Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 17-22)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ الجمهور { يَعْمُرُواْ } بفتح حرف المضارعة وضم الميم من عمر يعمر . وقرأ ابن السميفع بضم حرف المضارعة من أعمر يعمر أي يجعلون لها من يعمرها . وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن محيصن وسهم ويعقوب { مَسجد ٱللَّهِ } الإفراد . وقرأ الباقون { مساجد } بالجمع ، واختارها أبو عبيدة . قال النحاس لأنها أعمّ ، والخاص يدخل تحت العام ، وقد يحتمل أن يراد بالجمع المسجد الحرام خاصة ، وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس كما يقال فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً قال وقد أجمعوا على الجمع في قوله { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ } وروي عن الحسن البصري أنه تعالى إنما قال { مَسَـٰجِدَ } والمراد المسجد الحرام ، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فعامره كعامر جميع المساجد . قال الفراء العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم فلان كثير الدرهم وبالعكس ، كقولهم فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً . والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي ، وهو ملازمته والتعبد فيه ، وكلاهما ليس للمشركين ، أما الأول فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم ، وأما الثاني فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام ، ومعنى { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } ما صح لهم وما استقام أن يفعلوا ذلك ، و { عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } حال أي ما كان لهم ذلك حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر ، بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها ، وجعلها آلهة ، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر ، وإن أبوا ذلك بألسنتهم ، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين ، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرّب إلى الله بعمارة مساجده . وقيل المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وقيل شهادتهم على أنفسهم بالكفر أن اليهودي يقول هو يهودي ، والنصراني يقول هو نصراني ، والصابىء يقول هو صابىء ، والمشرك يقول هو مشرك { أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ } التي يفتخرون بها ، ويظنون أنها من أعمال الخير أي بطلت ولم يبق لها أثر { وَفِى ٱلنَّارِ هُمْ خَـٰلِدُونَ } وفي هذه الجملة الإسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها . ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المساجد فقال { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وفعل ما هو من لوازم الإيمان من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة { وَلَمْ يَخْشَ } أحداً { إِلاَّ ٱللَّهُ } فمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف ، فهو الحقيق بعمارة المساجد . لا من كان خالياً منها أو من بعضها ، واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيهاً بما هو من أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده لأن كل ذلك من لوازم الإيمان ، وقد تقدّم الكلام في وجه جمع المساجد ، وفي بيان ماهية العمارة ، ومن جوّز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل العمارة هنا عليهما ، وفي قوله { فَعَسَىٰ أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم ، فإن الموصوفين بتلك الصفات إذا كان اهتداؤهم مرجوّاً فقط ، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات . وقيل " عسى " من الله واجبة . وقيل هي بمعنى خليق ، أي فخليق أن يكونوا من المهتدين . وقيل إن الرجاء راجع إلى العباد . والاستفهام في { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } للإنكار ، والسقاية والعمارة مصدران كالسعاية والحماية ، وفي الكلام حذف ، والتقدير أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وعمارة المسجد ، أو أهلهما { كَمَنْ ءامَنَ } حتى يتفق الموضوع والمحمول أو يكون التقدير في الخبر أي جعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، كعمل من آمن أو كإيمان من آمن . وقرأ ابن أبي وجرة السعدي ، وابن الزبير ، وسعيد بن جبير " أجعلتم سقاة الحاج ، وعمرة المسجد الحرام " جمع ساق وعامر . وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير محذوف ، والمعنى أن الله أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير ، وإن لم ينتفعوا بها وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله ، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة ، ويفضلونهما على عمل المسلمين . فأنكر الله عليهم ذلك ، ثم صرّح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوتهم وعدم استوائهم فقال { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ } أي لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله ، ودلّ سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة ، التي يدّعيها المشركون ، أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين ، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون ، ثم حكم عليهم بالظلم وأنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه ، وفي هذا إشارة إلى الفريق المفضول . ثم صرّح بالفريق الفاضل فقال { ٱلَّذِينَ آمنوا } إلى آخره أي الجامعون بين الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ } وأحق بما لديه من الخير من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحيطة الباطلة . وفي قوله { عَندَ ٱللَّهِ } تشريف عظيم للمؤمنين ، والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } إلى المتصفين بالصفات المذكورة { هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } أي المختصون بالفوز عند الله ، ثم فسر الفوز بقوله { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوٰنٍ وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } والتنكير في الرحمة والرضوان والجنات للتعظيم ، والمعنى أنها فوق وصف الواصفين وتصوّر المتصوّرين . والنعيم المقيم الدائم المستمر الذي لا يفارق صاحبه ، وذكر الأبد بعد الخلود تأكيد له ، وجملة { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } مؤكدة لما قبلها مع تضمنها للتعليل أي أعطاهم الله سبحانه هذه الأجور العظيمة لكون الأجر الذي عنده عظيم ، يهب منه ما يشاء لمن يشاء ، وهو ذو الفضل العظيم . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } وقال { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } فنفى المشركين من المسجد { مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ } يقول من وحد الله وآمن بما أنزل الله { وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ } يعني الصلوات الخمس ، { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } يقول لم يعبد إلا الله { فَعَسَىٰ أُوْلَـئِكَ } يقول أولئك هم المهتدون ، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } الإسراء 79 يقول إن ربك سيبعثك مقاماً محموداً ، وهي الشفاعة ، وكل " عسى " في القرآن فهي واجبة . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان قال الله تعالى { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } " وقد وردت أحاديث كثيرة في استحباب ملازمة المساجد ، وعمارتها والتردّد إليها للطاعات . وأخرج مسلم ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن النعمان بن بشير ، قال كنت عند منبر رسول الله في نفر من أصحابه فقال رجل منهم ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام ، وقال آخر بل جهاد في سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر ، وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فأستفتيه فيما اختلفتم فيه ، فأنزل الله { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ } إلى قوله { لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ } الآية ، وذلك أن المشركين قالوا عمارة بيت الله ، وقيام على السقاية ، خير ممن آمن وجاهد ، فكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره ، فذكر الله سبحانه استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين { قَدْ كَانَتْ ءايَـتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـٰمِراً تَهْجُرُونَ } المؤمنون 66 ، 67 يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم . وقال { به سامراً } كانوا به يسمرون ويهجرون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ، فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبيّ الله على عمران المشركين البيت وقيامهم على السعاية ، ولم يكن لينفعهم عند الله مع الشرك به ، وإن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه قال الله { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم ظالمين بشركهم ، فلم تغن عنهم العمارة شيئاً ، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، قال قال العباس حين أسر يوم بدر إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ونفكّ العاني ، فأنزل الله { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ } الآية يعني أن ذلك كان في الشرك ، فلا أقبل ما كان في الشرك . وأخرج ابن مردويه ، عنه ، أيضاً في الآية ، قال نزلت في عليّ بن أبي طالب والعباس . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الشعبي ، قال تفاخر عليّ والعباس وشيبة في السقاية والحجابة فأنزل الله { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ } الآية ، وقد روى معنى هذا من طرق .