Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 50-57)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } أيّ حسنة كانت بأيّ سبب اتفق ، كما يفيده وقوعها في حيز الشرط ، وكذلك القول في المصيبة ، وتدخل الحسنة والمصيبة الكائنة في القتال كما يفيده السياق دخولاً أوّلياً ، فمن جملة ما تصدق عليه الحسنة الغنيمة والظفر . ومن جملة ما تصدق عليه المصيبة الخيبة والانهزام ، وهذا ذكر نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم ، والإخبار بعظيم عدوانهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، فإن المساءة بالحسنة ، والفرح بالمصيبة من أعظم ما يدلّ على أنهم في العداوة قد بلغوا إلى الغاية ، ومعنى { تَوَلَّوْاْ } رجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع ، ومواطن التحدّث حال كونهم فرحين بالمصيبة التي أصابت المؤمنين ، ومعنى قولهم { قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ } أي احتطنا لأنفسنا ، وأخذنا بالحزم ، فلم نخرج إلى القتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم ما نالهم من المصيبة . ثم لما قالوا هذا القول أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عليهم بقوله { لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } أي في اللوح المحفوظ ، أو في كتابه المنزّل علينا ، وفائدة هذا الجواب أن الإنسان إذا علم أن ما قدّره الله كائن ، وأن كل ما ناله من خير أو شرّ إنما هو بقدر الله وقضائه ، هانت عليه المصائب ، ولم يجد مرارة شماتة الأعداء وتشفي الحسدة { هُوَ مَوْلَـٰنَا } أي ناصرنا وجاعل العاقبة لنا ، ومظهر دينه على جميع الأديان ، والتوكل على الله تفويض الأمور إليه والمعنى أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم مختصاً بالله سبحانه ، لا يتوكلون على غيره . وقرأ طلحة بن مصرف " يصيبنا " بتشديد الياء . وقرأ أعين قاضي الري « يصيبنا » بنون مشدّدة . وهو لحن لان الخبر لا يؤكد . وردّ بمثل قوله تعالى { هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } الحج 15 . وقال الزجاج معناه لا يصيبنا إلا ما اختصنا الله من النصرة عليكم أو الشهادة . وعلى هذا القول يكون قوله { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } تكريراً لغرض التأكيد ، والأوّل أولى حتى يكون كل واحد من الجوابين اللذين أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عليهم بهما مفيداً لفائدة غير فائدة الآخر ، والتأسيس خير من التأكيد . ومعنى { هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخصلتين الحسنيين إما النصرة أو الشهادة ، وكلاهما مما يحسن لدينا ، والحسنى تأنيث الأحسن ، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى المساءتين لكم إما { أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ } أي قارعة نازلة من السماء ، فيسحتكم بعذابه ، { أَوْ } بعذاب لكم { بِأَيْدِينَا } أي بإظهار الله لنا عليكم بالقتل والأسر والنهب والسبي . والفاء في { فتربصوا } فصيحة ، والأمر للتهديد كما في قوله { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } الدخان 49 أي تربصوا بنا ما ذكرنا من عاقبتنا فنحن معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، فستنظرون عند ذلك ما يسرّنا ويسوؤكم . وقرأ البزي وابن فليح « هل تربصون » بإظهار اللام وتشديد التاء . وقرأ الكوفيون بإدغام اللام في التاء . وقرأ الباقون بإظهار اللام وتخفيف التاء . قوله { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } هذا الأمر معناه الشرط والجزاء ، لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم . والتقدير إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم وقيل هو أمر في معنى الخبر أي أنفقتم طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم ، فهو كقوله { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } التوبة 80 وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول ، وانتصاب طوعاً أو كرهاً على الحال ، فهما مصدران في موقع المشتقين أي أنفقوا طائعين من غير أمر من الله ورسوله ، أو مكرهين بأمر منهما . وسمي الأمر منهما إكراهاً لأنهم منافقون لا يأتمرون بالأمر . فكانوا بأمرهم الذي لا يأتمرون به كالمكرهين على الإنفاق ، أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو مكرهين منهم ، وجملة { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَـٰسِقِينَ } تعليل لعدم قبول إنفاقهم ، والفسق التمرّد والعتوّ ، وقد سبق بيانه لغة وشرعاً . ثم بين سبحانه السبب المانع من قبول نفقاتهم فقال { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـٰتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } أي كفرهم بالله وبرسوله جعل المانع من القبول ثلاثة أمور الأوّل الكفر ، الثاني أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً ، فصلاتهم ليست إلا رياء للناس وتظهراً بالإسلام الذي يبطنون خلافه ، والثالث أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون ، ولا ينفقونها طوعاً لأنهم يعدّون إنفاقها وضعا لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله . قوله { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ } الإعجاب بالشيء أن يسرّ به سروراً راض به متعجب من حسنه ، قيل مع نوع من الافتخار ، واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه . والمعنى لا تستحسن ما معهم من الأموال والأولاد { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } بما يحصل معهم من الغمّ والحزن عند أن يغنمها المسلمون ، ويأخذوها قسراً من أيديهم مع كونها زينة حياتهم وقرّة أعينهم ، وكذا في الآخرة يعذبهم بعذاب النار بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك ، وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها ، والتصدق بما يحق التصدق به . وقيل في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة لأنهم منافقون ، فهم ينفقون كارهين ، فيعذبون بما ينفقون . قوله { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ } الزهوق الخروج بصعوبة ، والمعنى أن الله يريد أن تزهق أنفسهم وتخرج أرواحهم حال كفرهم لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء وأرسلت به الرسل ، وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة . ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين ، فقال { وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } أي من جملتكم في دين الإسلام ، والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكتاب الله سبحانه { وَمَا هُم مّنكُمْ } في ذلك إلا بمجرّد ظواهرهم دون بواطنهم { وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } أي يخافون أن ينزل بهم ما نزل بالمشركين من القتل والسبي ، فيظهرون لكم الإسلام تقية منهم لا عن حقيقة { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ } يلتجئون إليه ويحفظون نفوسهم فيه منكم من حصن أو غيره { أَوْ مَغَـٰرَاتٍ } جمع مغارة من غار يغير . قال الأخفش ويجوز أن يكون من أغار يغير ، والمغارات الغيران والسراديب ، وهي المواضع التي يستتر فيها ، ومنه غار الماء وغارت العين والمعنى لو وجدوا أمكنة يغيبون فيها أشخاصهم هرباً منكم { أَوْ مُدَّخَلاً } من الدخول أي مكاناً يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات . قال النحاس الأصل فيه متدخل قلبت التاء دالاً ، وقيل أصله مدتخل . وقرأ أبيّ « متدخلاً » وروى عنه أنه قرا « مندخلا » بالنون . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن « أو مدخلاً » بفتح الميم وإسكان الدال . قال الزجاج ويقرأ « أو مدخلاً » بضم الميم وإسكان الدال . وقرأ الباقون بتشديد الدال مع ضم الميم { لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ } أي لالتجئوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه والحال أنـهم { يَجْمَحُون } أي يسرعون إسراعاً لا يردّهم شيء ، من جمح الفرس إذا لم يردّه اللجام ، ومنه قول الشاعر @ سبوح جموح وإحضارها كمعمعة السعف الموقد @@ والمعنى لو وجدوا شيئاً من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هرباً من المسلمين . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن جابر بن عبد الله ، قال جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء يقولون إن محمداً وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا ، فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبيّ وأصحابه ، فساءهم ذلك فأنزل الله { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } الآية . وأخرج سنيد ، وابن جرير ، عن ابن عباس { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } يقول إن يصبك في سفرك هذه الغزوة - تبوك - حسنة تسؤهم قال الجد وأصحابه ، يعني الجد بن قيس . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } قال إلا ما قضى الله لنا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال { هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } قال فتح أو شهادة . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج ، في قوله { أَوْ بِأَيْدِينَا } قال القتل بالسيوف . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، قال قال الجد بن قيس إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ولكن أعينك بمالي ، قال ففيه نزلت { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } الآية . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوٰلُهُمْ } قال هذه من تقاديم الكلام ، يقول لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، قال إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ } قال تزهق أنفسهم في الحياة الدنيا { وَهُمْ كَـٰفِرُونَ } قال هذه آية فيها تقديم وتأخير . وأخرج أبو حاتم ، وأبو الشيخ عن الضحاك ، في قوله { فَلاَ تُعْجِبْكَ } يقول لا يغرنك { وَتَزْهَقَ } قال تخرج أنفسهم ، قال في الدنيا وهم كافرون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ } الآية قال الملجأ الحرز في الجبال ، والمغارات الغيران ، والمدّخل السرب . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ { وَهُمْ يَجْمَحُونَ } قال يسرعون .