Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 55-60)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ } أي شرّ ما يدب على وجه الأرض { عَندَ ٱللَّهِ } أي في حكمه { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي المصرّون على الكفر المتمادون في الضلال . ولهذا قال { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي إن هذا شأنهم لا يؤمنون أبداً ، ولا يرجعون عن الغواية أصلاً ، وجعلهم شرّ الدوابّ لا شرّ الناس إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية ، ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم . قوله { ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتَّ مِنْهُمْ } بدل من الذين كفروا أو عطف بيان أو في محل نصب على الذمّ . والمعنى أن هؤلاء الكافرين الذين همّ شرّ الدوابّ عند الله هم هؤلاء الذين عاهدت منهم ، أي أخذت منهم عهدهم ، ثُمَّ هم { يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ } الذي عاهدتهم { فِي كُلّ مَرَّةٍ } من مرّات المعاهدة ، والحال أنـهُمْ { لا يَتَّقُونَ } النقض ، ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه . وقيل إن " مِنْ " في قوله { مِنْهُمْ } للتبعيض ، ومفعول عاهدت محذوف ، أي الذين عاهدتهم ، وهم بعض أولئك الكفرة يعني الأشراف منهم ، وعطف المستقبل وهو { ثم ينقضون } على الماضي ، وهو { عاهدت } للدلالة على استمرار النقض منهم ، وهؤلاء هم قريظة ، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك كما سيأتي ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدّة والغلظة عليهم ، فقال { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى ٱلْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } أي فإما تصادفنهم في ثقاف ، وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها ، وتتمكن من غلبهم { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } أي ففرّق بقتلهم والتنكيل بهم من خلفهم من المحاربين لك من أهل الشرك حتى يهابوا جانبك ، ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء . والثقاف في أصل اللغة ما يشد به القناة أو نحوها ، ومنه قول النابغة @ تدعو قعيباً وقد غض الحديد بها غض الثقاف على ضمّ الأنابيب @@ يقال ثقفته وجدته ، وفلان ثقف سريع الوجود لما يحاوله ، والتشريد التفريق مع الاضطراب . وقال أبو عبيدة { شرد بِهِمُ } سمع بهم . وقال الزجاج افعل بهم فعلاً من القتل تفرّق به من خلفهم ، يقال شردت بني فلان قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها . قال الشاعر @ أطوّف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشردني حكيم @@ ومنه شرد البعير إذا فارق صاحبه ، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ " فشرد بِهِم " بالذال المعجمة . قال قطرب التشريذ بالذال المعجمة هو التنكيل ، وبالمهملة هو التفريق . وقال المهدوي الذال المعجمة لا وجه لها إلا أن تكون بدلاً من الدال المهملة لتقاربهما ، قال ولا يعرف فشرّذ في اللغة ، وقرىء " مّنْ خَلْفِهِمْ " بكسر الميم والفاء . قوله { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } أي غشاً ونقضاً للعهد من القوم المعاهدين { فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ } أي فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم { عَلَىٰ سَوَاء } على طريق مستوية . والمعنى أنه يخبرهم إخباراً ظاهراً مكشوفاً بالنقض ، ولا يناجزهم الحرب بغتة ، وقيل معنى { عَلَىٰ سَوَاء } على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم ، أو تستوي أنت وهم فيه . قال الكسائي السواء العدل ، وقد يكون بمعنى الوسط ، ومنه قوله { فِى سَوَاء ٱلْجَحِيمِ } الصافات 55 ، ومنه قول حسان @ يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد @@ ومن الأوّل قول الشاعر @ فاضرب وجوه الغدّر الأعداء حتى يجيبوك إلى سواء @@ وقيل معنى { فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاء } على جهر لا على سرّ ، والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه . قال ابن عطية والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة ، وجملة { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَـٰئِنِينَ } تعليل لما قبلها ، يحتمل أن تكون تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة . قوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } قرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص بالياء التحتية . وقرأ الباقون بالمثناة من فوق . فعلى القراءة الأولى يكون الذين كفروا فاعل الحسبان ، ويكون مفعوله الأوّل محذوفاً ، أي لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم ، ومفعوله الثاني سبقوا ومعناه فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم . وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومفعوله الأول الذين كفروا ، والثاني سبقوا ، وقرىء " إِنهَّم سَبَقُوا " وقرىء « يحسبن » بكسر الياء ، وجملة { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } تعليل لما قبلها ، أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم . وقرأ ابن عامر " أنهم " بفتح الهمزة ، والباقون بكسرها ، وكلا القراءتين مفيدة لكون الجملة تعليلية . وقيل المراد بهذه الآية من أفلت من وقعة بدر من المشركين . والمعنى أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون ، بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة . وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم ، أن قراءة من قرأ " يحسبنّ " بالتحتية لحن ، لا تحلّ القراءة بها ، لأنه لم يأت ليحسبنّ بمفعول ، وهو يحتاج إلى مفعولين . قال النحاس وهذا تحامل شديد . ومعنى هذه القراءة ولا يحسبنّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا ، فيكون الضمير يعود على ما تقدّم إلا أن القراءة بالتاء أبين . وقال المهدوي يجوز على هذه القراءة أن يكون الذين كفروا فاعلاً ، والمفعول الأوّل محذوف . والمعنى ولا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم سبقوا . قال مكي ويجوز أن يضمر مع سبقوا « أن » فتسدّ مسد المفعولين ، والتقدير ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا ، فهو مثل { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ } العنكبوت 2 في سدّ أن مسدّ المفعولين . ثم أمر سبحانه بإعداد القوّة للأعداء ، والقوّة كل ما يتقوّى به في الحرب ، ومن ذلك السلاح والقسيّ . وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول " { وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة } ألا إن القوّة الرمي ، قالها ثلاث مرات " وقيل هي الحصون ، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متعين . قوله { وَمِن رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ } . قرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة « ومن ربط الخيل » بضم الراء والباء ككتب جمع كتاب . قال أبو حاتم الرباط من الخيل الخمس فما فوقها ، وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو . ومنه قول الشاعر @ أمر الإله بربطها لعدوّه في الحرب إن الله خير موفق @@ قال في الكشاف والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة . ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال . انتهى . ومن فسر القوّة بكل ما يتقوّى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام ، وجملة { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } في محل نصب على الحال ، والترهيب التخويف ، والضمير في { به } عائد إلى « ما » في { ما استطعتم } أو إلى المصدر المفهوم من { وأعدّوا } وهو الإعداد . والمراد بعدوّ الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة ، وغيرهم من مشركي العرب . قوله { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِم } معطوف على عدوّ الله وعدوّكم . ومعنى من دونهم من غيرهم . قيل هم اليهود . وقيل فارس والروم ، وقيل الجنّ ، ورجحه ابن جرير . وقيل المراد بالآخرين من عدوهم كل من لا تعرف عداوته ، قاله السهيلي . وقيل هم بنو قريظة خاصة ، وقيل غير ذلك . والأولى الوقف في تعيينهم لقوله { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } . قوله { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي في الجهاد وإن كان يسيراً حقيراً { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } جزاؤه في الآخرة . فالحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، كما قرّرناه سابقاً . { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله ، أي من ثوابها ، بل يصير ذلك إليكم وافياً وافراً كاملاً { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } النساء 40 { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } آل عمران 195 . وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال نزلت { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ } الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله { ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ } قال قريظة يوم الخندق مالؤوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } قال نكل بهم من بعدهم . وأخرج ابن جرير ، عنه ، في الآية قال نكل بهم من رواءهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، في الآية قال أنذر بهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة قال عظ بهم من سواهم من الناس . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، قال أخفهم بهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } يقول لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك . وأخرج أبو الشيخ عن ابن شهاب قال دخل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم ، فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة ، وأنزل فيهم { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قال لا يفوتونا . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ } قال الرمي والسيوف والسلاح . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، في قوله { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ } قال أمرهم بإعداد الخيل . وأخرج أبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب ، عن عكرمة في الآية قال القوّة ذكور الخيل ، والرباط الإناث . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن المسيب في الآية قال القوّة الفرس إلى السهم فما دونه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة قال القوّة الحصون . { ومِنْ رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ } قال الإناث . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } قال تخزون به عدوّ الله وعدوّكم . وقد ورد في استحباب الرمي ، وما فيه من الأجر أحاديث كثيرة ، وكذلك ورد في استحباب اتخاذ الخيل وإعدادها ، وكثرة ثواب صاحبها أحاديث لا يتسع المقام لبسطها . وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات .