Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 45-49)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } اللقاء . الحرب ، والفئة الجماعة ، أي إذا حاربتم جماعة من المشركين { فَٱثْبُتُواْ } لهم ولا تجبنوا عنهم ، وهذا لا ينافي الرخصة المتقدّمة في قوله { إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } الأنفال 16 فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة ، والرخصة هي في حال الضرورة . وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرّف والتحيز { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } أي اذكروا الله عند جزع قلوبكم ، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد وقيل المعنى اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان ، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان . قيل وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } البقرة 250 . وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال ، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب ، وتزيغ عندها البصائر ، ثم أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه ، ونهاهم عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي ، فإن ذلك يتسبب عنه الفشل ، وهو الجبن في الحرب . والفاء جواب النهي ، والفعل منصوب بإضمار أن ، ويجوز أن يكون الفعل معطوفاً على { تنازعوا } مجزوماً بجازمه . قوله { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } قرىء بنصب الفعل ، وجزمه عطفاً على تفشلوا على الوجهين ، والريح القوّة والنصر ، كما يقال الريح لفلان إذا كان غالباً في الأمر . وقيل الريح الدولة ، شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها ، ومنه قول الشاعر @ إذ هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون @@ وقيل المراد بالريح ريح الصبا ، لأن بها كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أمرهم بالصبر على شدائد الحرب ، وأخبرهم بأنه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه ، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب ، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات ، وإن كانت كثيرة ، ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ، وهم قريش . فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ، ومعهم القيان والمعازف ، فلما بلغوا الجحفة بلغهم أن العير قد نجت وسلمت ، فلم يرجعوا بل قالوا لا بدّ لهم من الوصول إلى بدر ليشربوا الخمر ، وتغني لهم القيان ، وتسمع العرب بمخرجهم ، فكان ذلك منهم بطراً وأشراً وطلباً للثناء من الناس ، وللتمدح إليهم ، والفخر عندهم ، وهو الرياء وقيل والبطر في اللغة التقوّي بنعم الله على معاصيه ، وهو مصدر في موضع الحال ، أي خرجوا بطرين مرائين . وقيل هو مفعول له وكذا رياء ، أي خرجوا للبطر والرياء . وقوله { وَيَصُدُّونَ } معطوف على بطراً ، والمعنى كما تقدّم ، أي خرجوا بطرين مرائين صادّين عن سبيل الله ، أو للصدّ عن سبيل الله . والصدّ إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية . ويجوز أن يكون و { يصدّون } معطوفاً على يخرجون ، والمعنى يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصدّ { وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } لا تخفى عليه من أعمالهم خافية ، فهو مجازيهم عليها . قوله { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ } الظرف متعلق بمحذوف ، أي واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان لهم أعمالهم ، والتزيين التحسين ، وقد روي أن الشيطان تمثل لهم وقال لهم تلك المقالة ، وهي { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } أي مجير لكم من كل عدوّ أو من بني كنانة ، ومعنى الجار هنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر ، كما يدفع الجار عن الجار ، وكان في صورة سراقة بن مالك بن جشعم ، وهو من بني بكر بن كنانة ، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم . وقيل المعنى إنه ألقى في روعهم هذه المقالة ، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون { فَلَمَّا تَرَاءتِ ٱلْفِئَتَانِ } أي فئة المسلمين والمشركين { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } أي رجع القهقري ، ومنه قول الشاعر @ ليس النكوص على الأعقاب مكرمة إن المكارم إقدام على الأمل @@ وقول الآخر @ وما نفع المستأخرين نكوصهم ولا ضرّ أهل السابقات التقدّم @@ وقيل معنى نكص هاهنا بطل كيده وذهب ما خيله { وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ } أي تبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة ، ثم علل ذلك بقوله { إِنّى أَرَىٰ مَالاً تَرَوْنَ } يعني الملائكة ، ثم علل بعلة أخرى فقال { إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ } قيل خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا الوقعة وقيل إن دعوى الخوف كذب منه ، ولكنه رأى أنه لا قوّة له ولا للمشركين فاعتلّ بذلك ، وجملة { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } يحتمل أن تكون من تمام كلام إبليس ، ويحتمل أن تكون كلاماً مستأنفاً من جهة الله سبحانه . قوله { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ } الظرف معمول لفعل محذوف هو اذكر ، ويجوز أن يتعلق بنكص أو بزين أو بشديد العقاب . قيل المنافقون هم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر { وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم الشاكون من غير نفاق ، بل لكونهم حديثي عهد بالإسلام ، فوافقوا المنافقين في قولهم بهذه المقالة ، أعني { غَرَّ هَـؤُلاء } أي المسلمين { دِينَهُمُ } حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش . وقيل الذين في قلوبهم مرض هم المشركون ، ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها ، وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة ، قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد وضعف من العدد ، فأجاب الله عليهم بقوله { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } لا يغلبه غالب ، ولا يذلّ من توكل عليه { حَكِيمٌ } له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول . وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } قال افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف . وأخرج الحاكم وصححه ، عن سهل بن سعد ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثنتان لا يردّان الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً " وأخرج الحاكم وصححه ، عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الصوت عند القتال . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله { وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } يقول لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } قال نصركم . وقد ذهب ريح أصحاب محمد حين نازعوه يوم أحد . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم } الآية ، يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر . وأخرج ابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي قال لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن مجاهد ، في الآية قال أبو جهل وأصحابه يوم بدر . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في الآية قال كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر ، وقد قيل لهم يومئذ ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم ، فقالوا لا والله حتى يتحدّث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا ، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ " اللهم إن قريشاً قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك " وذكر لنا أنه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ " جاءت من مكة أفلاذها " . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس ، قال جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } وأقبل جبريل على إبليس ، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبراً وشيعته ، فقال الرجل يا سراقة إنك جار لنا فقال { إِنّي أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ } وذلك حين رأى الملائكة { إِنّي أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } قال ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلل المشركين في أعين المسلمين ، فقال المشركون وما هؤلاء ؟ غرّ هؤلاء دينهم ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم ، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك ، فقال الله { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وأخرج الطبراني ، وأبو نعيم ، عن رفاعة بن رافع الأنصاري ، قال لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يظنّ أنه سراقة بن مالك ، فوكز في صدر الحارث ، فألقاه ثم خرج هارباً حتى ألقى نفسه في البحر ، ورفع يديه فقال اللهم إني أسألك نظرتك إياي . وأخرج الواقدي وابن مردويه ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله { إِنّي أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ } قال ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة ، فعلم عدوّ الله أنه لا يدان له بالملائكة ، وقال { إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ } وكذب عدوّ الله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوّة له به ولا منعة له . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن معمر قال ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك ، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ } قال وهم يومئذ في المسلمين . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن ، في قوله { وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن الكلبي في قوله { وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال هم قوم كانوا أقرّوا بالإسلام ، وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا المسلمين قالوا { غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ } . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن الشعبي نحوه .