالله ورسله ، ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلاّ من عمل بما فرض الله عليه ، واجتنب ما نهاه الله عنه ، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما وعد به سبحانه من المغفرة والجنة ، وهو مبتدأ وخبره { فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } أي يعطيه من يشاء إعطاءه إياه تفضلاً وإحساناً { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، والخير كله بيده ، وهو الكريم المطلق ، والجواد الذي لا يبخل . ثم بيّن سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره ، وثبت في أمّ الكتاب ، فقال { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ٱلأرْضِ } من قحط مطر ، وضعف نبات ، ونقص ثمار . قال مقاتل القحط وقلة النبات والثمار ، وقيل الجوائح في الزرع { وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ } قال قتادة بالأوصاب والأسقام . وقال مقاتل إقامة الحدود . وقال ابن جريج ضيق المعاش { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ } في محل نصب على الحال من مصيبة ، أي إلاّ حال كونها مكتوبة في كتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، وجملة { مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } في محل جر صفة لكتاب ، والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة ، أو إلى الأنفس ، أو إلى الأرض ، أو إلى جميع ذلك ، ومعنى { نَّبْرَأَهَا } نخلقها { إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } أي أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير . { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } أي اختبرناكم بذلك ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـٰكُمْ } منها أي أعطاكم منها ، فإن ذلك يزول عن قريب ، وكلّ زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله ، ولا يحزن على فواته ، ومع أن الكل بقضاء الله وقدره ، فلن يعدو امرأ ما كتب له ، وما كان حصوله كائناً لا محالة ، فليس بمستحقّ للفرح بحصوله ، ولا للحزن على فوته ، قيل والحزن والفرح المنهيّ عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز ، وإلاّ فليس من أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح . قرأ الجمهور { بما آتاكم } بالمدّ ، أي أعطاكم ، وقرأ أبو العالية ، ونصر بن عاصم ، وأبو عمرو بالقصر ، أي جاءكم ، واختار القراءة الأولى أبو حاتم ، واختار القراءة الثانية أبو عبيد { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي لا يحبّ من اتصف بهاتين الصفتين ، وهما الاختيال والافتخار ، قيل هو ذمّ للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر ، وقيل إن من فرح بالحظوظ الدنيوية ، وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها ، وقيل المختال الذي ينظر إلى نفسه ، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار . والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي ، فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله . { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } الموصول في محل رفع بالابتداء ، وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله ، والخبر مقدّر ، أي الذين يبخلون فالله غنيّ عنهم ، ويدل على ذلك قوله { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ } . وقيل الموصول في محل جرّ بدل من مختال ، وهو بعيد ، فإن هذا البخل بما في اليد ، وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور ، لا لغة ولا شرعاً . وقيل هو في محل جرّ نعت له ، وهو أيضاً بعيد . قال سعيد بن جبير الذين يبخلون بالعلم ، ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس شيئًا . وقال زيد بن أسلم إنه البخل بأداء حق الله ، وقيل إنه البخل بالصدقة ، وقال طاووس إنه البخل بما في يديه ، وقيل أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد في كتبهم لئلا يؤمن به الناس ، فتذهب مآكلهم ، قاله السدّي والكلبي ، قرأ الجمهور { بالبخل } بضم الباء وسكون الخاء . وقرأ أنس ، وعبيد بن عمير ، ويحيى بن يعمر ، ومجاهد ، وحميد ، وابن محيصن ، وحمزة ، والكسائي بفتحتين ، وهي لغة الأنصار . وقرأ أبو العالية ، وابن السميفع بفتح الباء وإسكان الخاء . وقرأ نصر بن عاصم بضمهما ، وكلها لغات { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ } أي ومن يعرض عن الإنفاق ، فإن الله غنيّ عنه محمود عند خلقه لا يضره ذلك . قرأ الجمهور { هو الغني } بإثبات ضمير الفصل . وقرأ نافع ، وابن عامر فإن الله الغني الحميد بحذف الضمير . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ٱلأرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ } يقول في الدين والدنيا { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } قال نخلقها { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } من الدنيا { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـٰكُمْ } منها . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال هو شيء قد فرغ منه من قبل أن تبرأ الأنفس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } الآية قال ليس أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً ، ومن أصابه خير جعله شكراً . وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال يريد مصائب المعاش ، ولا يريد مصائب الدين ، إنه قال { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـٰكُمْ } وليس هذا من مصائب الدين ، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة .