Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 109-113)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ } أي الكفار مطلقاً ، أو كفار قريش ، وجهد الأيمان أشدّها ، أي أقسموا بالله أشد أيمانهم التي بلغتها قدرتهم ، وقد كانوا يعتقدون أن الله هو الإلٰه الأعظم ، فلهذا أقسموا به ، وانتصاب { جهد } على المصدرية ، وهو بفتح الجيم المشقة ، وبضمها الطاقة ، ومن أهل اللغة من يجعلهما لمعنى واحد ، والمعنى أنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية من الآيات التي كانوا يقترحونها ، وأقسموا لئن جاءتهم هذه الآية التي اقترحوها { لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } وليس غرضهم الإيمان ، بل معظم قصدهم التهكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتلاعب بآيات الله ، فأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بقوله { إِنَّمَا ٱلآيَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ } هذه الآية التي يقترحونها ، وغيرها ، وليس عندي من ذلك شيء ، فهو سبحانه إن أراد إنزالها أنزلها ، وإن أراد أن لا ينزلها لم ينزلها . قوله { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، بكسر الهمزة من " أنها " ، وهي قراءة مجاهد ، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود " وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ " قال مجاهد وابن زيد المخاطب بهذا المشركون أي وما يدريكم ، ثم حكم عليهم بقوله { أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقال الفراء وغيره الخطاب للمؤمنين ، لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون ، فقال الله تعالى { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقرأ أهل المدينة والأعمش ، وحمزة والكسائي ، وعاصم ، وابن عامر { أنها إذا جاءت } بفتح الهمزة . قال الخليل { أنها } بمعنى لعلها ، وفي التنزيل { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } عبس 3 أي أنه يزكي . وحكى عن العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً أي لعلك ، ومنه قول عدي بن زيد @ أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد @@ أي لعل منيتي ، ومنه قول دريد بن الصمة @ أريني جواداً مات هزلاً لأنني أرى ما ترين أو بخيلاً مخلداً @@ أي لعلني ، وقول أبي النجم @ قلت لشيبان ادن من لقائه أني نُغَدِّ اليوم من شوائه @@ أي لعلي ، وقول جرير @ هل أنتم عائجون بنا لأن نرى العرصات أو أثر الخيام @@ أي لعلنا ا هـ . وقد وردت في كلام العرب كثيراً بمعنى لعل . وحكى الكسائي أنها كذلك في مصحف أُبيّ بن كعب . وقال الكسائي أيضاً والفراء إن « لا » زائدة ، والمعنى وما يشعركم أنها أي الآيات ، إذا جاءت يؤمنون ، فزيدت كما زيدت في قوله تعالى { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } الأنبياء 95 وفي قوله { مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدَ } الأعراف 12 وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة " لا " وقالوا هو غلط وخطأ . وذكر النحاس وغيره ، أن في الكلام حذفاً والتقدير أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ، ثم حذف هذا المقدر لعلم السامع . قوله { وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ } معطوف على { لا يؤمنون } قيل والمعنى تقليب أفئدتهم وأبصارهم يوم القيامة على لهب النار ، وحرّ الجمر { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ } في الدنيا { وَنَذَرُهُمْ } في الدنيا ، أي نمهلهم ولا نعاقبهم فعلى هذا بعض الآية في الآخرة ، وبعضها في الدنيا . وقيل المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الدنيا ، أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية ، كما حلنا بينهم وبين ما دعوتهم إليه أوّل مرة عند ظهور المعجزة . وقيل في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا ، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون ، أي يتحيرون ، والكاف في { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ } نعت مصدر محذوف ، و " ما " مصدرية ، و { يَعْمَهُونَ } في محل نصب على الحال . قوله { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ } أي لا يؤمنون ولو نزلنا إليهم الملائكة كما اقترحوه بقولهم { لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } الأنعام 8 { وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ } الذين يعرفونهم بعد إحيائنا لهم ، فقالوا لهم إن هذا النبي صادق مرسل من عند الله ، فآمنوا به ، لم يؤمنوا { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء } مما سألوه من الآيات { قُبُلاً } أي كفلاً وضمناً بما جئناهم به من الآيات البينات . هذا على قراءة من قرأ { قبلاً } بضم القاف وهم الجمهور . وقرأ نافع ، وابن عامر ، " قبلاً " بكسرها أي مقابلة . وقال محمد بن يزيد المبرد { قبلاً } بمعنى ناحية ، كما تقول لي قبل فلان مال ، فقبلاً نصب على الظرف ، وعلى المعنى الأوّل ورد قوله تعالى { أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَـئِكَةِ قَبِيلاً } الإسراء 92 أي يضمنون ، كذا قال الفراء . وقال الأخفش هو بمعنى قبيل قبيل أي جماعة جماعة . وحكى أبو زيد ، لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً كله واحد ، بمعنى المواجهة ، فيكون على هذا الضم كالكسر وتستوي القراءتان . والحشر الجمع { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } إيمانهم ، فإن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، والاستثناء مفرغ { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } جهلاً يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب . قوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ } هذا الكلام لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع ما حصل معه من الحزن بعدم إيمانهم ، أي مثل هذا الجعل { جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً } والمعنى كما ابتليناك بهؤلاء فقد ابتلينا الأنبياء من قبلك بقوم من الكفار ، فجعلنا لكل واحد منهم عدواً من كفار زمنهم ، و { شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ } بدل من { عدواً } . وقيل هو المفعول الثاني لجعلنا . وقرأ الأعمش " الجن والإنس " بتقديم الجن ، والمراد بالشياطين المردة من الفريقين ، والإضافة بيانية ، أو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والأصل الإنس والجن الشياطين ، وجملة { يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } في محل نصب على الحال ، أي حال كونه يوسوس بعضهم لبعض . وقيل إن الجملة مستأنفة لبيان حال العدوّ ، وسمي وحياً لأنه إنما يكون خفية بينهم ، وجعل تمويههم زخرف القول لتزيينهم إياه ، والمزخرف المزين ، وزخارف الماء طرائفه ، و { غُرُوراً } منتصب على المصدر ، لأن معنى يوحي بعضهم إلى بعض يغرونهم بذلك غروراً ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، ويجوز أن يكون مفعولاً له ، والغرور الباطل . قوله { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } الضمير يرجع إلى ما ذكر سابقاً من الأمور التي جرت من الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله ، أي لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدّم ذكره ما فعلوه وأوقعوه وقيل ما فعلوا الايحاء المدلول عليه بالفعل { فَذَرْهُمْ } أي اتركهم ، وهذا الأمر للتهديد للكفار كقوله { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } المدثر 11 { وَمَا يَفْتَرُونَ } إن كانت " ما " مصدرية فالتقدير اتركهم وافتراءهم ، وإن كانت موصولة فالتقدير اتركهم والذي يفترونه . قوله { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } اللام في لتصغي لام كي ، فتكون علة كقوله { يُوحِى } والتقدير يوحي بعضهم إلى بعض لغرورهم ولتصغى . وقيل هو متعلق بمحذوف يقدر متأخراً ، أي لتصغى { جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً } وقيل إن اللام للأمر وهو غلط ، فإنها لو كانت لام الأمر جزمت الفعل ، والإصغاء الميل ، يقال صغوت أصغو صغواً ، وصغيت أصغى ويقال صغيت بالكسر ويقال أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه ، وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض ، ويقال صغت النجوم إذا مالت للغروب ، وأصغت الناقة إذا أمالت رأسها ، ومنه قول ذي الرمة @ تصغي إذا شدّها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها وثبت @@ والضمير في { إليه } لزخرف القول ، أو لما ذكر سابقاً من زخرف القول وغيره ، أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } من الكفار ، { وَلِيَرْضَوْهُ } لأنفسهم بعد الإصغاء إليه { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } من الآثام ، والاقتراف الاكتساب يقال خرج ليقترف لأهله ، أي ليكتسب لهم ، وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه ، وقرفه إذا رماه بالريبة ، واقترف كذب ، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء . وقد أخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال نزلت { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } في قريش { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } يا أيها المسلمون { أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . وأخرج ابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قريشاً فقالوا يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها البحر ، وأن عيسى كان يحيـي الموتى ، وأن ثمود لهم ناقة ، فأتنا من الآيات حتى نصدّقك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي شيء تحبون أن آتيكم به ؟ " قالوا تجعل لنا الصفا ذهباً ، قال " فإن فعلت تصدقوني ؟ " قالوا نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، فجاءه جبريل فقال له إن شئت أصبح ذهباً ، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال " بل يتوب تائبهم " ، فأنزل الله { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } إلى قوله { يَجْهَلُونَ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ } قال لما جحد المشركون ما أنزل الله ، لم تثبت قلوبهم على شيء وردّت عن كل أمر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عنه { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً } قال معاينة { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } أي أهل الشقاء { إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } أي أهل السعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً } أي فعاينوا ذلك معاينة . وأخرج أبو الشيخ ، عن مجاهد قال أفواجاً قبيلاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ } قال إن للجنّ شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم ، فيلتقي شيطان الإنس وشيطان الجنّ ، فيقول هذا لهذا أضلله بكذا ، وأضلله بكذا ، فهو { يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } وقال ابن عباس الجنّ هم الجانّ وليسوا شياطين ، والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس والجنّ يموتون ، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن مسعود قال الكهنة هم شياطين الإنس . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } قال شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس ، فإن الله يقول { وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ } الأنعام 121 . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن قتادة ، في الآية قال من الإنس شياطين ، ومن الجن شياطين ، يوحي بعضهم إلى بعض . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، زخرف القول قال يحسن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم . وقد أخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا ذر تعوّذ بالله من شرّ شياطين الجن والإنس " ، قال يا نبيّ الله وهل للإنس شياطين ؟ قال " نعم ، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً " وأخرج أحمد ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي ذرّ مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { ولتصغى } لتميل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عنه { ولتصغي } تزيغ { وَلِيَقْتَرِفُواْ } يكتسبوا .