Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 104-108)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
البصائر جمع بصيرة ، وهي في الأصل نور القلب ، والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح . وهذا الكلام وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال في آخره { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ووصف البصائر بالمجيء تفخيماً لشأنها ، وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه ، كما يقال جاءت العافية ، وانصرف المرض ، وأقبلت السعود ، وأدبرت النحوس { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار { وَمَنْ عَمِىَ } عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها ، فضرر ذلك على نفسه لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره النار { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } برقيب أحصي عليكم أعمالكم ، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم . قال الزجاج نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان . { وَكَذٰلِكَ نُصَرّفُ ٱلآيَـٰتِ } أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه . قوله { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } العطف على محذوف ، أي نصرّف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست . أو علة لفعل محذوف يقدّر متأخراً ، أي وليقولوا درست صرفناها ، وعلى هذا تكون اللام للعاقبة أو للصيرورة . والمعنى ومثل ذلك التصريف نصرّف الآيات وليقولوا درست ، فإنه لا احتفال بقولهم ولا اعتداد بهم ، فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الاكتراث بقولهم . وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج . وقال النحاس وفي المعنى قول آخر حسن ، وهو أن يكون معنى { نُصَرّفُ ٱلآيَـٰتِ } نأتي بها آية بعد آية { وَلّيَقُولواْ دَرَسْتَ } علينا ، فيذكرون الأوّل بالآخر ، فهذا حقيقته ، والذي قاله أبو إسحاق يعني الزجاج مجاز . وفي { دَرَسْتَ } قراءات ، قرأ أبو عمرو ، وابن كثير « دارست » بألف بين الدال والراء كفاعلت ، وهي قراءة عليّ ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأهل مكة . وقرأ ابن عامر « درست » بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف كخرجت ، وهي قراءة الحسن . وقرأ الباقون « درست » كضربت ، فعلى القراءة الأولى المعنى دارست أهل الكتاب ودارسوك ، أي ذاكرتهم وذاكروك ، ويدلّ على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون } الفرقان 4 أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن ، ومثله قولهم { أَسَـٰطِيرُ ٱلأوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } الفرقان 5 ، وقولهم { إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } النحل 103 . والمعنى على القراءة الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت ، وهو كقولهم { أَسَـٰطِيرُ ٱلأوَّلِينَ } الأنعام 25 ، وفي ثمانية مواضع أُخر من كتاب الله العزيز . والمعنى على القراءة الثالثة مثل المعنى على القراءة الأولى . قال الأخفش هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ . وحكى عن المبرد أنه قرأ " وَلِيَقُولُواْ " بإسكان اللام ، فيكون فيه معنى التهديد ، أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين ، وفي اللفظ أصله درس يدرس دراسة ، فهو من الدرس ، وهو القراءة . وقيل من درسته أي ذللته بكثرة القراءة ، وأصله درس الطعام ، أي داسه . والدياس الدراس بلغة أهل الشام . وقيل أصله من درست الثوب أدرسه درساً ، أي أخلقته ، ودرست المرأة درساً ، أي حاضت . ويقال إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض ، والدرس أيضاً الطريق الخفي . وحكى الأصمعي بعير لم يدرس أي لم يركب . وروى عن ابن عباس وأصحابه ، وأبي ، وابن مسعود ، والأعمش ، أنهم قرءوا « درس » أي درس محمد الآيات ، وقرىء « درِسَتْ » وبه قرأ زيد بن ثابت ، أي الآيات على البناء للمفعول ، « ودارست » أي دارست اليهود محمداً . واللام في { لنبينه } لام كي ، أي نصرف الآيات لكي نبينه لقوم يعلمون ، والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن ، أو إلى القرآن ، وإن لم يجر له ذكر ، لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل . قوله { ٱتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } أمره الله باتباع ما أوحى إليه وأن لا يشغل خاطره بهم ، بل يشتغل باتباع ما أمره الله ، وجملة { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، لقصد تأكيد إيجاب الاتباع { وَأَعْرِض } معطوف على { اتَّبِعُ } أمره الله بالإعراض عن المشركين بعدما أمره باتباع ما أوحي إليه ، وهذا قبل نزول آية السيف { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ } أي لو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا ، وفيه أن الشرك بمشيئة الله سبحانه ، والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعارف به أهل علم الكلام والميزان معروف فلا نطيل بإيراده ، { وَمَا جَعَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي رقيباً { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم ، ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة . قوله { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار . والمعنى لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله ، فيتسبب عن ذلك سبهم لله عدواناً وتجاوزاً عن الحق ، وجهلاً منهم . وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق ، والناهي عن الباطل ، إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم ، ومخالفة حق ، ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به ، بل كان واجباً عليه ، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله ، المتصدين لبيانها للناس ، إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه ، وتركوا غيره من المعروف . وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عناداً للحق وبغضاً لاتباع المحقين ، وجراءة على الله سبحانه ، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف ، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه ، كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل ، وإذا أرشدوا إلى السنة ، قابلوها بما لديهم من البدعة ، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع ، وهم شرّ من الزنادقة ، لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع ، ويتظاهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين ، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام ، وتحاماهم أهله ، وقد ينفق كيدهم ، ويتمّ باطلهم وكفرهم نادراً على ضعيف من ضعفاء المسلمين ، مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل ، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة ، وهي أصل أصيل في سدّ الذرائع ، وقطع التطرّق إلى الشبه . وقرأ أهل مكة « عُدُوّا » بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهي قراءة الحسن ، وأبي رجاء وقتادة . وقرأ من عداهم بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو ، ومعنى القراءتين واحد أي ظلماً وعدواناً ، وهو منتصب على الحال ، أو على المصدر ، أو على أنه مفعول له { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } أي مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم من الخير والشرّ { يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء } النحل 93 ، فاطر 8 { ثُمَّ إِلَىٰ رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها ، ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم ، وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم . وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله { قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ } أي بينة { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } أي فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه { وَمَنْ عَمِىَ } أي من ضلّ { فَعَلَيْهَا } . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ « دارست » وقال قرأت . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عنه { دَرَسْتَ } قال قرأت وتعلمت . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عنه أيضاً قال " دارست " خاصمت ، جادلت ، تلوت . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } قال كفّ عنهم ، وهذا منسوخ ، نسخه القتال { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } التوبة 5 . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ } يقول الله تبارك وتعالى لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي بحفيظ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } قال قالوا يا محمد لتنتهينّ عن سبك آلهتنا أو لنهجونَّ ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم { فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } . وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ملعون من سبّ والديه " ، قالوا يا رسول الله وكيف يسبّ الرجل والديه ؟ قال " يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه ، ويسبّ أمه فيسبّ أمه " .